الجلسة مغلقة.. خانقة، القاعة الزجاجية الدائرية تكتظ بطاولة كبيرة مستديرة تحيط بها الكراسي الخشبية العشرة.. علي بعد عشرة أمتار يلتف الناس حول القاعة الزجاجية يراقبون بهدوء أيدي الجالسين علي الكراسي وهي تتحرك فوق الطاولة داخل القاعة الزجاجية.. الهواء الساخن يتجمع و يشكل ضباباً خفيفاً علي زجاج القاعة. الحركة داخل القاعة الزجاجية قلقة.. وضعية أقدام الجالسين فوق الكراسي الخشبية مزعجة، تعابير الانزعاج تظهر بتفاوت فوق الوجوه.. الورق الملون الذي تم وضعه علي الطاولة في بداية الجلسة مملوء بالبقع غير المتناسقة.. تسعة أصوات تتداخل في حوار صاخب بينما كان هو يراقب تشكل بعض قطرات الماء علي الزجاج.. هو يجلس علي الكرسي الأقرب للباب بسبب وصوله المتأخر، وعلي ملامحه بالإضافة للانزعاج أثار التأخر بالنهوض من النوم بسبب ليلة البارحة المزعجة التي مازال ثقلها جاثماً عليه. نظر إلي الأوراق الملونة وبقعها المزعجة.. أزعجه أكثر سطوع الألوان في الأوراق القريبة منه فأغمض عينيه وهو يضع يده علي رأسه، غير أنه أبعد يده عن رأسه بسرعة عندما تذكر الناس المحيطين بالقاعة. حاول الانغماس بالنقاش لكن طنين الكلام أزعجه ودفعه للهروب للأوراق الملونة محاولاً العثور فيها علي شيء يخلصه من آثار الليلة الماضية.. أغمض عينيه من جديد.. طنين البيانو مازال يدوي في ذاكرته.. فتح عينيه.. تأمل خيال الناس خارج القاعة وحاول التعرف علي ملامحهم، ثم فك زر قميصه الأعلي.. أخرج منديلاً من علبة المناديل الورقية الموضوعة علي الطاولة وأخذ يمسح به العرق حول عنقه.. أحس بقليل من الراحة.. تذكر طاولة الأمس الملساء والأوراق البيضاء المتناثرة عليها.. تذكر الضوء المريح القادم من السقف والذي كان ينعكس وسط الطاولة ويستقر في مدي رؤيته.. كان المكان أفضل والحرارة أقل، حتي صوت البيانو الذي رافقه طوال الاجتماع في الأمس كان أقل إزعاجاً. دار بعينيه المرهقتين فوق وجوه الجالسين علي الطاولة الكبيرة حوله.. أفواههم كانت تتكلم والعرق ينساب ببطء علي وجوههم المحمرة من الحرارة والتعب.. أحدهم كان يشير لبعض الأوراق الملونة الملقاة علي الطاولة وفمه يتحرك بسرعة فحاول تثبيت سمعه علي ما يقول ليفك رموز الأوراق الملونة لكن الطنين المزعج في أذنيه جعله يخفض بصره إلي الطاولة، ومن جديد عادت ألوان الأوراق الساطعة لتجبره علي إغلاق عينيه. عدل من وضعية جلوسه، وهو يقول لنفسه أن طنين البيانو يشبه صوت المطارق في رأسه. أخذ منديلاً ورقياً آخراً ومسح به العرق حول وجهه فالتصق قليل من ورق المنديل علي وجهه غير أنه لم يحاول مسحه- رغم الإزعاج الذي يسببه ورق المنديل المبلل علي وجهه- لعل ذلك ينسيه طنين البيانو. ضغط علي مقدمة رأسه بيديه بقوة فشعر بقليل من الراحة.. تمني لو أن جداراً صلباً يهبط فوق رأسه ويضغط عليه بقوة.. أنزل يديه إلي تجويف عينيه وضغط عليهما بقوة ثم ترك يديه تنزلقان ببطء علي وجهه وتمسحان قطع المنديل الملتصقة بوجهه.. واستقرت اليدان علي المائدة عندما تذكر الناس في الخارج. نظر إلي الزجاج.. خيوط الماء بدأت تتشكل عليه.. والناس في الخارج مازالوا متجمعين حول القاعة الزجاجية منتظرين شيء ما.. ضغط علي أسنانه بقوة وأمسك ورقة ملونة ملقاة علي الطاولة أمامه ورفع الورقة حتي يشاهده الناس في الخارج ثم وضع الورقة من جديد علي الطاولة وهو يحرك