قدر من القلق والتوجس يشوب الكثير من التحليلات المنشورة في داخل مصر وخارجها بشأن تداعيات نجاح وفوز أحزاب الاسلام السياسي في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة خاصة السلفيين, تلك القوة الجديدة التي فرضت نفسها علي الساحة المصرية بعد أن قبلت العمل وفق مفاهيم الأحزاب والانتخابات وتداول السلطة رغم رفضها وإدانتها لهذه المفاهيم من قبل. والغالب علي تلك التحليلات خاصة الأجنبية القول بأن الربيع العربي الذي استهدف تعزيز الحريات جاء بغير مبتغاة, وأصبح الربيع العربي ربيعا إسلاميا قد يؤثر علي الحريات العامة والعلاقة مع إسرائيل والمصالح الدولية الكبري في المنطقة. ومن الناحية المنهجية فإن القول بأن الاسلاميين يشكلون كتلة واحدة أو تيارا واحدا, فإن فيه الكثير من المغالطات والتسطيح, فالخلاف بين حزب الحرية والعدالة التابع لحركة الاخوان المسلمين, وبين حزب النور السلفي معروف للكافة ومفرداته تطول الكثير من المواقف بشأن تطبيق الشريعة لاسيما الحدود والموقف من الغرب والأقباط وحرية الابداع والفكر والميراث الأدبي والفنون والسياحة والفكر الليبرالي والكثير من إشكاليات الحياة المعاصرة. واستنادا الي هذه المساحة من التباين يبدو الحرية والعدالة كحزب معتدل ولديه كوادر سياسية ومهنية في جميع المجالات, ويجيد بناء المعادلات السياسية التي تزيد من شعبية الحزب والحديث بلغة توافقيه إجمالا رغم أن بعض قياداته تتحدث أحيانا بلغة خشنة تستفز قطاعات عريضة من المصريين. وهناك أيضا خلافات فكرية وسياسية بين حزب الحرية والعدالة وأحزاب أخري تدخل بالعموم في إطار الاسلام السياسي كحزب الوسط, الذي خرجت قياداته الرئيسية أساسا من عباءة الاخوان المسلمين قبل مايقرب من عقدين, والأمر نفسه ينطبق مع حزب البناء والتنمية التابع للجماعة الاسلامية. وكلا الحزبين الأخيرين يسعيان الي تقديم نموذج مستقل في الفكر والحركة المستندة الي مقولات اسلامية تتعلق بالعلاقة بين الدعوة والعمل السياسي وبناء المجتمع المسلم والدولة المسلمة والانفتاح علي الآخر. وكلاهما أيضا يختلفان تماما مع المقولات الأساسية للحركة السلفية رغم الانتماء الكلي للاسلام السياسي. وهذه الحركة السلفية تحديدا يبدو تميزها في تشدد اطروحاتها تجاه ماتعتبره انفلاتا أخلاقيا مذموما في المجتمع لابد من تغييره بأي صورة كانت, كما أن لديها مواقف غير مريحة تجاه الأقباط والغرب, والأولوية لديها هي تطبيق الشريعة بالصورة التي كانت عليها أيام السلف الصالح حسب قناعات وتفسيرات الجماعة, ومن هنا يأتي تركيزها علي أولوية نشر الحجاب ومنع الاختلاط بين الجنسين ومنع السينما باعتبارها مفسدة, والتبرؤ من الاعمال الأدبية لبعض كبار المؤلفين بحجة أنها تفتقر الي الوازع الديني السليم. نحن إذا أمام تنويعات من المنظمات والأحزاب التي تتفق معا علي المرجعية الاسلامية كمبدأ, ولكنها تختلف في تفسيره وتطبيقه وأولوياته علي نحو كبير. إن تفهم هذه الخريطة الفكرية والحركية للأحزاب الاسلامية من شأنه أن يساعد علي بلورة أساليب حركة لتعزيز تيار الاعتدال من جانب, ومحاصرة تيار التشدد من جانب آخر. وكما هي مهمة للاسلاميين أنفسهم, هي مهمة بنفس الدرجة, أو ربما أكبر قليلا بالنسبة للقوي الليبرالية والمدنية, والتي هي الآن مطالبة بشدة بأن تعيد النظر في الكثير من مقولات خطابها السياسي والاعلامي. ومثل هذا التفهم الموضوعي يساعد أيضا علي وضع عمليات التخويف التي بدأت بالفعل من وجود الاسلاميين بكثافة كبيرة في البرلمان في حجمها الطبيعي. ذلك أن هذا الوجود الكبير للاسلاميين هو اختيار شعب مصر في أول انتخابات حرة ديمقراطية بعيدة عن أي تزوير أو تدخلات من قبل وزارة الداخلية أو المجلس العسكري الذي يقود البلاد في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة. وبنفس منطق السعي الي تعزيز تيار الاعتدال داخل الحركة الاسلامية في مصر, ثمة منطق آخر وراء محاصرة تلك التلميحات والايماءات التي أخذت تظهر في الأيام التالية لفوز الاسلاميين بأن البرلمان الجديد سيكون برلمان أزمة وليس برلمان الثورة, وأنه سيكون محطة أو نقطة انطلاق أساسية نحو صراع شديد بين المجلس العسكري وحزب الحرية والعدالة علي وجه التحديد. والخطير هنا أن يلمح البعض الي أن المخرج من هذا الاحتمال النظري هو أن يتفاوض بعض عقلاء المدنيين مع المجلس العسكري من أجل البقاء في سدة الحكم, ولو من وراء ستار. والحجة الجاهزة أن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ علي مدنية الدولة وعدم الوقوع في براثن الحكم الديني. في حين أن هذه وصفة لحرب أهلية وفناء الدولة. واقع الأمر هنا أن تصريحات عنترية من بعض رموز إخوانية ساعدت علي بلورة تيار التوجس والقلق لدي قطاعات عريضة من الشعب المصري, وكذلك لدي دوائر صنع قرار كبري عالميا وإقليميا. فالتسرع في طلب تشكيل حكومة بعد انتهاء الانتخابات أعطت الانطباع أن الاخوان يعدون أنفسهم للتفرد بحكم البلاد وأنهم متسرعون في السيطرة علي السلطة. صحيح أن التصريحات التوافقية التي قالها د. محمد مرسي رئيس الحزب خففت جزئيا من تأثير هذه التصريحات العنترية الأولي, حين أكد أن التعاون بين البرلمان والحكومة والمجلس العسكري مسألة حيوية لا محيد عنها, وأنه لا قوة سياسية بعينها تستطيع أن تقود البلاد وتعالج كل اثار التركة البغيضة لنظام الرئيس مبارك المخلوع. ومع ذلك يظل بعض القلق والتحسب مع الانقلاب علي هذا المنحي التصالحي أمرا مشروعا في السياسة وفي الأمن وفي كل شيء. لكن التوجس والقلق وحدهما لا يكفيان, فثمة مسئولية علي القوي المدنية التي تحمل في فكرها العام الايمان بالدولة المدنية ودولة القانون ودولة المواطنة والحريات, أن تتحرك بصورة أفضل مما قامت به من قبل, وأن تطرح منطلقاتها الفكرية بحيث تصل الي الناس أيا كانت مستوياتها الفكرية والتعليمية, وان تختفي تصريحات رموزها المثيرة لغضب كل المصريين.