الترجمة، بتقاليدها العريقة في الثقافة العربية، تستحق أكثر وأروع مما هي عليه الآن. مؤسساتنا العاملة في الترجمة علي المستوي القومي، لو طبقنا عليها تصور الخطة القومية للترجمة (التي أقرها وزراءالثقافة العرب في 1997 وتفترض في مداخل النشاط الأساسي للوحدات أو المؤسسات العاملة في الترجمة: تأهيل المترجمين، وإنتاج الكتب، فالتنسيق والمتابعة الإحصائية) فسنكتشف أن شروط تحققها التام تأتي من خارجها؛ لأن الرصيد الأكبر من مترجميها وخبرائها يقع خارج إطارها، وحصيلة إنتاجها الترجمي تظل بحاجة إلي حركة نشر قوية، هي الأخري تأتي كعنصر أساسي في التسويق الذي تكتمل به عملية النشر في معناها الصحيح، ولا أدري إلي أي مدي يمكن للنشر الحكومي، في الترجمة، أن يؤثر في صناعة النشر، سواء بخلق أشكال مختلفة من الإنتاج الفكري أو بتوسيع آفاق النشر العلمي والأكاديمي عبر انتاج الأقسام العلمية والجامعات ومراكز البحوث والنوادي العلمية، وغيرها من الوحدات التي تشهد إنتاجا ترجميًا محدود الانتشار بطبيعة العوامل الداخلة في صياغة أهدافه وتحديد جمهور القراء المستهدفين (مازلت أري للمركز القومي دورا مأمولا ًفي الاضطلاع بهذه المهمة). طبعا نحن لدينا أنواع أخري من النشر تتناول، من زوايا مختلفة، نشاطا ترجميا بشكل ما، وذلك بواسطة النشر الصحفي والتجاري والأكاديمي. ولكي أكون واضحا، من البداية، فأنا أتفهم جدا الاتجاه إلي تكثيف إصدار الكتب عبر المركز القومي للترجمة (وهو نشاط يستهدف أساسا زيادة حصيلة الكتب المترجمة) وأتفهم أيضا بعض أسبابه القوية في اتجاه يدعو إلي التكتل في صناعة النشر والترجمة، وهي أسباب تستند إلي أصداء منتشرة بطول ساحة النشر العالمية (وهي ساحة أوروبية، بصريح القول، فمن بين أكبر عشر مجموعات نشر عالمية توجد سبع مجموعات أوروبية، لحما ودما، وباقيها علي الاقل فهو تابعها مزاجاً وهوي!) من هنا وهناك تواترت أصداء التكتل والتضافر بين مؤسسات الترجمة الأوروبية -التي ستضخ في حركة النشر الترجمي دماء جديدة- خصوصا بعد مؤتمر اللغات المتعددة في باريس 2008 وقد تمخض عن تأسيس برنامج أوروبي للترجمة واتخذ التكتل منحي عمليا عندما قام شركاء »الخطة الأوروبية للترجمة الادبية« بوضع تصور لأوضاع الترجمة في أوروبا كما تعكسه المعلومات والوقائع المتوافرة لدي مراكز خبرة تتبع مصادر مختلفة..فهنا نجد نموذجاً حديثاً جداً لفكرة التكتل في الترجمة والنشر. قبل ذلك، وفي بريطانيا كانت صناعة النشر قد ألقت بأعباء مالية هائلة، علي الناشرين بعد تدهور تجارة التوزيع، مما شكل عبئا فادحا علي شركات النشر الصغيرة والمتوسطة، فصار التكامل، منذ الستينيات، في سياسات النشر هو الحل؛ إلي أن غمرتها موجة الاندماج في الميديا العولمية أول الثمانينيات، لتشكل كتلة ميديا قوامها مجموعات نشر هائلة استوعبت في نطاقها عددا من دور النشر المتوسطة، في مسعي واضح نحو توسيع مداها وتعظيم طاقتها الربحية و"توحيد" أطر الميديا مع نسق النشر التقليدي. شركات أساسية شكلت هذا المنحي..منها: راندوم هاوس، في الولايات والمملكة المتحدة وبرتلزمان في ألمانيا ومجموعة بنغوين في المملكة المتحدة وهاربر كولنز في الولايات ونيوز كوربوريشن في استراليا، وبعضها طور أداءه علي مستوي عولمي حتي أن مجموعة "برتلزمان" (وهي ألمانية) صار لها مع راندوم هاوس الامريكية نصيب الثلث من سوق الكتاب الأمريكي وامتد نطاق عملها ليشمل أسواقا أخري للكتاب في ألمانيا وأسبانيا واليابان. وعلي ذكر اليابان، ورغم أنها تقع ضمن نسق رأسمالي كالغرب، فإن كثيراً من ناشريها كانت تحدوهم، بالأساس، دوافع تنويرية داعمة