«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة لحظات المجد
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 02 - 2015

اسمها "وانجيرو"، إلا أنها تحب اسمها المسيحي "بياترس"، فوقعه أكثر سحراً وجمالاً. لم تكن جميلة، ولا يمكن اعتبارها دميمة أيضاً. جسدها مصبوب، إلا أنه يفتقر إلي الروح. كانت تعمل في البارات؛ حيث يُغرق الناس أحزانهم في البيرة. لا يشعر بوجودها أحد إلا حين ينادي عليها صاحب البار أو زبون نفذ صبره: "بياترس". يرفع الزبائن رؤوسهم ليروا صاحبة الاسم الجميل، ولا يجدون أحداً فيعودون إلي الكؤوس والنكات والضحكات الصاخبة والتحرش بالنادلات الأخريات.
هي طائر جُرح أثناء طيرانه، واضطر للهبوط أرضاً، ومع ذلك يتقافز من مكان لمكان. لذلك قد تراها في كل بارات مدينة "ليمورو". أحياناً يري صاحب البار أحدها لا تجذب الزبائن فيطردها دون أن يعطيها أجرها؛ فتقفز إلي البار التالي. وأحياناً تمل من العمل في مكان واحد؛ حيث تتكرر نفس المشاهد والمواقف. بعد موعد إغلاق البار، يتشاجر الزبائن علي فتيات أقل منها جمالاً. تسأل نفسها وقد ضربها الإحباط: ماذا لديهن أكثر مني؟
تتخيل باراً بحجم مملكة، تكون هي أحد حكامه علي الأقل، يقدم لها المُتملقون كؤوساً من البيرة، ويبتسمون لها ابتسامات إحباط، ويوجهون لها شتائم تنم عن شهوة وعشق، لا كراهية.
غادرت مدينة "ليمورو" لتجرب حظها في مدن مجاورة. عملت في "نجاراريجا"، و"كاميرثو"، و"ريروني"، وحتي في "تيكانو"، إلا أن الحال لم يتغير. قد تحظي بزبون من حين لآخر، إلا أن أحداً لا يهتم بها كما تتمني، أو يرغبها لدرجة القتال من أجلها. لقد كان الزبون يختارها إن لم يجد غيرها، أو يختارها بعد الزجاجة الخامسة. وفي اليوم التالي، يتظاهر أنه لا يعرفها، ويحاول أن يُجرب سطوة نقوده مع فتيات لهن عدد كبير من المُعجبين.
كانت تشعر بالاستياء من هذا، وكانت تري في كل فتاة خصماً لها، وتتعامل معهن بغضب. اعتبرت "نيجوثي"، علي نحو خاص، شوكة مغروسة في جرحها المفتوح؛ لأنها متغطرسة وتحب العزلة، والرجال يحومون حولها رغم أنها تنهرهم. يقدمون لها الهدايا فتقبلها كأنها أحد حقوقها. تبدو "نيجوثي" قلقة وشاردة، ومع ذلك يتعلق بها الرجال، وكأنهم يستمتعون بكلماتها اللاذعة، وشفتيها المتماوجتين، وعينيها الشاردتين، وإحساسها بأنها حرة. "نيجوثي" طائر مُحلق، لا يقبل الاستقرار في مكان واحد، لأنها تتوق إلي التغيير والحياة المثيرة.. تبحث عن وجوه جديدة، عن أرض جديدة تحقق فيها انتصارات جديدة. تكرهها "بياترس"، تكره ظلها حتي، وتري فيها ما تمنت أن تكونه؛ فتاة منغمسة في عالم البارات والعنف والجنس، وفي ذات الوقت منفصلة عنه تماماً. ظل "نيجوثي" يُلاحق "بياترس" أينما ذهبت.
هربت من "ليمورو" إلي "إلموروج" في مقاطعة "شيري". كانت "إلموروج" في الماضي قرية أشباح. إلا أن الحياة دبت فيها من جديد بفضل "نيانجيندو"؛ تلك المرأة الأسطورية التي تحترمها كل فرق البوب، ومن أجلها غني المطرب والراقص الشاب "موثوو": حين غادرت نيروبي متجهاً إلي "إلموروج"، لم أكن أعلم أن قلبي سيهوي الجميلة "نيانجيندو".