شفتيه بدون أن يتكلم، لم يعلق الجالسون علي حركته لكن هديراً من الصياح أتي من الخارج جعله يرفع يده الفارغة عدة مرات. أخذ الجالس بجواره- من جهة اليمين- ورقة ملونة ورفعها للأعلي ثم وضعها علي الطاولة وهدير الأصوات يرتفع في الخارج، انتقلت عدوي رفع الأوراق الملونة لبقية الجالسين.. عاد طنين البيانو يرتفع بقوة في رأسه بدرجة غير محتملة.. فعاد يضغط مقدمة رأسه بقوة. قطرات الماء أخذت تسيل علي الزجاج وتكون بقع ماء صغيرة علي أرضية القاعة وإيقاع صوت أخذ بالانتظام في عقله، نفس النغمات التي سمعها عندما دخل القاعة المريحة البارحة.. كان هناك شخص في القاعة المريحة يعزف علي البيانو، والطاولة الملساء- في منتصف الغرفة- كانت مملوءة بالأوراق البيضاء، أربعة كراسٍ فقط كانت حول الطاولة.. جلس علي الكرسي المقابل للباب، انتظر طويلاً قدوم الآخرين، ثم اخرج قلمه وبدأ بملء الأوراق البيضاء التي أمامه بالحروف والكلمات، استغرق في الكتابة وقتاً طويلاً وعندما انتهي من الكتابة رفع رأسه و أداره حول القاعة، لكن الكراسي الثلاثة حول الطاولة كانت فارغة، فأخذ يستمع لنغمات البيانو وعينيه تترقب الباب، أخرج سكينه الحاد عندما مل من الانتظار وحفر علي الطاولة حروف اسمه.. لم يعجبه تسلسل حروف اسمه.. فحفر من جديد في الزاوية الأخري من الطاولة اسمه بطريقة مقلوبة، ثم اخذ يحفر الاسم علي الكراسي.. وعندما لم يتبق مكان علي الطاولة والكراسي أخذ يحفر الاسم علي أصابع البيانو وفي مختلف أرجاء الغرفة وهو مغمض العينين.. فكر بمغادرة القاعة- لعدم مجيء أحد- فألقي نظرة علي البيانو.. توقف صوت البيانو علي إثر صرخته، وبسرعة غادر العازف القاعة وهو يلوث أرضية القاعة بنقاط الدم التي تسيل من وجهه ويديه وجميع أجزاء جسده.. نظر إلي سكينه فوجدها ملطخة بالدم.. فمسح السكين علي الأوراق البيضاء التي امتلأت بالدماء.. وضع السكين علي الطاولة واتجه للبيانو، كان اسمه المحفور علي أصابع البيانو مغمورا بالدماء التي لم تتجمد بعد.. أحس بطعم الدم في فمه فمسح الدم من علي أصابع البيانو بيده اليمني ثم مسح بها رأسه فاصطبغ رأسه بالدم، ثم أخذ يمسح عنقه. ارتفاع حدة الأصوات- داخل القاعة الزجاجية- حوله دفعه لتحريك رأسه باتجاه أعلي الأصوات.. هم بالصراخ لكنه استكان وأعاد رأسه للوراء. أخذ يمسح عنقه بمنديل وهو يحدق في الأوراق ثم في الناس خارج القاعة.. وتمني لو لم يفقد السكين في القاعة في اليوم السابق. لا يتذكر أين وضعها. " إنها حتماً في مكان ما داخل القاعة، علي الطاولة أو بجوار البيانو." أشياء عديدة لا يتذكرها.. حتي أنه لا يتذكر كيفية مغادرته للقاعة المليئة ببقع الدم. خُيل له أنه لمح وجه عازف البيانو خارج القاعة الزجاجة.. دقق النظر في وجوه المحيطين بالقاعة الزجاجية، خيل إليه أن عازف البيانو اختفي وسط الناس والدماء ما تزال تسيل منه.. ركز نظره أكثر وشيئاً فشيئا بدأت نقاط الماء المكثفة علي جدران القاعة الزجاجية بالتحول إلي اللون الأحمر.. وتوقف طنين البيانو الذي يدوي في رأسه. نظر إلي جدران القاعة الزجاجية، وإلي الكراسي العشرة، وإلي الجالسين حوله... كل شيء كان ينزف دماً احمر.. ابتسم وأخذ يمسح سطح الطاولة بيديه ويلطخ رأسه وعنقه وثيابه بالدم، وبسرعة أخذ الصداع- الذي أزعجه منذ البارحة- يتسلل للزجاج بينما أسند هو رأسه للطاولة ونام. اليمن