لطالما اعتُبرت السلفية في الوجدان الجمعي العربي تيارًا منكفئًا على الذات، غارقًا في تفاصيل العقيدة والعبادات، وبعيدًا كل البعد عن "رجس" السياسة ودهاليزها. كان المبدأ الحاكم لسنوات طويلة هو "التصفية والتربية"، أي تصفية العقيدة من البدع وتربية الجيل على المنهج الصحيح، مع ترك شؤون الحكم لولي الأمر درءًا للفتنة. إلا أن زلزال الربيع العربي في عام 2011 أحدث شرخًا عميقًا في هذه البنية الفكرية الصلبة، فخرج السلفيون من صوامعهم الدعوية إلى ميادين التحرير، ومن ثم إلى قاعات البرلمان. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في "التكتيك"، بل كان زلزالًا ضرب أسس الأيديولوجيا السلفية، مما طرح تساؤلات كبرى حول مدى مرونة هذا التيار وقدرته على التكيف مع مقتضيات الدولة الحديثة. يعكس هذا المقال محاولة لفهم رحلة السلفية المصرية تحديدًا، باعتبارها النموذج الأكثر نضوجًا واضطرابًا في آن واحد. سنستعرض كيف تحولت الفتاوى من تحريم الصندوق الانتخابي إلى التسابق عليه، وكيف أصبحت البراجماتية هي المحرك الخفي لخطاب كان يدّعي المثالية المطلقة وعدم المهادنة في الثوابت. إن نقد هذه التجربة لا يعني الهجوم على النوايا، بل هو تحليل للمسار الذي سلكه "حزب النور" وأخواته، وكيف أدى هذا المسار إلى إعادة تعريف السلفية في عيون أتباعها وعيون خصومها. لقد كشفت السياسة "المسكوت عنه" في الفكر السلفي، وأظهرت أن النص الديني حين يُقحم في صراع القوى، يخضع لعمليات تأويل جراحية قاسية. نحن بصدد دراسة حالة تحول "الرعية" إلى "مواطنين" فاعلين سياسيًا، وما نتج عن ذلك من تمزق في النسيج السلفي الواحد. هذا التقرير يسعى لتفكيك مفاصل هذه الرحلة، بدءًا من العقيدة وصولًا إلى التحالفات السياسية المعقدة التي شكلت واقع مصر ما بعد 2011. تحولات خطاب العقيدة والولاء والبراء يُعد مفهوم "الولاء والبراء" الركن الحصين في العقيدة السلفية، حيث كان يُستخدم كأداة للفرز المجتمعي، قائمة على موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والأنظمة "الجاهلية" (حسب وصفهم السابق). كان هذا المفهوم يمنع السلفي من المشاركة في أي منظومة لا تحكم بالشريعة الكاملة، معتبرًا ذلك نوعًا من الركون إلى الظالمين. بمجرد الدخول في المعترك السياسي، شهد هذا الخطاب "تحولًا لغويًا" مذهلًا، حيث تم ترويض "البراء" ليصبح مجرد خلاف سياسي، وتحول "الولاء" من ولاء للمنهج إلى ولاء للمصلحة الشرعية المتوهمة. لم يعد الآخر (العلماني أو الليبرالي) "عدوًا للعقيدة" بالضرورة في الخطاب الرسمي للحزب، بل أصبح "شريكًا في الوطن" تتطلب المصلحة مهادنته. هذا التمييع في المفاهيم العقدية أحدث إرباكًا في القاعدة الشعبية السلفية التي تربت على أدبيات "لا إيمان لمن لا براء له". لقد اضطر قادة السلفية الحركية إلى ابتكار فقه جديد يُسمى "فقه التوازنات"، وهو في الحقيقة لم يكن سوى محاولة لشرعنة التنازلات الأيديولوجية أمام إغراءات السلطة أو الخوف من الإقصاء. التحليل النقدي لهذا التحول يكشف أن "العقيدة" في الفكر السلفي السياسي لم تكن حائطًا منيعًا كما كان يُروج، بل كانت "كتلة صلصالية" أُعيد تشكيلها لتناسب قوالب العمل الحزبي. لقد تم استدعاء نصوص "الضرورات تبيح المحظورات" بشكل مفرط لتغطية التراجع عن مواقف كان يُنظر إليها بالأمس على أنها "كفر مخرج من الملة". ختامًا لهذه النقطة، يمكن القول إن السلفية السياسية قد "علمنت" خطابها العقدي دون أن تدري. فبينما كانت تهاجم العلمانية لفصلها الدين عن الدولة، قامت هي بفصل "العقيدة النظرية" عن "الممارسة السياسية"، مما جعل مفهوم الولاء والبراء مجرد شعار عاطفي يُستدعى في الدروس المسجدية ويُغيب عند طاولة المفاوضات. كيف أصبح أعداء الديمقراطية قادة أحزاب؟ لسنوات طوال، كانت الأدبيات السلفية تطفح بالكتب والرسائل التي تصف الديمقراطية بأنها "دين الغرب" و"حكم البشر للبشر" و"شرك بالله" لأن الحاكمية فيها للشعب لا للخالق. كان الصندوق الانتخابي في نظرهم وثنًا معاصرًا، والمجالس النيابية معابد لتشريع ما لم يأذن به الله. المفارقة التاريخية حدثت حين تأسس "حزب النور" وغيره من الأحزاب السلفية، حيث انتقل المشايخ من منبر الوعظ إلى منصة الدعاية الانتخابية. هذا التحول لم يأتِ نتيجة مراجعات فكرية عميقة ومنشورة، بل جاء كاستجابة ل "الأمر الواقع"، مما جعل الممارسة تسبق النظرية، وجعل التبرير يلحق بالفعل. اعتمد قادة هذه الأحزاب على استراتيجية "تغيير المسميات"، فالديمقراطية أصبحت "آلية للشورى"، والانتخابات أصبحت "شهادة"، والبرلمان أصبح "مجلس أهل الحل والعقد". هذا التلاعب اللفظي كان يهدف إلى تخدير الوعي الجمعي للسلفيين الذين يجدون حرجًا في قبول مصطلحات "غربية"، لكنهم يقبلون ذات الممارسات بأسماء "شرعية". بشكل نقدي، نجد أن السلفيين دخلوا اللعبة الديمقراطية بعقلية "الاستيلاء" لا "الإيمان". فهم يرونها وسيلة للوصول لغاياتهم، وليس قيمة إنسانية للتداول السلمي للسلطة. هذا "النفاق الإجرائي" جعل مشاركتهم مشوبة بالحذر، وجعل القوى السياسية الأخرى تنظر إليهم كحصان طروادة الذي يستخدم الديمقراطية لهدمها من الداخل. في النهاية، أدى هذا التحول إلى سقوط الهيبة الأخلاقية للخطاب السلفي المتشدد. فحين يرى الشاب السلفي شيخه الذي كان يبكي على المنبر تحريمًا للديمقراطية، وهو اليوم يصافح خصومه في البرلمان ويناور من أجل مقعد، تنهار لديه فكرة "الثبات على المبدأ"، ويتحول المشهد إلى صراع كراسي مجرد من أي قداسة. الصفقة السياسية بين السلفيين والمؤسسة العسكرية بعد 2011 بعد سقوط نظام مبارك، وجد السلفيون أنفسهم في العراء السياسي، فكان عليهم البحث عن "ظهير قوي" يحميهم من تغول الإخوان المسلمين تارة، ومن غضب القوى المدنية تارة أخرى. هنا نشأت علاقة "براجماتية بامتياز" بين الدعوة السلفية بالإسكندرية (المحرك لحزب النور) والمؤسسة العسكرية، قائمة على تبادل المصالح. تمثلت ملامح هذه الصفقة في "دعم الاستقرار" مقابل "البقاء في المشهد". السلفيون قدموا أنفسهم كبديل "إسلامي وطني" غير صدامي مع الدولة، بينما رأت الدولة فيهم أداة لسحب البساط من تحت أقدام الإخوان وتفتيت الكتلة الإسلامية الصلبة. كانت لحظة 3 يوليو 2013 هي الاختبار الأكبر لهذه الصفقة، حين انحاز حزب النور لخارطة الطريق. تحليليًا، يعتبر موقف حزب النور في 2013 "انتحارًا أيديولوجيًا" و"نجاحًا سياسيًا" في آن واحد. فمن الناحية الأيديولوجية، تحالفوا مع قوى "علمانية" ضد رفاقهم في "المشروع الإسلامي"، مما أكسبهم لقب "خونة المشروع". أما سياسيًا، فقد ضمنوا بقاء حزبهم ومساجدهم مفتوحة في وقت كان فيه الآخرون يُساقون إلى السجون أو المنافي. هذه العلاقة وضعت السلفية في مأزق "المحلل الديني" لسياسات الدولة. فبينما كانوا يرفضون الخروج على الحاكم الظلم (مبارك) قديمًا، أصبحوا الآن يبررون كل إجراءات السلطة الجديدة تحت دعوى "وحدة الصف" و"منع الفوضى". لقد تحولت السلفية الحركية من قوة معارضة محتملة إلى "ظهير ديني" للنظام السياسي القائم. الخطر الأكبر في هذه الصفقة هو فقدان السلفية لاستقلاليتها. فالمؤسسة العسكرية، بذكائها الأمني، استطاعت احتواء التيار السلفي وتحجيمه داخل "مربع مرسوم"، مما جعل الحزب مجرد واجهة تكميلية للديكور الديمقراطي، وجعل المشايخ مجرد أدوات لتمرير الرسائل السياسية للقواعد الشعبية في القرى والنجوع. تمزيق الجسد السلفي بين "مدخلي" و"قطبي" و"حركي" أدت السياسة إلى تفتيت الوحدة الشكلية للتيار السلفي، وظهرت الصدوع العميقة بين تياراته الثلاثة الكبرى. التيار "المدخلي" (الجامي) تمسك بقدسية الحاكم (ولي الأمر) وحرمة العمل السياسي، وصب جام غضبه على حزب النور معتبرًا إياه "حزبًا مبتدعًا" شق عصا الطاعة، مما جعلهم "شرطة دينية" تابعة للسلطة تمامًا. على الجانب الآخر، وقف التيار "القطبي" (السروري)، الذي يمزج بين العقيدة السلفية والحركية الإخوانية، في خندق المعارضة الشرسة. هؤلاء رأوا في حزب النور خيانة للدين والوطن، وتحول الصراع بينهم إلى حرب "تكفير وتفسيق" متبادلة، مما أثبت أن المنهج السلفي ليس كتلة واحدة، بل هو شظايا متناثرة. أما "السلفية الحركية" (حزب النور)، فقد حاولت الوقوف في المنطقة الوسطى، وهي منطقة زلقة للغاية. حاولوا إرضاء السلطة بمواقفهم، وإرضاء القواعد بخطاب ديني محافظ، لكنهم انتهوا بالخسارة من الطرفين؛ فلا السلطة وثقت بهم تمامًا، ولا القواعد السلفية الراديكالية غفرت لهم "براجماتيتهم" الزائدة. هذا التمزيق كشف عن غياب "المرجعية الواحدة" في السلفية. فكل تيار يستدل بذات النصوص وذات أقوال ابن تيمية ليثبت وجهة نظر معاكسة تمامًا للآخر. السياسة حولت "الخلاف الفقهي" إلى "صراع وجودي"، وأصبح السلفي يرى أخاه السلفي من التيار الآخر خطرًا يفوق خطر "العلماني". في المحصلة، السياسة كانت "المختبر" الذي كشف زيف ادعاء "الفرقة الناجية". فقد تفرق السلفيون أيدي سبأ، وضاعت بوصلتهم بين ولاء للملك، وولاء للثورة، وولاء للحزب. هذا التشرذم أضعف القوة التصويتية للسلفيين وجعلهم لقمة سائغة للاستقطابات السياسية التي لا ترحم الضعفاء أو المترددين. خاتمة في نهاية هذه القراءة النقدية، يتضح أن تجربة السلفية مع السياسة لم تكن "فتحًا مبيًا" كما توهم البعض، بل كانت "محنة فكرية" كشفت عورات الخطاب التقليدي. لقد سقطت الأقنعة المثالية، وظهر المشايخ كفاعلين سياسيين يخطئون ويصيبون، ويناورون ويكذبون أحيانًا، مما أزال القداسة عن أشخاصهم وعن طروحاتهم. لقد أثبتت التجربة المصرية أن السلفية حين تدخل السياسة، فإنها لا تُغيّر السياسة بقدر ما تتغير هي. لقد خسر السلفيون ميزتهم التنافسية الكبرى وهي "النقاء والمبدئية"، وأصبحوا مجرد رقم في معادلة سلطوية معقدة، يُستخدمون حين تدعو الحاجة ويُهمشون حين تنتهي المهمة. إن التمزق بين المداخلة والقطبيين والحركيين ليس مجرد خلاف تنظيمي، بل هو إعلان عن نهاية "الأسطورة السلفية" التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. فالحقائق المطلقة لا تصمد أمام تقلبات المصالح، والنصوص الجامدة تتحطم حين تصطدم بواقع سياسي سائل ومتحرك. مستقبل السلفية السياسية يبدو الآن باهتًا؛ فالأجيال الجديدة من الشباب السلفي باتت تشعر بالخيبة من "تناقضات الكبار"، والبعض منهم اتجه نحو الإلحاد أو الالحاد السياسي كرد فعل على هذا الارتباك. لقد كانت السياسة هي "النار" التي اختبرت معدن السلفية، فاحترق القشر وبقي اللب في حالة من الذهول والضياع. يبقى السؤال المعلق: هل يمكن للسلفية أن تتصالح مع الحداثة والديمقراطية بصدق؟ الإجابة تكمن في قدرة هذا التيار على إجراء مراجعات شجاعة لا تكتفي بتغيير المسميات، بل تعيد النظر في مفهوم "الحاكمية" و"الآخر"، وهي مهمة تبدو مستحيلة في ظل التمسك بحرفية النصوص وضيق أفق القيادات الحالية.