أصبحت المدينة أملاً لمن سحقتهم الدنيا، فهناك يجدون ما يتوقون إليه. إلا أن "نيجوثي" تبعتها إلي هناك.
اكتشفت أن"إلموروج" لا تختلف عن "ليمورو"، رغم الأساطير والغناء والرقص. جربت العديد من الحيل، إلا أنها لم تكسب ما يكفي لشراء فستان براق. فما قيمة خمس وسبعين شلناً في الشهر بخلاف بدل السكن، ودون صديق ذو دخل ثابت؟ وفي تلك الأثناء، وصل كريم تفتيح البشرة "آمبي" إلي "ألموروج"، واعتقدت "بياترس" أن فيه الحل. ألم تعرف بنفسها فتيات لهن بشرة أكثر دكنة من بشرتها، تحولن من داعرات إلي نجمات لهن بشرة بيضاء بلمسة واحدة من كريمات تفتيح البشرة؟ يغمز لهن الرجال، ويتحدثون بفخر عن صديقاتهن البيضاوات. اعتقدت "بياترس" أن الرجال مخلوقات غريبة؛ يكرهون كريمات تفتيح البشرة والشعر المُستعار والشعر المفرود، ومع ذلك يذهبون إلي الفتيات اللاتي تستخدمن الكريمات وترتدين الشعر المُستعار ويُقلدن الأوروبيات والهنديات. لم تحاول "بياترس" أن تجد سبب كراهية السود للون بشرتهم، وقبلت هذا التناقض ببساطة، واستخدمت كريم تفتيح البشرة؛ كان عليها أن تمحو عارها الأسود. ولكن لا يمكنها تحمل نفقات استخدام الكثير من الكريم؛ يمكنها دهان وجهها وذراعيها فقط، وتظل رقبتها وساقيها بلونهم الأسود. كما أن هناك مناطق لا تستطيع دهانها مثل خلف الأذن وفوق الجفون، وسوف تشعر بالعار والقلق من جسدها المدهون بكريم "آمبي".
ستحتفظ بذكري مرحلة "آمبي" كأكثر لحظات حياتها إذلالاً، قبل أن تعيش لحظات المجد بعد ذلك. عملت في بار وفندق "ضوء النجوم". تقف "نيجوثي" خلف طاولة الحساب بالكثير من الأساور حول معصميها، وقرطين كبيرين يتدليان من أذنيها. كان صاحب البار طيب القلب، يذهب إلي الكنيسة بانتظام، ويتبرع للأعمال الخيرية. له كرش كبير وشعر أشيب وصوت ناعم، كما يعرفه الجميع في "إلموروج"، ومع ذلك يعمل بجد ولا يغادر المكان سوي وقت الإغلاق، أو بالأحري حين تغادر "نيجوثي". لم يكن يهتم بفتاة غيرها، يحوم حولها باستمرار، ويقدم لها الهدايا دون عرفان منها. وعود فقط، وأمل في الغد فقط. كان يعطي الفتيات الأخريات ثمانين شلناً في الشهر.
