رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة تبدأ من الفرد
عن الطفولة والفقر والعزلة .. عن الطفولة والفقر والعزلة
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 10 - 2014

الطفولة والخيال، الفقر والقواميس، الترجمة والعُزلة، الثورة، هي الموضوعات المطروحة خلال اللقاءات التي أجرتها الكاتبة والصحفية إلينا بونياتوسكا مع خوليو كورتاثار، والتي لم نكن نعرف منها سوي شذرات. حوار متنوع وجدير بالاهتمام، شأن كتابات صاحب "كل النيران النار".
ذكريات الطفولة والمراهقة
هل لديك أخبار عن لويس سارديني؟
- لا أعرف عنه أي شيء. أليس ممثلًا كوميديًا توفي منذ زمن؟
في مقرّ دار نشر "سيجلو 21"، خلف الأبواب الزجاجية، يقف رجل أصلع في انتظار الحصول علي أوتوجراف، متأبطًا كومة من الكتب. عندما يستعد خوليو للتوقيع، يهمس الأصلع بشيء عن لويس سارديني. فأسأل خوليو:
وما علاقتك ب »لويس سارديني«؟
- لا شيء علي الإطلاق. دائمًا ما تحدث لي أشياء غريبة. أذكر سيدة غارقة في عرقها، متدفقة المشاعر، لاحقتني بقصد تهنئتي: »أنا أعشق قصصك، أنا وابني مفتونان بها. ألا تريد أن تكتب قصّة بطلها يُدعي هاري المزيّت؟« أعتقد أنها كانت تريد إدخال السرور إلي نفس ابنها. سأعترف إليكِ بشيء يا إلينا، حاولت بالفعل أن أكتب قصّة عن "هاري المزيّت".
وما الإغواءات الأخري التي تستسلم لها؟
- إغواءات كثيرة.
يضحكُ، وأسنانه (الأمامية المتباعدة) أسنان طفل. لو لم تكُن آثار النيكوتين عليها بادية، لقلت إنها أسنان لبنيّة. بالتفكير جيدًا، أجد أن خوليو بأكمله لبنيّا، مغذياً، طيباً، يُدفِّئ النفس ويسمح لكل من اقترب بأن ينهل منه. لا يحافظ علي أي مسافات، ليس فيه من النجومية شيء. يتقبّل جهلنا، ضعفنا. يعانق. من المستحيل أن يستاء المرء برفقته. للنساء عذرهن إذا أغرقنه بالرسائل.
ما الإغواءات الأخري التي استسلمت لها طفلًا؟
- ذكريات الطفولة والمراهقة خادعة. كان ينتابني شعور سييء وأنا طفل.
لماذا؟ هل كان الواقع يثقل عليك؟
- نعم، أعتقد أنني كنت حيوانًا ميتافيزيقيًا منذ عمر السادسة أو السابعة. أذكر بكل وضوح أن أمّي وخالاتي (تركنا أبي أنا وأختي في سن صغيرة للغاية) وباختصار، أولئك الذين عرفوني صغيرًا، كانوا يشعرون بالقلق بسبب شرودي واستغراقي في الخيال. كنت دائم التحليق في عالمي. لم يكن الواقع المحيط بي يثير اهتمامي. كنت أري الفجوات، كالمسافة التي تفصل بين كرسيين، دون أن أري الكرسيين، لو أمكن استخدام تلك الصورة. ولذا، فقد اجتذبني الأدب الفانتازي منذ نعومة أظفاري. في فصل بعنوان "الإحساس بالخيالي"، حكيت أن واحدًا من الآلام الأشد وقعًا في نفسي كان حين أعطيت لصديق لي قصة "الرجل الخفي"، التي أخذها "ويلز" عن جول فيرن، فألقي بها.
هل رفضها؟
- كنتُ رقيق الصحة خجولًا، وبي ميلٌ للسحري والاستثنائي، ما جعل مني ضحية طبيعية لرفاقي الأكثر مني واقعية. قضيت طفولتي في ضباب يسكنه الجان والأقزام، وكان إحساسي بالمكان والزمان مختلفاً عن الآخرين. وهو ما أحكيه في "حول اليوم في ثمانين عالمًا". عرضت كتابتي علي أعز أصدقائي، فألقي بها في وجهي: «لا، هذا فانتازي أكثر مما ينبغي».
ألم تساورك أحلام بأن تصبح عالمًا ذات يوم، أن تكتشف ال "لماذا" وراء الأشياء؟
- كلا. ساورتني أحلام بأن أكون بحارًا. قرأت جول فيرن كالمجنون وكلّ ما أردته تكرار المغامرات التي خاضتها شخصياته: أن أصعد علي ظهر سفينة، أصل إلي القطب الشمالي، وأصطدم بجبال الجليد. ولكن كما ترين لم أصبح بحارًا، صرت معلمًا.