للتطور الثقافي، وتنطلق فلسفتهم علي أسس اندماجية كوحدة عمل متكتلة تجاه غايات تعظم من المردود الثقافي، وهي في ذلك أقرب إلي الغرض الذي يقود المركز القومي عندنا في توجهه التنويري وغاياته للارتقاء بالثقافة العربية لكن حتي صناعة النشر بمنحاها التعاوني علي الطريقة اليابانية شهدت تراجعًا حادا في هوامش ربحها، حتي وصلت إلي الصفر عند بعض صغار الناشرين. هذا ولم يكن اتجاه التكتل في صناعة النشر الأور/أمريكي ليجدي نفعاً، خصوصاً أن الناشرين عملوا وفق منطق تجاري وأصبح نشر الكتاب يتجه إلي التوافق مع مؤشرات الأداء التي تتبعها الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون..الخ، ثم تخلي الناشرون عن تقدير معقول للقيمة الثقافية والأدبية لصالح مشروعات مناسبة للدمج في تكتل ساحات الميديا،حيث تتكامل أقسام النشر المختلفة تحت مظلة سياسات مؤسسية عالمية تهدف إلي الربح بشكل خالص.
وللأسف، فالجوانب الكبري من صناعة النشر الغربية، في ظل تلك "التكتلات العولمية للنشر" لم تكن خالقة لاتجاهات إبداعية، بل رضخت لإلحاح التقديرات المالية واتجاهات السوق، مما أوجد ظروفا مواتية لتعاظم المد الثقافي الناطق بالانجليزية؛ وهو مايعني في جانب منه، تردي أحوال الترجمة البينية علي مستوي عالمي، تقريباً. حاولت أوروبا في السنوات القليلة الماضية تدارك هذا التردي، حتي أن بناء مشروعها السياسي والثقافي تجاوز محدودية الجوانب التجارية والمالية والقانونية للتبادل الثقافي؛ بغية دعم حقيقي للكتاب المترجم، وصحيح أن دعمها للترجمة يعد هامشيا جدا قياسا إلي الحاجات المطروحة عليها، ثم هو قليل للغاية مقارنةً بمشروعات تسعي إلي تنشيط التنوع اللغوي عبر وسائط مختلفة، خصوصاً أن نسب إنتاج الترجمة تراجعت كثيرا في المناطق اللغوية المركزية (بريطانيا 3٪، النمسا، ألمانيا، سويسرا 10٪ تقريباً) في حين لم يكن لأوروبا أبطال حقيقيون في الترجمة للغرابة- سوي التشيك والسلوفاك، بنسب إنتاج ترجمي تتراوح بين 70-80٪) وثمة محاولات الآن لدعم الترجمة الأدبية والمترجمين. ولندرك أن الترجمة الأدبية، تلك التي تقع في قلب المشروع الأوروبي للنشاط الترجمي، حالياً علي الأقل، يرجع في جزء منه لمعالجة خلل وقعت فيه ديناميات ثقافية عندما تسببت في تراتبية مجحفة بعملية التبادل الثقافي العالمي. من هنا فقد تأسس نظام الدعم ضمن مشروع الترجمة الأوروبي لمحاصرة تأثير الضوابط الاقتصادية في ديمقراطية التجارة الحرة، بحيث لا تترك عملية العرض والطلب لآليات السوق الحر، وتبعاً لسياسة دعم جادة تقوم علي أدوات تمويلية، بحيث تصبح القرارات المتعلقة بدعم الترجمة قوة توجيه فوق إرادة السوق، ومن ثم تعمل علي تشكيل الساحة الأدبية وفق اتجاهات متنوعة وتفضيلات مختلفة. من المصادفات أن صناعة النشر بدأت في التراجع عن فكرة التكامل، ثم إن كثيرا من فرص النشر عبر مجموعات متخصصة، حتي لو كانت تعمل بشكل فردي، تبدو أعظم جدوي. وحتي الناشرون ضمن أطر التكتلات الكبري صاروا يعملون كوحدات مستقلة، أكثر من أي وقت مضي، بما ينذر بنهاية وحدات النشر العملاقة، والغريب ان ذلك يترافق مع عودة الاعتبار إلي الكتاب المطبوع دون التركيز المبالغ فيه علي الملتيميديا، وربما كان السبب في بقاء تلك الوحدات الفردية النشطة تعمل ضمن شركات عملاقة وفي وسيط قديم كالكتاب، هو أنها تمثل "رأسمال رمزيا" لمكانة وقيمة شركات الميديا العاملة في النشر. تلك القيمة التي تتبدي ضمن عناصر الثقافة الترجمية إذ يراد لها أن تتأسس في الجانب الآخر من المتوسط.. هي قيمة التقاليد الثقافية التي أورثت أوروبا تاريخًا من الترجمة.