منح "نيجوثي" غرفة وحدها، وكانت تستيقظ وقتما تريد. الفتيات الأخريات يستيقظن في الخامسة صباحاً، ويصنعن الشاي للنزلاء ويقمن بتنظيف الأكواب والأواني قبل أن يتجهن إلي البار. يأخذن استراحة في الثانية ظهراً، ويعدن للعمل في الخامسة لاستقبال الزبائن. يُقدمن لهم البيرة والابتسامات بحماس حتي منتصف الليل. وما كان يغضب "بياترس" كثيراً، رغم عدم أهميته بالنسبة لها، هو إصرار صاحب البار علي نوم الفتيات في الفندق حتي لا يتأخرن علي العمل في الصباح. كان يريد أجسادهن لجذب نزلاء جدد للفندق. أغلب الفتيات رفضن، وقدمن رشوة للحارس حتي يسمح لهن بالدخول والخروج ليقابلن زبائنهن أو أصدقائهن في أماكن أخري يشعرن فيها بالحرية. كانت "بياترس" تنام في الفندق دائماً، فزبائنها العابرون يرغبون في إنفاق أقل قدر من المال. وذات ليلة، اقترب منها صاحب البار بعد أن رفضته "نيجوثي"، وبدأ يبحث عن أخطاء في عملها، ويوجه لها السباب، ثم بدأ يغازلها فجأة بطريقة فظة. جذبها بقوة، وحاول احتضانها. شعرت باشمئزاز من الرجل، لا يمكنها أن تقبل ما رفضته "نيجوثي" للتو. سألت نفسها: "ماذا لديها وليس لدي؟" أذل الرجل نفسه أمامها، ووعدها بالهدايا ومع ذلك لم تسلم نفسها له. خرقت القانون في تلك الليلة، وقفزت من النافذة. بحثت لنفسها عن سرير في فندق آخر، وعادت في السادسة صباحاً. نادي عليها صاحب البار وطردها أمام الجميع.
ظلت شهراً بلا عمل، وتنقلت من غرفة إلي أخري تحت رحمة الفتيات الأخريات. لم ترغب في السفر إلي مدينة جديدة لتبدأ من جديد. الجرح مؤلم. كما سئمت من الترحال. توقفت عن استخدام كريم "آمبي"، فلم يعد لديها مال. نظرت في المرآة، تقدم بها العمر بعد عام واحد من طردها من النعمة. لديها رعب من العشاق ومقايضة جسدها بالمال صعب المنال. أرادت عملاً لائقاً ورجلاً يحنو عليها، أو ربما عدة رجال. ربما اصطحبت رغبتها في رجل ومنزل وأطفال معها إلي السرير، هذا التوق الذي يخيف الرجال الذين يريدون أشياء أخري من عاملة في بار. بكت طوال الليل، وتذكرت موطنها. في تلك اللحظات، تبدو قرية أمها في "نيي"،أجمل بقعة فوق أرض الرب. كان بإمكانها العيش كأبويها الفلاحين، بأوهام رومانسية، وسلام وانسجام. راودها شوق إلي العودة لرؤيتهما، ولكن كيف ستعود بيدين فارغتين؟ في كل الأحوال، لم تعد القرية سوي مشهد بعيد في ذاكرتها. حياتها أصبحت هنا، في البار، بين حشد من الغرباء التائهين، المطرودين من النعمة. لم تعد من الجيل إلي ينتمي إلي الأرض والمحاصيل والرياح والقمر. لم يعد من حقها الرقص وممارسة الجنس تحت ضوء القمر، حيث تعانق التلال السماء. تذكرت فتاة من قريتها، انتحرت رغم حياتها الرغدة في بيت رجل ثري. أصبح موت الفتاة نكتة، فقد قال الناس إن حياتها كانت متزنة وخالية من الألم. حاولت "بياترس" أن تعيش حياة متزنة، إلا أنها لم تستطيع.
كانت تريد الحب، كانت تريد الحياة.
تم افتتاح بار جديد في "إلموروج"، بار وفندق ومطعم، يحمل اسم "قمة الشجرة". يتكون المبني من طوابق متعددة. يوجد مقهي في الطابق الأرضي، وبار في الطابق الثاني، وبقية الغرف لنزلاء الخمس دقائق أو الليلة الواحدة. صاحب البار موظف متقاعد مازال يمارس السياسة. كان فاحش الثراء، ويمتلك العديد من المشروعات في كل مدن كينيا. جاء زبائن أثرياء إلي البار من جميع أنحاء البلاد. أثرياء في سيارات فارهة، يغفو فيها السائق من الملل. يأتي آخرون ليسوا بنفس الثراء ليقدموا الاحترام للأثرياء. يتحدثون غالباً في السياسة، وحول أعمالهم، ويثرثرون عن من حصل علي ترقية، ومن طُرد من عمله، ومن اختلس من أموال الدولة. كانوا يتناقشون ويتجادلون وأحياناً يتعاركون بالأيدي، خاصة وقت الحملات الانتخابية. الأمر الوحيد الذي اتفقوا بشأنه كان أن قبيلة "لو" هي سبب كل المشاكل في كينيا، وأن طلاب الجامعة والمثقفون يعيشون في أبراج عاجية، وأن العمال الأفارقة كسالي. وبخلاف ذلك، يمدح كل شخص ذاته، أو يشكو أحواله. وحين يستبد السكر بأحدهم، قد يطلب زجاجتي بيرة لكل شخص في البار. وحتي فقراء المدينة يأتون إلي البار طمعاً في مثل هذه الهبات التي يوزعها محدثو النعمة..