إذن، هل كانت طفولتك قاسية؟
- لا، لم تكُن قاسية. كنت طفلًا محبوبًا للغاية، حتي أولئك الرفاق الذين لم يقبلوا برؤيتي للعالم، كانوا يشعرون بالإعجاب نحو شخص يمكنه قراءة كتب لا يقوون علي حملها. ولكني كنت ممزقًا، لم أشعر بالراحة داخل جلدي. وقبل عمر الثانية عشرة، جاءت مرحلة البلوغ وبدأت أكبر كثيرًا.
خوليو، دائمًا ما تصِف أطفالًا ومراهقين محبوبين، ومعذبين فوق كلّ شيء.
- كنتُ سعيدًا في طفولتي، ما ترك في نفسي أثرًا بالغًا. ومن هنا جاء اهتمامي بالأطفال، بعالمهم. إنه ولع. أنا رجل يحب الأطفال كثيرًا رغم أنه لم ينجب. أعتقد أنني طفولي جدًا، بمعني أنني لا أقبل بالواقع. أحكي للأطفال أشياء خيالية، وفي الحال تقوم علاقة طيبة بيني وبينهم. أما الأطفال حديثو الولادة، فلا يروقون لي إطلاقًا؛ لا أقربهم حتي يصبحوا بشرًا.
أعتقد أن الأطفال في قصصك يحركون المشاعر بسبب أصالتهم.
- نعم، لأن ثمة أطفالًا مصطنعين جدًا في الأدب. واحدة من القصص التي أحبّها كثيرًا قصّة "الآنسة كورا"؛ لقد عشت الحالة التي يمرّ بها ذلك المراهق المريض، وكما قلتُ لكِ مررت بتجارب هائلة في الحب بلا أمل وأنا بعمر السادسة عشرة، حين كنت أعتبر الفتيات في عمر الثامنة عشرة أو العشرين نساء مكتملات الأنوثة. حينئذ كنّ في نظري مثالًا بعيد المنال. "الآنسة كورا" قصّة عانيت معها كثيرًا.
ألا تعتقد أن كلّ هذا ينطوي علي رثاء للذات؟
- بل أعتقد أنه ينطوي بالأحري علي مقدرة أكيدة للعودة إلي رؤية العالم من خلال عيني الطفل، فأشعر بسرور غامر لكتابة تلك العودة، ويغمرني شعور طيب عندما أعود إلي طفولتي.
أشعر بحبّ
لانهائي نحو القواميس
ومن ذلك الولع بالطفولة جاءت الكتب المُجسمة، أو كتب القُصاصات؟
- نعم، أحبّ اللعب كثيرًا، اللعب الذكيّة التي تُحرّك وتفعل؛ أحبّها كمتاجر الأدوات المكتبية، المفكرة، سنّ القلم الرصاص، الممحاة، والحبر الصيني. كنت أتنشّق رائحة قاموس "لاروس": كانت له رائحة عطرية ما زالت تبلغني. أشعر بحب لا نهائي نحو القواميس. قضيت فترات نقاهة طويلة واضعًا القاموس فوق ركبتيّ، وأنا أبحث بين صفحاته. كانت أمّي تطلّ علي غرفة النوم لتسألني: "ماذا تجد في القاموس؟".
خوليو، هل كانت أمّك ذات خيال خصب؟
- كانت أمّي ذات رؤية غريبة للعالم. لم تكُن علي قدر كبير من الثقافة، ولكنها كانت مصابة بداء الرومانسية المزمن. وضعت قدمي علي أول طريق روايات الرحلات، ومعها قرأت "جول فيرن". شيء غريب، لأن النساء لا يقرأن جول فيرن. كانت أمّي تقرأ أدبًا رديئًا، ولكن خيالها الهائل فتح لي أبوابًا أخري. كانت لنا بعض الألعاب: فكنا نتطلع إلي السماء باحثين عن أشكال السحاب، ونؤلّف قصصًا عظيمة. كان هذا يحدث في بانفيلد. لم يتمتع أصدقائي بهذا الحظ، فلم تكُن لهم أمهات يتطلعن إلي السماء. كان في بيتي ثمة مكتبة وثقافة.
