بعد العصر بقليل تبدأ سنية تجهيز نفسها للفرح. أول ما تفعله الصعود إلي السطح لتأتي بغيارها الداخلي المنشور علي حبل الغسيل. تضعه علي حافة الفراش، وتنظف حذاءها الأحمر اللميع. تختبر صلابة كعبه وتضعه بجوار الغيار. تبحث عن شراب طويل. عندها واحد لا تدري أين حفظته منذ عادت من الفرح السابق. مضي ما يقرب من شهر وما أسهل أن تنسي. نكشت كومة هدومها في ركن الدولاب حتي عثرت عليه، ثقوب صغيرة في كعبه. لا يهم. ستكون في داخل الحذاء. مع ذلك الأحتياط واجب، فربما خلعت حذاءها أثناء هز وسطها علي ألواح خشبة المسرح. يضايقها الصرير الحاد الذي يصدر من الألواح حين تتحرك. يطغي علي صوتها. ألواح ممدودة علي براميل فارغة تتأرجح هي الأخري مع حركتها. ترقبها بنصف انتباه خشية الانزلاق. تتربع علي الفراش وتلفق الثقوب بكعب الشراب، ثم تضعه داخل الحذاء. - ناقص إيه؟ ناقص إيه؟ آه. تعد الحلوي اللزجة. تقف أمام مرآة الدولاب المثبتة بورق لاصق. تزيل الشعر من تحت إبطيها. تتأملها بعد التنظيف، وتحرك ذراعيها هنا وهنا: - زي الفل. تزيل شعر ساقيها، وتتأمل راضية لمعة بشرتهما. - آه. جينا للصعب. تحمل طشتاً صغيراً إلي العتبة وتقعد بجانبه. تزيل بالحجر الأسود الخشن ما تراكم من قشف علي كعبيها، فهي طول الوقت تروح وتأتي حافية في الحارة والبيت. يحلو لها تنظيفهما علي العتبة، ونسوة من الجيران في طريقهن للبيوت أو خارجات منها. يلقين السلام. ويتساءلن: - إيه يا سنية. الليلة ليلتك. حاتغني إيه؟ تقول في دلال: موش عارفة. زي ما يطلبوا في الفرح. تحس وهي في قعدتها علي العتبة أنها محط أنظار الذاهب والآتي، حتي الرجال يسألونها: - فيه ميكروفون في الفرح؟ - آه فيه. - يبقي حانسمعك. تتسلل ابنتها الكبيرة عشر سنوات وولداها الأصغر ومعهم ثلاثة أو أربعة من أصحابهم إلي داخل البيت، تسألهم: - علي فين؟ تقول البنت الكبيرة: - حايقعدوا معانا لغاية ما ترجعي من الفرح. - طيب. يتكوم الأولاد وسط الحوش يرقبون ما تفعل. بعدها تذهب إلي الحمام الضيق. تشطف نفسها، وتدعك جلد كوعيها السميك. تخرج وهي تجفف نفسها. تسمع صياح الأولاد وتراهم يندفعون إلي الخارج. كان صبي المكوجي قادماً يرفع فستانها الأحمر بالشماعة إلي ما فوق رأسه وخلفه زمرة من الأولاد. تخرج إليه وتتناول الفستان منه والضحكة تملأ وجهه. يصيح: - عايز حاجة حلوة. - حاضر. تعطيه زيادة علي الأجرة. يهلل الولد مبتعداً. تغلق علي نفسها المندرة، وتريح الفستان علي الفراش. تتأمله عابسة. بدا متهالكاً. نسلت بعض خيوطه. جاءت بمقص وقطعت ما استطاعت منها. بقي الكثير منها. خيوط صغيرة ربما لا تلمحها العين إلا إذا اقتربت. ومن يقترب. كم الفستان قصير. واسع عند الكتف يكشف عن ابطها حين ترفع ذراعها. ويهللون. تضحك. تعود إلي المرآة. تلون وجهها الأسمر بالأصباغ. وتكحل عينيها. تمشط شعرها. تعلق به فيونكة وردية. وتنحدر الشمس للمغيب. تسمع صوت زوجها "حمامة". تلمحه قادماً يهرول في مشيته. اسمه "عباس". ولا تدري لم أطلقوا عليه حمامة. ربما لصغر حجمه وحركة ذراعيه المثنيتين كالجناحين. يرفع شماعتين، واحدة معلق بها لباسه الداخلي القصير. الأخري تحمل جلبابه الأبيض وسترة بني لا يملك غيرها، ويحتفظ بها للأفراح. - اتأخرت يا حمامة. - لسه الشمس طالعة. العربية برة. - أنا خلّصت. - وأنا حاخلص في دقيقة. فين الطربوش والكمنجة؟ لا يتخيل نفسه علي خشبه المسرح من غير الطربوش. راحت أيامه. انما الأصول أصول. قالت سنية وهي تحشر جسدها الممتليء في الفستان: - الفستان ده يا حمامة أخذ حقه. ما عدش فيه نفس. - نجيب واحد تاني. - كل فرح نقول نجيب وما نجيبش. مصاريف العيال كثيرة. والهباب اللي بتدخنه. - يا ستي نفسين كل فرح عشان أعدل مزاجي. - طيب. - الفرح ده ان شاء الله نجيب الفستان. - ياريت. نفسي في واحد قماشه ستان وردي بيلمع. - يبقي حلو عليك. التقط ملاءة سرير قديمة، فرشها علي سطح العربة الكارو. عادة ما يأخذهما العربجي إلي الفرح ويبقي هناك مستمتعاً