حصلت "بياترس" علي وظيفة عاملة نظافة. شعرت لعدة أسابيع أنها تقترب من العظمة، إنها ترتب السرير لشخصيات كانت تسمع عنها فقط. كما راقبت طريقة الفقراء في التشبه بالأغنياء. ورأت الفتيات يتدفقن علي البار الجديد، فتيات عرفتهن من قبل في "ليمورو"، وأغلبهن ارتبطن بواحد أو أكثر من الأثرياء، وأحياناً كن يتهربن من العشاق. وجاءت "نيجوثي" لتجلس خلف طاولة الحساب، تتعلق بها عيون الفقراء والأثرياء. وهي كما هي بعينيها الواسعتين، والأساور حول معصميها، والقرطان يتدليان من أذنيها، ونفس الملل والحياد. بينما "بياترس" عاملة نظافة، توارت عن الأنظار أكثر من ذي قبل، وأصبحت الفتيات اللاتي ابتسم لهن الحظ تحتقرنها.
حاربت الحياة بالأحلام. بين تغيير المفارش التي شهدت صراعات الخمس دقائق؛ والتي تنتهي غالباً بصرخة مكتومة، كانت تقف في النافذة، تتطلع إلي السيارات والسائقين، حتي عرفت صاحب كل سيارة وأرقام السيارات، وأزياء السائقين. حلمت بعشاق يأتون إليها في سيارات مرسيدس مكشوفة. تري نفسها وهي تمسك يد عشيقها، وهما يسيران معاً في شوارع "نيروبي" و"مومباسا"، بخطوات رشيقة، ثم تتوقف فجأة أمام نافذة عرض، وتقول: "حبيبي، هل يمكن أن تشتري لي هذه، وهذه، وتلك؟ يسأل بغضب مصطنع: "تريدين شراء ماذا؟"، أريد شراء تلك الجوارب. تفكر في أنها لن تصلح جواربها الممزقة بعد الآن، ولن تقترض جوارب من أحد. لديها جوارب كثيرة، ولديها شعر مستعار بكل الألوان، شعر أصفر وأحمر وأسود، لديها كل أنواع الشعر المستعار في العالم، يتغني العالم بجمال "بياترس" المتفردة في مثل تلك اللحظات، تشعر بالبهجة إلي حد الطيران عن الأرض في مثل تلك اللحظات، لا تصير خادمة تغير مفارش الأسرة لعشق يدوم خمس دقائق، في مثل تلك اللحظات، بل "بياترس" سليلة "وانجو ماكيري"، التي تجعل الرجال يرتجفون من الرغبة عندما يرون جسدها العاري وهي تستحم في ضوء القمر. "بياترس"، ابنة "نيانجيندو"، مؤسسة المدينة والقادرة علي إنهاك عدة رجال.
