اختفي كل شيء، الأشكال والأصوات. لم يبق إلا اللمعان، والرائحة. يزيد الأول وتقل الثانية مع كل مشوار. اللمعان غير مكتمل، أجزاء لامعة وأخري مُطفأة، سيستمر حتي يصبح الكل (ميّة واحدة). الرائحة أيضاً مازالت قوية، حين تتحول خليطاً خافتاً من ورنيش وجلد مدبوغ يكون قد انتهي. يوسع بين أصابع يده بالداخل ليتحكم أفضل. النعل متآكل قليلاً وبه شقوق عرضية، هي قديمة ... امسك يا ابني اقتحم الصوت جدران عزلته. جاءت من خلفه أمم وقبائل من أصواتٍ فتعاركوا، وتطايرت أشلاء من الضوضاء في أذنيه. غزا العادم أنفه طارداً رائحة الورنيش. ينظر. سيجارة، تمسكها أصابع يد، و ليد لصاحب الحذاء. يلتقطها: شكراً يا باشا، يضعها في جيب قميصه ويكمل التلميع. ينتهي: اتفضل يا باشا يُراقب الرجل وهو يُخرج قدمه من الشبشب المتهالك، يبدأ في انتعال جزمته وتفحّصها. جنيهان يوضعان في يده. يرحل الحذاء، وصاحبه. يفرد ساقه، ينغزه الألم، يتحسس ورم فخذه، أصبح كلكيعة كبيرة. يتناسي. من جيبه يلتقط السيجارة، يشمها، يضغط عليها برفق، من النوع الغالي . يُخرج (بكتّة) سجائره الرخيصة، يفرغها، و يبدأ العدّ. ثمانية ونصف غير التي أخذها الآن، كلها عزومات من آخرين، يشكرهم، يأخذها ويضعها في جيبه. لا يتردد أبداً ، تعلّم منذ زمن ألا يرفض أي شيء يُعطي له، يجب انتزاع كل ما يمكنه انتزاعه، الآخرون أيضاً سيأخذون كل ما يستطيعون، لا وقت للدلع، إما تأخذ أو تموت، وهو يجب أن يعيش يوماً آخر. يضع السيجارة الجديدة في العلبة، ثم يضع فوقها الأخريات، فقط يُجنِّب النصف، يشعله، ثم يضع الكبريت والعلبة في جيبه. الدخان يدخل رئتيه، يتأمل حوله، الشارع حركته تزداد، كلٌ ذاهب لعمله. يزفر. ينظر يساراً. امرأة مقبلة، ساحبة في يدها طفلا. يسحب نفساً جديداً إلي صدره. هي تتحدث في الموبايل، بينما يحاول الطفل مجاراة خطواتها وهو يبكي. تقطع حديثها، تتوقف وتوقف الصغير، تصفعه بقوة علي وجهه : مش عايزة صوت. ينفخ الدخان وهو يتابعهما. الطفل مصدوماً للحظة، تمسكه وتجره وهي تستأنف حديثها في المحمول. فعلاً توقف الصغير عن البكاء، وبدأ الصراخ. يعبراة. يمتص سيجارته مجدداً وهو يتأمل مؤخرة المرأة وهي تبتعد. ... رغم وهنها تناديه أمه بصوت قوي، يقف أمامها، تضربه علي جانب رأسه. يزعق: بتضربيني ليه ؟! نفس أخير من السيجارة المحتضرة. صوت كحت، يلتفت. صبي يتشبث بظهره وحش ضخم علي شكل شنطة مدرسية، حذاؤه يُكحّت الأرض وهو يمشي. يزفر الدخان. يناديه، يخبره أن هذه المشية ستذيب الكعب وتنهي الجزمة. يستجيب الصبي ويعدّل مشيته. خطوات، ويعود لمشيته الأولي. ينظر له وهو يبتعد: « يا ابن الكلب »، ويبتسم . يضم ساقه المفرودة: آه، يضغط الألم بيده. ينظر البائع في الكشك المجاور. لسه حكاية ورم رجلك ده ؟ . أيوه. يا ابني متروح المستشفي اللي هنا تشوف أيه الحكاية مستشفي أيه ؟! هو أنا لاقي آكل ! . دي مستشفي حكومي يا عم ربك يسترها. شخص يمر أمامهما. المشية الغريبة تجذبه، يتابعها. تتخطاه القدمان، خطوات وتتوقف، تعود: عايز امسح الجزمة. ينظر لأعلي. شاب، "بدلة"، يد ممسكة بحافظة أوراق. يشير له فيضع قدمه. يبدأ بإزالة الغبار مستخدماً قطعة قماش. ينكشف أمامه الحذاء، بشرته، درجة لونه، حالته. يتأمله كخبير تجميل يتفحص وجه قبل وضع المكياچ. بنظرة يحدد العيوب وكيفية علاجها، والمميزات وكيفية إظهارها. يضغط علي المقدمة برفق، تنضغط، الحذاء أكبر من القدم داخله. بطرف الفرشاة يأخذ قدرا من الورنيش هو حدده للحالة بدقة، و يبدأ العملية. يعمل حتي يصل لأفضل نتيجة، يشير للزبون أن يبدّل قدمه، فيفعل. يكرر ما فعله، إزالة غبار، معاينة، تحديد المطلوب، بدء العمل. هو غير مرتاح. يعمل أفضل والحذاء بين يديه، قربه يريه حِدة اللون وأماكن اللمعان. وقت تكون يده في الحذاء يتوحد معه، لكن حين يعمل والحذاء في قدم الزبون يكون بعيداً عنه وغريباً، لا يستطيع وقتها حتي استنشاق رائحة الورنيش وهي تمتزج برائحة الجلد. ينتهي التلميع: تمام يا بيه. يعطيه الشاب ورقة مالية ويرحل مسرعاً. يتفحصها، خمسة جنيه جديدة. الشاب يبتعد: «كان حقي قلتله يظبط مشيته، لحسن النعل بدأ يتّاكل من الأجناب». بيده يمسح سطح الصندوق مزيلا الرمل من أثر الحذاء، فجأة يشعر بشيء قد شرط كفّه. ينظر. فتحة في يده يَخرُج منها دم، يضغط علي الجرح. يتفحص السطح، مسمار بارز قليلاً. يبحث حوله، هناك زلطة قريبة. يقوم لجلبها، يصعقه ألم فخذه، لا يتحمل، يجلس. عرق علي جبينه، يمسحه. يتكئ علي الساق السليمة، ويقوم ، يتحمل ألم الأخري. يلتقط الزلطة ويعود . يجلس وهو يضغط علي أسنانه، الورم يكبر وألمه يزيد كل يوم، ماذا يفعل؟ مصيبة لو سرطان. يتحسس المسمار. يذهب للمستشفي ؟ حتي يبهدلوه! لا. يبدأ الدق. علي الأرض في ممر المستشفي تتمدد. هو صبي صغير بجانبها. تتأوه بضعف، لكن بلا انقطاع. كل "آه" سهمٌ مسموم ينطلق من فمها لينغرس في أذنه ويتسرب السم داخله فيقتل روحه. دون إلقاء ولو نظرة واحدة تمر الممرضات أمامه، والأطباء. مؤخرته تؤلمه من طول الجلوس. يقف. آهاتها مستمرة. تمر ممرضة، يتبعها . و النبي يا ست أمي تعبانة، شوفيلها أي دوا. أشوف لها فين! وسّع يا ابني. تناديه أمه بضعف، يكمل. والنبي إديها أي حاجة تريحها. واد، ابعد عني بدل ما أرميك أنت وأمك في الشارع. تدفعه بقوة وتكمل طريقها. رغم وهنها تناديه أمه بصوت قوي ... مستمر في الدق. خلي عينك علي الكشك يقولها البائع، يخبره أنه ذاهب لجلب شئ، لن يتأخر. يرد: طيب، ويستأنف ما يفعله. بحرص يتحسس السطح، استوي. يُلقي الزلطة بجانبه. في الشارع تتزاحم السيارات وتتصارع الكلاكسات. يتأمل كفّه، التأم الجرح. يبل أصبعه بلسانه ويمسح بقايا دم متجمد. دخان أسود كثيف يخرج من سيارة. يخنقه، يسعل: يخرب بيت أمك ، فمه مليء بطعم العادم، يبصق. تبتعد السيارة. يري أمين الشرطة مقبلاً من القسم القريب. الطعم قوي في جوفه. يبصق من جديد. يضع قدمه: بسرعة علشان خارج مع الزفت المأمور. يبدأ المسح. نظرة جانبية، رجل