طرح الصعود السياسي اللافت للتيارات السلفية في مصر خلال الجولة الأولي من الانتخابات المصرية تساؤلات حول طبيعة الأفكار الحاكمة لهذا التيارات وخريطته الفكرية وأسباب صعوده بعد ثورة25 يناير. وبدا أن القاسم المشترك بين التيارات السلفية عقب الثورة المصرية, هو المشاركة في الحياة السياسية, وتأسيس الأحزاب, والمشاركة في الانتخابات البرلمانية, رغم أن بعضا من هذه التيارات كانوا يرون قبيل الثورة عدم جواز المشاركة السياسية والعمل الحزبي من الناحية الشرعية. ولم تعد السلفية هي تلك المدارس العلمية التي تقتصر علي طلب العلم الشرعي وتصحيح العقيدة,والتمسك بالكتاب والسنة, والابتعاد عن العمل السياسي, مثل المدارس السلفية المنتشرة في الإسكندريةوالقاهرة, وهي ما يطلق عليها السلفية التقليدية. فالسلفية الآن أصبحت مظلة كبيرة تضم تحتها العديد من الجماعات الإسلامية التي تتصف بأنها سلفية المنهج والاعتقاد, ولا تستخدم العنف مطلقا, مثل الدعوة السلفية في الإسكندريةوالقاهرة, والمدارس السلفية المختلفة والمنتشرة في الوجه البحري. يضاف إلي ذلك التيارات الأخري, مثل أنصار السنة المحمدية, والجمعية الشرعية, والجماعة الإسلامية, والجهاد بعد المراجعات الفكرية, إضافة إلي السلفية التقليدية. لقد أصبح في مصر في السنوات الأخيرة ما يمكن أن يطلق عليه المظلة السلفية, التي تضم تحتها تقريبا كل التيارات الدينية في مصر باستثناء الإخوان المسلمين, وبعض الجماعات التكفيرية الصغيرة, والطرق الصوفية, وجماعة الدعوة والتبليغ. التيارات الدينية التي تضمها المظلة السلفية يوجد بينها العديد من الاختلافات الفكرية والفقهية, ولكنها يجمعها أصول الفكر السلفي العام, وكذلك بعض الأهداف التي تسعي هذه التيارات إلي تحقيقها, مثل تطبيق الشريعة الإسلامية, وإقامة الدولة الإسلامية, وكذلك إعادة الخلافة الإسلامية من جديد إلي العالم الإسلامي. أولا: التحول نحو السياسة مثلما غيرت ثورة يناير الكثير من الأوضاع السياسية في مصر, فقد أصاب التغيير التيارات السلفية, فحدث ما يشبه الثورة الفكرية في فكر هذه التيارات التي هرولت نحو المشاركة السياسية. وقد دخل التيار السلفي بشكل عام إلي العملية السياسية من جميع أبوابها, سواء كان عن طريق الانضمام للأحزاب, أو إنشاء أحزاب سياسية, مثل حزب النور السلفي, والأصالة السلفي, والفضيلة السلفي, والبناء والتنمية- الذراع السياسية للجماعة الإسلامية- ثم رفضت هذه الأحزاب التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين, وأنشأت ما يسمي تحالف الكتلة الإسلامية الذي ضم الأحزاب سالفة الذكر لمواجهة القوي السياسية الأخري, بما فيها جماعة الإخوان المسلمين. وبدأت المشاركة السياسية الفعلية للتيار السلفي, عقب الثورة, بحشد الشارع المصري للتصويت بنعم علي التعديلات الدستورية الأخيرة, حيث دخلت التيارات السلفية في سباق محموم ضد القوي السياسية الأخري الموجودة في البلاد, والتي ترغب في التصويت بلا. وقد حشدت التيارات السلفية في هذا السباق السياسي كل قوتها من أفرادها وقادتها ومشايخها ودعاتها بشتي صورهم وأطيافهم الفكرية, وهذه أول مرة في تاريخ التيار السلفي التي يشارك فيها في الحياة السياسية, ثم سرعان ما بدأت بعض التيارات السلفية عقب الاستفتاء علي التعديلات الدستورية بالإعلان عن إنشاء الأحزاب السياسية. ومن اللافت للنظر في توجه التيار السلفي نحو المشاركة السياسية سرعة التحول الفكري للتيار السلفي نحو العمل السياسي, لأن هناك قطاعا داخل التيار السلفي كان يمنع العمل السياسي, وتيارا آخر يقاطع المشاركة السياسية. ولكن بعد ثورة25 يناير, هرول التيار السلفي نحو المشاركة السياسية بشتي صورها, وهذا تحول فكري كبير, والتحول الفكري غالبا ما يحتاج إلي وقت طويل. غير أن التيار السلفي استطاع أن يقوم بهذا التحول الخاص بالمشاركة السياسية في وقت قصير للغاية لا يتجاوز بضعة أشهر. والأغرب من ذلك أن التيار السلفي أخذ يقترب من قضايا كان لا يمكن أن يقترب منها أو يناقشها من قبل, نظرا لتصادمها مع الفكر السلفي ومعتقداته, مثل قضية المواطنة, وحقوق الأقباط, وسيادة القانون, والدولة المدنية, وتجديد الخطاب الديني, وما شابه ذلك من القضايا التي كان الفكر السلفي لا يقترب منها في الماضي. ثانيا: خريطة سلفية من المعروف لدي المختصين في التيارات الدينية, أن السلفيين في مصر ليسوا تيارا واحدا, وأن مصر عرفت ظهورالاتجاهات السلفية بالمعني العام مع بواكير ظاهرة الصحوة الإسلامية في مفتتح القرن الماضي.