ثم رأته في الحقيقة، كان يختلف تماماً عن عشيقها في الأحلام. جاء يوم سبت يقود شاحنة كبيرة، ركنها بحرص إلي جوار السيارات الفارهة. كان يرتدي سترة رمادية واسعة، فوقها معطف عسكري ثقيل. خلع المعطف وطواه بحرص، ثم وضعه علي المقعد الأمامي. أغلق باب السيارة، ونفض الغبار عن سترته ودار حول الشاحنة ليتفحصها. ألقي عليها نظرة أخيرة وهو في طريقه إلي البار. جلس في أحد الأركان وطلب زجاجة "كينا" بصوت مرتفع، وشربها في جرعة واحدة، نظر حوله بحثاً عن شخص يعرفه. وبالفعل تعرف علي أحد الأثرياء، وطلب له نصف زجاجة خمر غالية. تم قبولها بهزة رأس وابتسامة مُتعالية، وحين حاول أن يتبع كرمه بحوار تم تجاهله بحزم. تجمد مكانه، وغرق في كأس المارتيني لبعض الوقت. حاول من جديد، فواجه تجهماً. كانت محاولات انضمامه إليهم تثير الرثاء، كان يضحك علي النكات بصوت مرتفع، فيتوقف الأثرياء عن الضحك ليتركوه يضحك وحده. وفي المساء، نهض وأخرج عدة مئات من الشلنات وقدمها إلي "نيجوثي" خلف منضدة الحساب، بافتعال. تهامس الناس، وضحك بعضهم، وتأثر البعض بما فعل، إلا أن هذا لم يكسبه اعترافاً من الأثرياء. ترنح باتجاه الغرفة رقم سبعة، التي استأجرها. ناولته "بياترس" المفاتيح. ألقي عليها نظرة عابرة، ثم فقد اهتمامه بها.
أصبح يأتي كل سبت في الخامسة، حين يكون الأثرياء قد حضروا بالفعل، ويكرر نفس الطقوس عدا التظاهر عند دفع الحساب. وفي كل مرة يتلقي نفس الهزيمة. كان يجلس في نفس الركن، ويستأجر الغرفة رقم سبعة. بدأت "بياترس" تنتظر حضوره، فبعد أن يتعرض للإذلال علي يد الأثرياء، كان يستبقيها ويتحدث إليها، أو يتحدث لنفسه في وجودها. كانت حياته صعبة، لم يذهب إلي مدرسة ومع ذلك كان طموحه الحصول علي بعض التعليم. كان والده مالك أرض في المنطقة التي يستقر فيها الأوروبيون، وكان هذا شأن عظيم أيام الاستعمار، لكنه كان يعني أيضاً أن يكدح الرجل وأولاده في خدمة الأسياد الأوروبيون وأولادهم. انضم إلي النضال من أجل الحرية، وتعرض للاعتقال، وخرج من المُعتقل كما ولدته أمه. لا يملك شيئاً. وبعد التحرير، لم يكن لديه تعليم يؤهله لمكانة لائقة بين الكبار. كافح حتي أصبح سائقاً ينقل الخضراوات من الريف إلي "نيروبي"، وكان فخوراً بما حقق من إنجاز، إلا أنه يشعر بالاستياء لأن من أصبحوا أثرياء بفضل القروض والتعليم المجاني، لا يقدرونه حق قدره. تحدث عن الفرص التي سيتيحها لأولاده، ثم عد نقوده بحرص ووضعها تحت الوسادة، وطلب من "بياترس" أن تنصرف. كان يعتبر النساء علي التهام أموال الرجال، رغم أنه لم يتزوج بعد.
ضاجعها ذات ليلة. وفي الصباح، أعطاها عشرين شلناً. قبلت المال وهي تحس بالذنب. كرر ما فعل عدة أسابيع. لم ترفض المال، فهو مفيد. إلا أنه كان يدفع لها كما يدفع ليحصل علي كيلو بطاطس. إنه يدفع ليشتري إنصاتها له ولشكواه من الأثرياء. بمرور الوقت ملت ذاته المُتضخمة، وأحست أن بداخله نار موقدة، أو بذرة، أو زهرة تختنق. ورأت فيه ضحية مثلها، وأصبحت تنتظر زيارته بلهفة، وتتوق إلي شخص تتحدث إليه، شخص يفهمها.