أطرح، هنا، إطلالة علي جوانب من الترجمة والنشر هناك، لكن بوعي يعرف مأزق وعوار الشخصية الثقافية للترجمة الغربية؛ حيث حاصرتها طوال الوقت ضرورات التواصل بين وحداتها اللغوية وبين مواريثها التاريخية منذ ضياع غطائها اللاتيني المشترك، وتبقي حقيقة تمثيلها الموضوعي للثقافات العالمية محل مراجعة باستمرار. وأيا ماكان فهي تجربة استفادت من تعدد وحداتها بدرجة أسهمت في الوعي بالتنوع. وإن كان تنوعا من وراء ستار.. وبين وحدات تتنافس علي أدور متميزة، وإن كانت تتبع نفس النسق الثقافي [هي حتي في المفاضلة بين كياناتها اللغوية تنازعها الشقاق، زمنًا، حول ما إذا كان الله قد كلّم آدم بالسويدية..وأنطق الحية المشئومة بالفرنسية؟] التجارب حولنا لها طبيعتها، لكننا سنصل إلي نقطة نحتاج معها إلي تقدير مهم لل "نظام الدولي للترجمة" خصوصا وقد أًصبح حقلا ثقافيا عولميا، ثم إن برامجنا تنحو إلي الترجمة من العربية وإليها؛ أي أن صلةً ما بصناعة النشر العالمية تبرز كضرورة. من ثم يفرض التنوع نفسه صياغةً استراتيجية عربية للترجمة. فقضية الترجمة، إذن، أعمق من جزئية تكثيف أو توحيد النشر عبر وحدة مركزية. فتلك خطوة إجرائية ضمن رؤي مؤسسية حكومية تستكشف فعالية ممكنة للإنتاج الترجمي، ولكن الدعم الحقيقي لهذا النشاط سيتطلب مبدئيا النهوض ب"حركة الترجمة العربية" وهو جهد يتجاوز إطار المؤسسة الإقليمية (بصراحة، فأنا أتمني للمركز فعالية قومية حقيقية، رغم أن مشروع الخطة القومية السابق ذكره، كان ينص علي إنشاء معهد للترجمة بالجزائر ومؤسسة للترجمة في سوريا، وأظن أن نشاطا مكثفا للمركز القومي للترجمة يحمل في طياته وعداً بارتياد أفق أرحب) . نحن نقول بضرورة مراعاة التنوع و "التنوع" الذي نقصده يشتق دلالته من ضرورة موضوعية في تفعيل ثقافة ترجمة عربية، قائمة علي ربط عناصر الانتاج الترجمي، بمكوناته المعرفية والتطبيقية والتنسيقية، وتستهل أداءها بفتح حوار ثقافي كبير حول هذه القضية، وتتواصل مع حركات الترجمة النشطة في العالم (اليابان، روسيا، التشيك، السلوفاك، هولندا..علي الترتيب) وتنفتح داخليا علي مكامن الأداء الترجمي غير المنظور في الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات العلمية. يبقي أن الجزء الأهم في تفعيل الأطر الفكرية لحركة الترجمة يقع علي عاتق الأكاديميات العربية، خصوصاً في هذه المرحلة.