استرق النظر من وراء الستارة. وجد القاعة ممتلئة بالمتفرجين. انتابته نشوة. ملأ رئتيه بنفس طويل واقتحم الركح منتفخ الصدر. فجأة تقوس ظهره. القاعة فارغة؟! لم يصدّق. أغمض عينيه ودعكهما بقوة. فتح عينيه من جديد. القاعة فارغة! تراجع خلف الستارة. استرق النظر مرّة أخري. تقدم إلي الركح. دعك عينيه من جديد. عاد يدقق النظر في القاعة لم يتغيّر شيء القاعة كما هي فارغة. سمع هاتفا غامضا:اممثل فاشل.. أنت فاشل.. (هل ما سمعه هو صوت حقيقيّ أم هو صدي في رأسه). سرت في جسده قشعريرة. شعر بثقل في قدميه. غادر خشبة المسرح مجرجرا ساقيه. دخل غرفة الملابس. انهار علي الكرسيّ. نظر إلي وجهه الطفولي في المرآة. كان حزينا. تناول قطعة من القطن ومسح من علي جبينه العرق البارد. وخاطب وجهه:دائما تتوهم أن القاعة تعج بالجماهير. مازلت مسكينا. تعتقد أنهم يهتمون بهذا البراز الذي تقدّمه. أخذ قطعة أخري من القطن وغمسها في سائل وبدأ في محو ملامح وجهه. لفظته بناية المسرح إلي الشارع بقسوة. لتتقاذفه الأرصفة. ضرط ضرطات قوية متتالية. وهو يزرّر معطفه الطويل الذي يصل إلي كعبي قدميه. ورفع ياقتيه حتي غطت أذنيه بالكامل. كان طرفا المعطف أطول من ذراعيه. بدا ضئيلا كالفأر داخل المعطف الواسع. جرّر ساقيه في اتجاه "المايسترو". دخل الحانة مضطرب الخطي. هزّ رأسه الصغير الغائر بين كتفيه باحثا عن طاولة شاغرة. التقت عيناه بعينيْ النادل الذي نظر في ساعته اليدوية ثم ابتسم ابتسامة ماكرة وساخرة. أشار إليه النادل بإصبعه في اتجاه ركن فيه طاولة فارغة. اتجه إلي ذلك الركن القصيّ سحب الكرسيّ وجلس. اتكأ بمرفقه علي الطاولة واضعا ذقنه المدبب بين الإبهام والسبابة وهام مع دخان سجائر رواد الحانة. تأمّل كفّه الصغيرة بأصابع قصيرة. وضع له النادل قارورتين من البيرة علي الطاولة مبتسما له تلك الابتسامة الساخرة. مرحبا بك يا فنان . ثم ناوله سيجارة قائلا: هذه السيجارة أشعلتها لك خصيصا لتعدل دماغك. احترقت السيجارة بين إصبعيه دون أن يسحب نفسا. كانت شفتاه منشغلتين بمصّ فوهات قوارير البيرة. رفع رأسه إلي السقف. كانت به كرة بيضاء تبعث نورا. زاغ بصره في النور الأبيض. ظهر منه وجه شيخ بشعر ولحية بيضاء بملامح اغريقية همس الا تحزن إني معك.. أنت تقدم مسرحا هادفا. لا تيأس. راحت البيرة تجري في جوفه دون مستقرّ. شعر بخفّة أطرافه.قفز فوق الطاولة بقامته القصيرة النحيفة. وراح يتجلّي بكل انتشاء: "أنا الذي نظَرَ الأعمي إلي أدبي ... وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ به صَمَمُ الخيلُ و الليلُ و البيداءُ تعرفني ... والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ و القلمُ". ضجّت الحانة بروّادها الساخطين المحتجين. أنزلوه من فوق الطاولة ورموه خارج الحانة. تونس