يتفحص الجرائد أمام الكشك. سريعاً يمر بالفرشاة، لا يهتم. هي إتاوة مُجبر عليها، فليدفعها بأسوأ طريقة. أجزاء متقشرة أعلي النعل، خطوط عرضية مُكرمِشة علي الوجه، الكعب متآكل، هي علامات علي كِبر السن والمعاناة. يشير بتبديل الأرجل. ينظر، الرجل ممسكا بجريدة ويتلفت حوله: هنا يا بيه، يقبل، يريه الجرنال ويعطيه الثمن. أمين الشرطة بحدة: اخلص بقي. الطعم في فمه يُشعره بالغثيان. يُكمل. في وقت آخر ولشخص آخر كان سيغطي الأماكن المتقشرة ببعض الصبغة، كان سيزيد الورنيش لإخفاء أخاديد الوجه العجوز، ربما كان سيخبر صاحبها أن النعل يحتضر ويحتاج لتغيير. لكن مع الواقف أمامه الآن فلن يفعل، فليُحرق هو وجزمته في يوم واحد. الغثيان يزداد. خلاص. ينزل الأمين رجله ويمشي دون دفع شئ. يكاد الطعم في جوفه يدفعه للتقيؤ، يبصق عدة مرات . يزعق: بتضربيني ليه ؟ تهمس من بين أسنانها: يا واد، علشان تاخد حاجة لازم تدّي حاجة مكانها، وإحنا معناش فلوس ندفعها، فهما بياخدوا حقهم شتيمة وبهدلة فينا. لازم نستحل علشان ناخد العلاج. مش قادر تستحمل شوية؟ عايزهم يرموا أمك في الشارع؟ تغيم عيناه. يحاول منع الدموع، فيتولد ألم شديد في حلقه. يجتاحه شعور بالقهر. تحتضنه أمه. يبكي. تتوقف مرأة و تأخذ بعض البسكوت من الكشك. يشير لها فتأتي وتعطيه الثمن. ينظر أمامه، السيارات في الطريق تكاد لا تتحرك. صوت علي يساره، يلتفت. الكلبة التي تأتي كل يوم. يتبعها الجروان الصغيران. تبحث في القمامة الملقاة، لا تجد شئ، تتجه للجدار وتستلقي في ظله. يتقافز الجروان حولها. يتحركان نحوه خطوات ثم يعودان. أحدهما يقود والآخر خلفه. يقتربان أكثر في كل مرة. في النهاية يبدءان في القفز حوله، يرفع أحدهما قائمتيه ويضعهما علي الصندوق، يداعبه: عايز تمسح جزمتك أنت كمان، يحرك ذيله في سعادة يُقبل البائع حاملاً كيسا أسود صغيرا ويدخل الكشك. يقوم ليعطيه ثمن ما تم بيعه. يكتم ألمه. يتبعه الجروان، يهشهما فيجريان باتجاه أمهما. من الشباك يمد يده بالنقود، يأخذها البائع ويطلب أن يأتيه عند الباب، يفعل ذلك. يُخرج الرجل من الكيس علبة دواء ويلتقط منها شريطاً، يقتطع حبّة بغلافها ويعطيها له: خد واحدة علشان ربنا يباركلي في الباقي. يُعاينها، حبة زرقاء. كاد يخبره أنه غير متزوج ولا يحتاجها، لكنه سكت. وضعها في جيب قميصه وعاد لمكانه. يتحمل الألم وهو يجلس، يُخرج علبة السجائر ويضع الحبة فيها . يمر الوقت. قدمه تشوي من الشمس. تجاهل لفترة، لا يريد التحرك، يخشي ألم فخذه. لكنه لم يعد يحتمل. كاتماً وجعه يبدأ بالتزحزح يميناً. دخل في ظل الكشك. ينظر يساراً، الجروان نائمان بين أرجل أمهما. يبتسم. يسند رأسه للجدار ويغمض عينيه. أصوات متداخلة، منادين علي سيارات الأجرة، باعة ينادون علي ملابس، صوت مُسجَّل يخبر المارة أن: "أي حاجة باتنين ونص". الجميع ينادون علي رزقهم، وأنت تتمرقع. يفتح عينيه ويعتدل، يمسك الفرشاة ويخبط علي حافة الصندوق ثلاث مرات .. يزعق: جِزام.