بالغناء والزيطة. ويتناول عشاءه مع الجميع، ويضع في كيس يخرجه من جيبه ما تطوله يده من بقايا الأكل. قطع من اللحم وما يكفي من الأرز لعائلته، يرفض في العودة أن يأخذ أجراً من حمامة: - جري إيه يا سي حمامة. كفاية سمعتك إنت والست سنية. الواحد عينه موش فارغة. دائماً ما يكون الفرح في عزبة مجاورة، فأهل البلدة يأتون بفرق غناء من المركز. غير أن أهالي العزب لهم رأي آخر. فهم يتحمسون لسنية وحمامة. - مننا وعلينا. ويرضوا بأي حاجة. ولو ما معكش يصبروا عليك. يستقبلهما أهل الفرح بالزغاريد. ويقودونهما إلي حجرة ليتناولا عشاءهما. وتملأ أم العروس كيساً باللحم والأرز وتهمس في أذن سنية: - عشاء الأولاد. علي قاعدة الشباك. وحافكرك. السرادق مزدحم بالنسوان. والرجال يقفون حولهن والطواقي علي رؤوسهم، والكوشة بها العريس. والعروسة بجانب خشبة المسرح. تهمس امرأة تجلس في المقدمة لجارتها: - شايفة الخواتم في كل صوابعها؟ منين ده كله؟ - موش وقته الكلام ده. خلينا في الفرح. يصعد حمامة إلي المسرح. ومنديل يطل من جيب السترة العلوي استعاره من أهل العريس. يعزف سلاماً سريعاً ويصيح: - العريس والعروسة. ويجلس علي مقعده في مقدمة المسرح. تتهادي سنية صاعدة إلي الخشبة، ترفع ذيل فستانها حتي لا تتعثر به. وبسمة صغيرة علي وجهها. تجلس علي مقعد خلف زوجها. ينحني حمامة علي الكمنجة. يضبط أوتارها ويتنحنح. يرفع رأسه قليلاً منتظراً السكوت. ويسكتون. يعزف ألحاناً كثيرة سبق أن سمعوها في الاذاعة. تتمايل سنية خفيفاً في قعدتها كأنما تتأهب. تقف في المقدمة ملتفتة إلي العروسين. ويعزف حمامة، يعلو صوتها: - يا عروسة هيصي وزيطي. الليلة ليلتك يا جميل. ويعلو الصياح. ويقذف الرجال بالطواقي نحو المسرح. تحني العروس رأسها مبتسمة ويداها معقودتان في حجرها. تعيد سنية الفقرة مرة أخري. ثم تقف ساكنة. يتقهقر حمامة بمقعده مفسحاً لها. تهز وسطها قليلاً ويترجرج صدرها الممتليء. يقبع ولد في نهاية المسرح. يمد عصاً رفيعة يجمع بها الطواقي المتناثرة. يكومها أمامه. في نهاية الفرح يأتي أصحابها للبحث عنها. وأحياناً يعطيه البعض ما فيه النصيب. يشتري به سيجارتين وكيس لب. رمقته سنية أثناء حركتها علي المسرح. في الخامسة عشرة تقريباً. بدأ شعر شاربه الخفيف في الظهور. وتصادف أن أقتربت منه أثناء تحركها علي المسرح. سمعته يهمس: - ارفعي الفستان شوية يا خالة سنية. ابتعدت خشية أن يتهور. تتوسط المسرح وتقف ساكنة. يضرب حمامة أوتار الكمنجة مرتين متتاليتين. تهز سنية كتفيها خفيفاً وتغمض عينيها. وتغني: - آآآه. تسكت ورأسها يتمايل ثم تعيدها. ترجع خطوة ثم تعود للميكروفون: - ودلعني. دلعني. يعلو الصياح. تسكت مبتسمة. ثم تغني: - آآآه. دلعني. دلعني. تسكت مرة أخري. تأخذ نفساً طويلاً. وتهز وسطها بشدة: - ويقول لي كلام. وأقوله كلام. ونعيد الكلام. آآآه. دلعني دلعني. تمتد أيدي النسوة إلي خشبة المسرح بالنقوط. أوراق نقدية فئة العشرة والعشرين جنيهاً. ينحني حمامة ويأخذها، تهمس له المرأة باسم زوجها. يقف حمامة وسط المسرح ملوحاً بالورقة النقدية حتي يراها الجميع. ويعلو صوته: - من فلان. شوبش للعريس والعروسة. وتطلق سنية زغرودة طويلة. ترد عليها النسوان بالزغاريد والصياح. يمد حمامة الورقة النقدية إلي سنية. تدسها في صدرها الذي امتلأ بالنقود وبرزت أطراف الأوراق من فتحة الفستان المربعة حول الرقبة. كانت النسوان في نهاية الفرح يذهبن لسنية ويستعدن ما دفعنه ويعطينها ما فيه النصيب. وتظهر بشاير الفجر في الأفق. يتربع حمامة علي سطح العربة محتضناً الكمنجة داخل كيسها، بجواره سنية ممدودة الساقين. تدعك ركبتيها وملامح ارهاق علي وجهها. ويقول العربجي: - ليلة حلوة. انما يا ست سنية صوتك ما شاء الله. الناس جنبي كانوا حايجننوا. وتمضي العربة في سكون الليل. حركت سنية ساقيها قليلاً. سمعت صوت مزق. تحسست مكانه علي سطح العربة. همست لزوجها: - مسمار. حدق إلي وجهها. همست مرة أخري: - قطع الفستان. - خير. خير.