فعلت هذا ذات ليلة، قاطعت قصة صعوبة وصوله إلي القمة فجأة. لم تعرف لماذا قاطعته، ربما كان السبب صوت انهمار المطر علي حديد النافذة، وما سببه من حياد دافئ. قد يستمع إليها، عليه أن يستمع إليها. جاءت من قرية "كاراتينا"، قتل الجنود البريطانيون أخويها بالرصاص، ومات أخوها الثالث في المُعتقل. لقد كانت طفلة وحيدة لأبوين فقيرين، إلا أنهما كانا كدحان حتي يدبران لها مصاريف المدرسة الابتدائية. اجتهدت في السنوات الست الأولي، ولم تحصل في السنة السابعة علي درجة جيدة. وبالطبع تعرف زميلات حصلن علي نفس الدرجة، والتحقن بمدارس ثانوية حكومية جيدة. وتعرف زميلات حصلن علي درجات أقل، والتحقن بأفضل المدارس بفضل نفوذ عائلاتهن. لم تجد لها مكاناً في مدرسة بمصاريف رخيصة، فبقيت في المنزل مع أبويها، تساعد في الأعمال المنزلية. ولكن تخيل: لقد عاشت لست سنوات مع أبويها بمنطق مختلف عن منطقهما. حياة الريف مملة. بدأت تبحث عن عمل في القرية، وفي مدينة "نيري". كانوا يسألون نفس الأسئلة: أي عمل تريدين؟ ما هي خبرتك؟ هل تجيدين الكتابة علي الآلة الكاتبة؟ هل تعرفين طريقة الاختزال في الكتابة؟ أصابها الإحباط. وحدث أن كانت تشرب "فانتا" في أحد المحال في "نيري"، والدموع تسيل من عينيها، حين التقت شاباً يرتدي بدلة ويضع علي عينيه نظارة شمسية. لاحظ أنها في محنة فتحدث إليها: هل تبحثين عن عمل؟ إنه أمر بسيط. فرص العمل كثيرة في المدن الكبيرة. كان يود مساعدتها بالطبع. كيف تذهب؟ لديه سيارة "بيجو" بيضاء. الجنة. رحلة رائعة بالسيارة، وعود معسولة. نيروبي. توقف بالسيارة أمام بار "تيراس". شربا بيرة وتحدثا عن نيروبي. تري عبر النافذة أضواء النيون، وتعرف أن هناك أمل في هذه المدينة. سلمت نفسها له في تلك الليلة، بسبب وعوده المعسولة. نامت بعمق في تلك الليلة، ولم تجده في الصباح، ولم تقابله مرة أخري. وهكذا بدأت حياتها كعاملة بار. ولم تقابل أبويها منذ عام ونصف. بدأت "بياترس" تنتحب، وتبكي حالها. تعرضها للإذلال وترحالها الدائم مازالا ماثلين في مخيلتها. لم تنسجم مع أجواء البارات، واعتقدت أنها ستصادف شيئاً أفضل، إلا أنها وقعت في فخ، فهي لا تعرف غير هذه الحياة، رغم أنها لا تعرف كل قوانينها وأعرافها. أخذت تتنفس بصعوبة، والدموع تنهمر، ثم تجمدت فجأة، كان الرجل قد غطي نفسه ونام منذ وقت طويل، ويغط الآن في النوم بشكل واضح.
شعرت بفراغ غريب، ومرارة متراكمة تنشطر بداخلها. أرادت أن تبكي فشلها الجديد. لقد قابلت العديد من الرجال الذين عاملوها بقسوة أو سخروا منها، لما اعتبروه محاولة مكشوفة لادعاء البراءة. تقبلت تلك المهانة من قبل، ولكن ليس بهذه الطريقة، ليس بهذه الطريقة يا إلهي. ألم يكن هذا الرجل ضحية مثلها؟ ألا يُفضي أليها بألمه كل سبت؟ لقد دفع لها مقابل خدماتها الإنسانية، كما دفع لها ثمن قضاء الليل معها.
دفعها نومه الهادئ إلي الجنون. انفجر بداخلها شيء علي نحو مفاجئ. توجه كل الغضب والإذلال الذي تعرضت له طوال عام ونصف ضد هذا الرجل. وما قامت به بعد ذلك، اتسم بدقة اليد الخبيرة.
لمست عينيه. كان في سبات عميق. رفعت رأسه، وتركتها تسقط. عيناها باردان، ثابتتان، وبلا دموع. سحبت الوسادة من تحته وفتشتها، وأخذت النقود ووضعتها في حمالة صدرها.
