سالي عادل نحو سماء العاصمة الملبدة بالغيوم، تتصاعد الصلوات والأدعية، فتشتبك مع اللعنات النازلة. وعلى رأس شارع جانبي، يُلقي ملمّع الأحذية العجوز فرشه وأدواته، تنتفخ أوداجه، يشير بإصبعه إلى الزبون الذي انسل هاربًا، ويقول بصوته الجهوري من بين شفتيه الغليظتين ولعابه المتناثر: "زوج بني... زوج بني.... زوج بني....". ثم يتصاعد أداؤه تصاعدًا دراميًا: "زوج بني.... زوج بني...... زوج بني". حتى يسقط رأسه منكفئًا فوق صندوقه.
***
من بعيد، يخطو عباس يتعثر في طريقه لعمله، ينظر إلى ملمّع الأحذية العجوز الملقى على قارعة الطريق منكفئ الوجه فوق الصندوق، هو ليس من طبعه أن يلمّع حذاءه، ينظر إلى حذائه الذي يصعب تمييز لونه من تراكم ذرات التراب فوقه، ولكنه سيفعل من أجل مساعدة ذاك المسكين. يرفع قدمه اليسرى فوق الصندوق ويربت بيده فوق كتف العجوز: - يا عمّ! يرفع ذاك وجهه بوهن، ويمسح غمصًا عن عينه وزبدًا عن فمه، ثم يبدأ في التقاط أدواته.. يلمح عباس قدرًا من الطيبة في قسمات العجوز، بينما ينفض ذرات التراب بفرشاة مخصوصة، يدير خرقة ذهابًا وإيابًا على أطراف الحذاء باحتراف، ويمعن في تلميع الحذاء بالورنيش مرة بعد مرة.. يضيّق عباس عينيه لتفادي الشمس المُسلَّطة، ويمسح حبات العرق عن جبينه بطرف كمه، بينما لا يزال العجوز مثابرًا على التلميع، ينظر إلى ساعته ثم يبدل قدمه اليمنى باليسرى قائلاً: - يكفي هذا، لتعمل على الأخرى. يرفع العجوز وجهه إلى عباس فيما تتبدل قسماته الطيبة إلى سحنة شيطانية: - ما هذا يا أفندي! هل رأيتني أنهيت عملي؟ ألا تبدي الاحترام لرجل يؤدي عمله؟ يرتج عباس في مكانه إثر نظرة العجوز النارية، يجد أنه يبتلع كلماته إذ ينطقها: - ولكن.. ليس قلة احترام.. فقط.. سأتأخر على عملي.. يعاجله بنظرة آمرة، وبنبرة تتعالى: - وأنا أقول لك أعد قدمك اليسرى ولا تنزلها حتى يعود حذاؤك جديدًا. - حسنًا، حسنًا.. يجد نفسه منساقًا إلى أوامر العجوز في سلاسة يجهل سببها.. يجد أنه مشدوه إلى عالمه الخشن، يمكنه الآن أن يلحظ عروق كفّه البارز، يمكنه أن يحصي التجاعيد أسفل عينيه وأعلى جبينه، يمكنه أن يصغي لصوت تنفسه الثقيل بينما يعمل، كما يمكنه أن يتحاشى أي نظرة جديدة له. وأخيرًا، يرجع العجوز بظهره للوراء، يضرب على صندوقه بظهر فرشاته، ويشير إلى ساقه الأخرى من دون أن يرفع نظره إليه.. ينزل عباس ساقه اليسرى، فيما يرفع الأخرى بتردد، فيقبض عليها العجوز، ويعكف على متابعة عمله. يذهب عباس بخياله بعيدًا، يفكّر في أستاذ متولي الذي سيلحظ تأخره، يفكر في مدام ناريمان التي ستحاول أن تنقذه وتوّقع له في دفتر الحضور، ثم يعود بتفكيره إلى أستاذ متولي الذي سيبحث وراءه، ويعلن أنه يغش في الدفتر، وبالنهاية يفكر في نصف اليوم المخصوم... وعلى الرغم من هذا كله، فإنه يتوق لأن يرى نظرة الغيرة على وجه أستاذ متولي حين يلمح لمعان حذائه، ستطفئ هذه النظرة ناره، وتشعره بالرضا. وذلك حين صعدت ضحكة مجلجلة نحو عنان سماء العاصمة، ارتجف لها بدنه كله، ثم انحنى بعينه يبصر العجوز الذي بدت ضروسه المسوسة، من بين أسنانه النخرة، سأل في رهبة: - ماذا! ماذا هنالك؟ انتهى العجوز من ضحكته، ثم سعل في سعادة وعاد يتابع عمله: - لا شيء ذو بال! إنه زوج بني آخر قد أدى مهمته. - زوج ماذا؟ ما معنى هذا! لم يُجب العجوز، واكتفى بأن منح حذاءه وجهًا آخر من الورنيش، ثم أبعد يديه وأعلن: - تمام يا أفندي! ها قد عاد حذاؤك جديدًا أنزل عباس قدمه إلى جانب الأخرى، ثم نظر في ابتهاج إلى زوج الأحذية البرّاق الذي أصبح له، والذي للمرة الأولى يتضح لونه: إنه أسود حالك برّاق إذا ما انعكس عليه الضوء.. إنه يشعر بالفخر أنه يرتديه، ولربما يشعر بالندم أن تأخر كل هذا الوقت في تلميعه، وعلى الفور أدخل يده في جيبه ومنح العجوز قطعة معدنية، وهمّ يغادر حين استوقفه نداء العجوز الهادئ: - يا أفندي! - نعم - ما هذا؟ - جنيه - وهل هذا ما أستحقه؟ فكر عباس للحظة، لربما فكر في القيمة المستحقة، ولربما في هدوء العجوز الذي سينقلب عاصفة إذا ما أغضبه، وضع يده في جيبه بحثًا عن عملة أخرى، فتش جيوبه جيّدًا، فلم يجد إلاّ ورقة صحيحة.. تلعثم لحظة، ثم لجأ إلى تطييب خاطره: - اكتفي بالجنيه، واعذرني، لا أملك فكّة. بادره العجوز بخشونة: - وهل أشحذ منك لتقول لي "لا أملك فكّة"؟ تلك الوقاحة التي أثارت غضب عباس، فهتف منفعلاً: - وهل تتوقع أن أمنحك ورقة صحيحة؟ لماذا!!؟ هل اخترعت حذاءً جديدًا! هل أتيت بمعجزة من السماء! أنت بالكاد لمّعت الحذاء! اتسعت عينا العجوز، وأحدقه بنظرة صائبة فيما يضغط على مقاطع كلماته: - ألم أخبرك سابقًا.. ألاّ تقلل.. من شأن رجل.. يؤدي عمله!؟ أصابت النظرة تماسك عباس، فحاول أن يلقي بها خلف ظهره ويتقدم، ومن خلف ظهره راحت تشيّعه لعنات العجوز الذي أحمر وجهه وانتفخت أوداجه وراح يردد: "زوج بني... زوج بني.... زوج بني....". كان عباس يشعر بأنه لاعب سيرك فوق الحبل، يبذل جهده كي لا يقع ويضحك الناس عليه في أول عروضه، ثم يخصم له صاحب السيرك نصف يوم. وما زالت تطاله من خلف ظهره عبارة العجوز المبهمة: "زوج بني.... زوج بني...... زوج بني". وما جدوى الزوج البني! إنه نوع من الكماليات ليست لأمثاله، قد يليق بك ربما يملك كثيرا من البزات البنية والبيج وما بينهما، والتي إن ارتدى عليها زوج أحذية أسود ستوّبخه زوجته وتخبره أنه لا يفهم في الذوق ولا يليق بها أن تظهر جواره في المجتمعات الراقية. أمّا هو، فإنه لا يذكر أنه ارتدى في حياته زوجًا بنيّا، فضلاً عن بزة تليق بالزوج البني! وإلى جوار رأسه، تروّعه قذيفة مصوّبة غير أنها -لحسن الحظ- أخطأته، ينظر إلى فردة الحذاء البنية التي استقرت على الأرض أمامه، ثم يستدير ينظر خلفه في استفهام، فيطالع العجوز على بعد، وقد نظر تجاهه وأعلى من صوته المرتفع من دون حاجة: - هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة. لا يريد أن يصبح سخرية، استدار وأكمل طريقه. لاعب السيرك يتأرجح، كما أن الحبل ينقطع، ونصف اليوم المخصوم سيصبح يومًا كاملاً حين يستدير ويعود للبيت. أما الأكثر سوءًا، فإنه لن يرى نظرة الغيرة بعين الأستاذ متولي من لمعان حذائه.
***
لا يريد أن يبدو كأضحوكة، توقف ونظر إلى حذائه، لاعب السيرك لا يمكنه أن يسير على الحبل بزوج من الأحذية حتى وإن كان أسود وللتو أصبحت لامعة، يلمح مئذنة على البعد عالية عالية، يدب الأمان في قلبه فجأة، يتجه إلى المسجد في سرعة، يخلع نعليه على الباب، ويدلف خفيفًا إلى الداخل. ينتبذ مكانًا قصيًا قد يظنه كثير من المصلين خلوة، يشرد في خواطره عن حاله فيما يظنه البعض تفكّرا، وتسقط من عينه دمعة يظنها أحدهم خشوعًا. يهز رأسه يمينًا ويسارًا وما عاد هناك من أحد لكي يظنه تصوّف، ينتبه للمرة الأولى إلى خلو المسجد بالكامل من المصلين، لا يدري كم مكث على هذا الحال، ولكن يبدو أنه أطال. يشعر بأنه أصبح أفضل وقد هدأ روعه وتماسكت أعصابه، يحس بحنين إلى الوجود في كنف زوجته وبيته، دون تلكع يتجه إلى الخارج، لم يكن يرغب حقًا في أي شيء يعطله عن تحقيق رغبته، ولكن: أين ذهب ذاك الحذاء؟ يتفقد الأرفف بيديه بالرغم من أنها أمام ناظريه خالية، لا يوجد أثر لحذاء أسود لامع.. هاهاها.. تتملكه روح الدعابة فيقهقه في حرمة المسجد: هل طمع أحدهم في حذائه في أول يوم يبدو فيه كحذاء عليه القيمة! لقد كان من الحكمة أن يتركه بترابه. يتوقف الضحك فجأة، يلمح في الزاوية البعيدة لأدنى رف من الأرفف.. حذاءً يشبهه تمامًا ، في هيئته ولمعانه وحتى مواضع ثنياته، فقط يختلف في تفصيلة صغيرة، فلونه هو اللون البني. يرفع زوج الأحذية بإصبعيه إلى أعلى رأسه، وينظر من أسفلهما إلى المقاس المطبوع. يسقطهما إلى الأرض التي ترتعش فوقها أصابع قدميه في الجورب، يدير نظره حوله في حذر، ثم يدس قدميه في الحذاء ويخرج من المسجد. يُتبع