غير أن خريطة الاتجاهات السلفية شهدت, مع توالي السنين, حالة من التنوع في الأفكار والرؤي. وبرغم التصاعد السلفي في المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام?وفي مصر بشكل خاص- فقد ظلت هذه الخريطة السلفية تتسم بتعقد وتداخل الخيوط إلي الحد الذي بات معه من الصعوبة بمكان الإحاطة الدقيقة بمكونات الخريطة السلفية في الساحةالمصرية, والوقوف علي أفكارها ورموزها, واتجاهاتها, ومحددات الافتراق والتمايز. ومن أهم ملامح تعقد الخريطة السلفية في مصر هو أنه يوجد نوعان من التيار السلفي, هما:- 1- السلفية التقليدية,وهي ما يطلق عليها السلفية العلمية, مثل المدارس السلفية وشيوخها في الإسكندريةوالقاهرة والمنصورة, إضافة إلي الدعاة المستقلين, مثل محمد حسان, ومحمد حسين يعقوب, ومحمود المصري, وهي تضم ثلاثة أشكال من السلفية, هي: - الدعوة السلفية نشأت في سبعينيات القرن الماضي عن طريق النشاط الطلابي, وبدأ عملهم بشكل منظم عام1980, حيث قرر الشباب السلفيون العمل بطريقة منظمة, فكونوا ما يشبه باتحاد الدعاة, ثم أطلقوا علي أنفسهم بعد ذلك اسم( المدرسة السلفية).وبعد عدة سنوات من العمل الحركي والجماهيري, أطلقوا علي منظمتهم( الدعوة السلفية) بعد انتشارهم في كل أنحاء مصر, وكثرة أتباعهم الذين يقدرون بمئات الآلاف, لكنهم يشتهرون بمسمي هو( سلفيو الإسكندرية.( ويدعو هؤلاء السلفيون إلي العودة لأخذ الإسلام من أصليه: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح منالصحابة والتابعين, ويهتمون بمسائل التوحيد وتصحيح العقيدة, والنهي عن البدع والخرافات, ويدعون كل من التزم بهذا المنهج إلي الاجتهاد في طلب العلم الشرعي; حتي يتسني للمسلم معرفة الأوامر والنواهي في الفروض والسنن والواجبات, كما يهتمون بكتب التراث, ومقولات الأئمة من أصحاب المذاهب والفقهاء; ولذا يطلق عليهم أيضا( السلفية العلمية). - السلفية الحركية في الوقت ذاته الذي نشأت فيه الدعوة السلفية في الإسكندرية, كان هناك في حي شبرا في القاهرة مجموعة من الشباب شكلت تيارا آخر, أطلق عليه فيما بعد: السلفية الحركية. ويكاد يتطابق منهج السلفية الحركية مع منهج الدعوة السلفية( مدرسة الإسكندرية),إلا أن السلفيين الحركيين لا يكتفون بتكفير الحاكم حكما فقط, ولكن يذهبون إلي تكفيره عينيا, إذا لم يحكم بما أنزل الله, ويجهرون بذلك في خطابهم الدعوي, ويعتقدون بحرمة المشاركة في المجالس النيابية; لأنها تتحاكم إلي غيرشرع الله, وتجعل الدستور الذي وضعته حاكما لشريعة الله عز وجل, وهذا كفر, وهذه الأفكار كانت قبل ثورة يناير. - السلفيون المستقلون وهم امتداد للتيار السلفي القديم في مصر, وقد مثله العديد من المجموعات والجمعيات منذ بدايات القرن العشرين, مثل جمعية الهداية التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين, وكانت تقوم علي الدعوة إلي الالتزام بالسنة ومحاربة البدع. وكان منتموها يهتمون بالهدي الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس واللحية وشعر الرأس والحجاب, وغيرها من هذه الأمور. ولا يؤمن هذا التيار بالعمل الجماعي التنظيمي, كما أنه لا يشتغل بالسياسة, ولا ينشغل بها أصلا, لكن هناك من أكد أن رموز هذا التيار يبدون آراءهم في الشأن السياسي في جلسات سرية لأتباعهم المقربين, ويقتصر كلامهم السياسي علي شرح تصوراتهم للواقع السياسي ومشكلاته. 