خرجت من الغرفة رقم سبعة. المطر ما زال ينهمر في الخارج. لم ترغب في العودة إلي مكانها. لن تحتمل ضيق الغرفة أو ثرثرة زميلتها. سارت في المطر والطين حتي وصلت إلي غرفة "نيجوثي"؛ وطرقت الباب، ولم تسمع رداً في البداية، ثم سمعت صوت "نيجوثي" النائم يعلو علي صوت زخات المطر.
من الطارق؟
أنا، افتحي من فضلك.
من؟
بياترس
في مثل هذه الساعة من الليل؟
من فضلك.
أضاءت النور، وأزاحت المزلاج، وفتحت الباب. دخلت "بياترس". وقفت أمام "نيجوثي"، التي كانت ترتدي قميص نوم شفاف، ووضعت معطفاً علي كتفيها.
سألتها في النهاية بصوت تعلوه نبرة قلق: "هل هناك مشكلة يا بياترس؟". قالت "بياترس" بصوت واثق: "هل يمكن أن أستريح لديك لبعض الوقت؟ أنا متعبة، وأود التحدث أليكِ".
"ولكن، ماذا حدث؟"
"أود أن أوجه إليك سؤلاً، يا نيجوثي".
كانتا تقفان حتي تلك اللحظة، ثم جلستا معاً علي السرير.
سألتها "بياترس": "لماذا تركت منزلك يا نيجوثي؟". ساد الصمت مرة أخري، يبدو أن "بيجوثي" كانت تفكر في السؤال، بينما "بياترس" تنتظر الإجابة. خرج صوت "نيجوثي" مرتبكاً: إنها قصة طويلة. كان أبي وأمي ثريان، وملتزمان دينياً. كنا نعيش وفق أعراف محددة، لا ينبغي التحدث مع الوثنيين، لا يجب ارتداء نفس ملابسهم، لا يجب الرقص. هناك قوانين وقواعد تحدد متي وأين وكيف تأكلين. عليك المشي كامرأة مسيحية، ولا يجب أن يراكِ أحد مع الأولاد. قواعد وقوانين، لكل شيء. وذات يوم، بدلاً من العودة من المدرسة إلي المنزل، هربت أنا وفتاة لها نفس ظروفي. لم أعد إلي المنزل منذ أربعة أعوام. هذه هي الحكاية.
صمت جديد. نظرت كل واحدة إلي الأخري بتفهم.
"سؤال آخر يا نيجوثي، يمكن ألا تجيبي عليه. أظن دائماَ أنك تكرهينني وتحتقرينني".
"لا يا بياترس، لا. لم أكرهك أبداً. لم أكره أحداً علي الإطلاق. سبب هذا أنني لا أهتم بشيء. حتي الرجال لا يثيرون اهتمامي. ومع ذلك، أحتاج إلي الإثارة والاستمتاع دوماً. أريد اهتمام تلك العيون المتملقة كي أشعر بذاتي، ذاتي. أما أنت، أنت في نظري أكبر من هذا.. لديك شيء ليس لدي.
حاولت "بياترس" أن تحبس دموع عينيها بصعوبة.
في الصباح الباكر، استقلت حافلة متجهة إلي "نيروبي". تمشت في شارع "بازار" بحثاً عن المحال التجارية، ثم دخلت شارع "الحكومة"، وميدان "كينياتا"، وشارع "كيماثي". دخلت أحد المحال بقرب شارع "حسين سليماني"، واشترت منه عدة جوارب، وارتدت واحداً منها. اشترت فستاناً بعد ذلك، وارتدته بدل القديم. دخلت محل "باتا" واشترت حذاءً بكعب عالٍ، لبسته وألقت بالقديم في القمامة. اشترت لنفسها قرطاً واتجهت نحو مرآة لتري شكلها الجديد. شعرت بالجوع فجأة، كأنها لم تأكل طوال حياتها. ترددت في دخول مطعم فخم، تمشت قليلاً ثم دخلت مطعم "فرانزي". في عينيها وميض شد عيون الرجال إليها. اختارت طاولة عند الزاوية وطلبت كاري هندي. ترك رجل طاولته واتجه إليها. نظرت إليه وفي عينيها سعادة. كان يرتدي بدلة سوداء والرغبة تطل من عينيه. طلب لها مشروباً، وحاول أن يفتح معها حواراً، إلا أنها تناولت الطعام في صمت. مد يده أسفل المنضدة وتحسس ركبتها. تركته يفعل ذلك. صعدت اليد إلي أعلي فوق فخذها. نهضت فجأة وتركت بقية الطعام والمشروب وخرجت من المطعم. تبعها. عرفت ذلك دون أن تستدير لتلقي نظرة. سار إلي جوارها عدة خطوات. ابتسمت لنفسها ولم تنظر إليه. بدأ يفقد ثقته في نفسه. تركته يحدق في نافذة عرض أحد المحال. في الحافلة المتجهة إلي "ألموروج"، تخلي لها الرجال عن مقاعدهم، فجلست في المقعد الذي يناسبها.