2- سلفية المنهج: وهذا النوع الثاني من السلفية يمثله عدد من التيارات الاسلامية التي تعد سلفية المنهج والاعتقاد, وليست العمل والتنظيم, حيث لها طريقة عملها الخاص وأسلوبها الدعوي المستقل. ومن أهمها: - جماعة أنصار السنة المحمدية تأسست جماعة أنصار السنة المحمدية في مدينة القاهرة علي يد الشيخ محمد حامد الفقي, وقامت هذه الجماعة علي دعوة الناس إلي التوحيد الخالص المطهر من جميع أنواع الشرك, والدعوة إلي صحيح السنة بفهم السلف الصالح, وإرشاد الناس إلي نصوص الكتاب, والدعوة إلي مجانبة البدع والخرافات ومحدثاتالأمور. كما تدعو إلي أن الإسلام دين ودولة, وعبادة وحكم, وصالح لكل زمان ومكان,ومن ثم يجب الدعوة إلي إقامة المجتمع المسلم, والحكم بما أنزل الله. - الجمعية الشرعية أسس الشيخ محمود خطاب السبكي الجمعية الشرعية عام1912 تحت اسمالجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية, والهدف الأساسي الذي سعت إليه الجمعية عند إنشائها هو الوعظ والإرشاد, والدعوة إلي الالتزام بالسنة ومحاربة البدعة, وكذلك تدعيم قيمة التعاون والتكافل بين أبناء الشعب. لذلك, تنتشر فروع الجمعية ال350 في جميع أنحاء جمهورية مصر. - الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد نشأت الجماعة الإسلامية في فترة السبعينيات من القرن الماضي, في ظل الأجواء التي سمح بها الرئيس أنور السادات أمام التيارات الدينية, وكانت الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت تضم أفراد الجماعة الإسلامية, والجهاد الذين انفصلوا عن الجماعة الإسلامية, بعد دخول السجون عقب أحداث1981 م, وقضيتها المعروفة بإسم قضية تنظيم الجهاد. ولقد قام كل من الجماعة الاسلامية والجهاد بمراجعات فكرية شاملة للمنظومة الفكرية الخاصة بهم, حيث تعد المراجعات الفكرية التي قامت بها الجماعات الإسلامية في مصر أمرا فريدا من نوعه, وسابقة لم تحدث من قبل في تاريخ التيارات الإسلامية. رابعا: أسباب الصعود يمكن القول أن هناك عاملين رئيسيين ساهما في صعود التيار السلفي في المرحلة الأولي من الانتخابات البرلمانية الأخيرة, لاسيما بعد أن حصدت قائمة حزب النور24% من أصوات الناخبين, وهما: 1-سقوط نظام مبارك وتداعياته,والذي نتج عنه العديد من المتغيرات من أبرزها: - حرية ممارسة العمل السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية دون أي معوقات, الأمر الذي أتاح الفرصة أمام التيار السلفي لكي ينشئ الأحزاب السياسية, ويمارس العملية الحزبية والانتخابية. - عدم وجود قوي سياسية حقيقية ليبرالية أو قومية أو يسارية لها قواعد جماهيرية تستطيع أن تنافس التيار الديني بصفة عامة والتيار السلفي بصفة خاصة, مما جعل التيار الديني هو القوي السياسية الأكبر في البلاد. - قوة التيار السلفي علي الساحة والتي تتمثل في:- التنظيم الجيد والقوي للجماعة, ووجود الأعداد الغفيرة من الكوادر والشباب, إضافة الي الإمكانيات المالية القوية, والتي ظهرت بوضوح أثناء العملية الانتخابية. - القدرة الكبيرة علي الحشد في الشارع المصري, وهذا ناتج عن سنوات طويلة من العمل الدعوي للجماعة, والتي استطاعت من خلاله التغلغل في الشارع المصري - استخدام الأساليب الدعوية الدينية في الدعاية الانتخابية, مثل استخدام المساجد, وذلك عن طريق الخطباء والوعاظ التابعين للجماعة, وذلك عن طريق حث الناخبين علي التصويت لصالح مرشحي التيار الإسلامي بصفة عامة, والتيار السلفي بصفة خاصة. - قوة التيار السلفي في العمل الاجتماعي والخدمي, ذلك العمل الذي يترك أعظم الأثر في نفوس البسطاء والفقراء, والذي يجعلهم يسيرون خلف من يقوم بهذا العمل, ويدعمونه بشتي الوسائل, وعلي رأسها التصويت لصالح المرشح الذي ينتمي لهذا التيار. يظل أن خوض للتيار السلفي في مصر لغمار العمل السياسي لا زال في مراحله المبكره, وأن التفاعلات السياسية بينه وبين التيارات الأخري في المجتمع ستكشف الكثير عن مشروعه السياسي والاجتماعي. ينشر بالاتفاق مع مجلة السياسة الدولية