حين وصلت إلي البار، اتجهت نحو طاولة الحساب مباشرة. كان حشد الأثرياء هناك. توقف الحديث بينهم لحظة دخولها. تبعتها عيونهم الشهوانية. الفتيات حملقن فيها. حتي "نيجوثي" تخلت عن حيادها. اشترت لهن "بياترس" مشروبات. تقدم المدير منها بحذر، وأراد أن يفتح معها حواراً. لماذا تركت العمل؟ وأين كانت؟ وهل يمكن أن تعمل في البار من جديد، تساعد "نيجوثي" من حين لآخر؟. أحضرت إحدي عاملات البار ورقة لها. أحد الأثرياء يريد أن يعرف إن كان لها أن تجلس إلي طاولته. وصلتها أوراق كثيرة تحمل سؤلاً واحداً: هل هي غير مشغولة الليلة؟
رحلة إلي "نيروبي" فعلت كل هذا. لم تغادر مكانها، ولكنها قبلت هداياهم من المشروبات كحق لها. شعرت بسلطة جديدة، وثقة في النفس. أخرجت شلناً، ووضعته في صندوق الموسيقي، فانطلق صوت "روبنسون موانجي" وهو يغني. كان يغني عن الفتيات الريفيات اللاتي تحتقرهن فتيات المدينة. كان الرجال يرغبون في الرقص معها، إلا أنها تجاهلتهم رغم استمتاعها بوجودهم حولها. كان جسدها حراً. كانت حرة. ركلت التوتر والقلق.
وفجأة، اقتحم الرجل صاحب الشاحنة البار قرابة الساعة السادسة. في هذه المرة يرتدي معطفه العسكري، وخلفه ضابط شرطة. تلفت حوله، والعيون كلها تنظر نحوه. استمرت "بياترس" تهز خاصرتها. في البداية لم يعرف أن "بياترس" هي الفتاة التي تقف إلي جوار صندوق الموسيقي، وتحتفل بلحظات مجدها القصيرة. صاح وكأنه انتصر: "ها هي الفتاة! اللصة! اللصة!"
تراجع الناس في مقاعدهم، واتجه الشرطي نحوها. وضع القيود في يديها دون أن تقاوم. وقبل أن تخرج من الباب، استدارت وبصقت، ثم خرجت وخلفها الشرطي.
تحول الصمت التام في البار إلي ضحك صاخب حين ألقي أحدهم نكتة عن السرقة الحلوة دون عنف. تناقشوا في أمرها. قال أحدهم كان لا بد من ضربها، وتحدث الآخرون عن طبيعة "فتيات البارات"، لكن غيرهم تحدثوا بقلق، كشفته حركات رؤوسهم غير المصدقة، عن ارتفاع معدلات الجريمة. ألا يمتد حكم الإعدام علي جرائم السرقة؟ ودون أن يشعر الجميع، تحول الرجل صاحب الشاحنة إلي بطل. أحاطوه بالأسئلة، وطلبوا منه سرد تفاصيل القصة. اشتري له البعض مشروبات. استمعوا بإنصات يتخلله الضحك. الخوف علي ممتلكاتهم حولهم مؤقتاً إلي عائلة واحدة. وقبلوا الرجل بينهم للمرة الأولي، فسرد عليهم القصة باستمتاع. وحدها "نيجوثي" كانت تجلس خلف الطاولة الحساب، وتبكي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.