هل تعتقد أن معيشتك في السابق وسط أبناء عمال وفقراء لها الأثر في انشغالك الآن بالبؤس والظلم بأمريكا اللاتينية، ومشاركتك في المحكمة المعنية بجرائم الحرب التي ارتكبها المجلس العسكري في تشيلي، علي سبيل المثال؟
- لا أظنّ أنها أثّرت في علي نحوٍ مباشر، ولكني أعتقد أن طفولتي الفقيرة التي عشتها مع أطفال فقراء كانت بمثابة حُسن حظّ لا شعوري، لأنني دخلت طبقة برجوازية صغيرة مُحددة للغاية في وقت لاحق.
لماذا تقول إن العيش بين الفقراء كان بمثابة حسن حظّ لاشعوري؟
- لأنه ترك بصمة إيجابية في نفسي.
- بوصفك كاتبا؟
- هذا أيضًا، فما هي المشكلة التي تنعكس علي الكثيرين من كُتّاب أمريكا اللاتينية؟ ليس من عادتي ولا يروق لي ذكر الأسماء، ولكن إدواردو مايّا، علي سبيل المثال، لم يتواصل علي نحوٍ مباشر مع شعبه، وعندما يدور الحديث علي لسان شخصياته الشعبية، فإن رؤيته مصطنعة وتُبيّن جهله التام بأسلوب حياة أولئك الناس. هذا مثال جزئي، ولكن ثمّة عدد كبير من كتاب أمريكا اللاتينية من أمثال مايّا، لم يساعدهم تعليمهم الابتدائي علي أن يُحسنوا فهم أشياء ستمتنع علي فهمهم تمامًا في وقت لاحق.
واقع بلادهم؟
- نعم. أعتقد أن جزءًا كبيرًا من معرفتي بواقع أمريكا اللاتينية، وتمرّدها، والإهمال الذي تشهده، أدين به لأصدقائي من أبناء العمال.
وماذا عن شغفك بأوروبا، متي ظهر؟ متي قررت الاستقرار في فرنسا؟ هل كنت تتشبه بالأوروبيين شأن كل أرجنتيني؟ وهل كنت واسع الثقافة كعادة المفكرين؟
- أعتقد أنني كُنت محبًا للفن والجمال.
- هل أنت...
- نعم. أغلقت علي نفسي طوال سنوات قضيتها في القراءة، لم أكُن أتحدث مع أحد؛ كنت كارهًا للبشر في شبابي، دخلت عالم الثقافة والجماليات. وقد دام هذا طويلًا، أعوامًا كثيرة. كنت أقرأ، أقرأ فحسب، وأكتب فلا أنشر، مدفوعًا بكبريائي، لمعرفتي بأن كتاباتي جيدة.
- جيدة مثل كتابات "بورخس"؟
- مختلفة. بورخس يدعو للإعجاب.
- هل كتبت القصّة سيرًا علي خُطي بورخس، متأثرًا به؟
- بل كتبتها بالأحري سيرًا علي خطي إدجار آلن پو.
- ألهذا ترجمته؟
- تقريبًا، قُدِّر لي أن أترجمه. فلقد استيقظ الأدب الحديث بداخلي حين قرأت في طفولتي قصص بو، والتي صنعت بي خيرًا كثيرًا وشرًا كثيرًا في الوقت ذاته. قرأت قصصه في التاسعة من عمري، وبسببه عشت في فزع، وعانيت من الرعب الليلي حتي بلغت مرحلة المراهقة. غير أنه علّمني معني الأدب العظيم والقصة. انشغلت كثيرًا بالانتهاء من قراءة پو، أقصد قراءة مقالاته التي قلّما تُقرأ بوجه عام، باستثناء المقالين أو الثلاثة مقالات المعروفة (حول فلسفة التأليف)، ثمّ تذكّر صديقي العزيز فرانثيسكو آيالا، من جامعة بويرتو ريكو، الأحاديث التي دارت بيننا، فكتب إلي سائلًا إذا كنت أريد القيام بالترجمة. أتممت أول ترجمة لكتاب بو (قصص ومقالات) الذي لم يكُن قد ترجم بدوره. كان عملًا ضخمًا، واستمر زمنًا طويلًا، إلّا أنه كان رائعًا. كم تعلمت من اللغة الإنجليزية وأنا أترجم پو!
هل قمت بذلك في الأرجنتين؟
- لا، وأنا في باريس. تركت الأرجنتين عام 1951، واستقررت في باريس بشكل نهائي. كنت في السادسة والثلاثين؛ وكان قدّ مرّ شطر كبير من حياتي في بوينوس آيرس، فحملت بيتي فوق ظهري: الأرجنتين. خلال العام الذي رحلت فيه تحديدًا، ترجمت مارجريت يورسنار. ذهبت إلي أوروبا سعيًا وراء المغامرة، بلا نقود، وبالطبع كنت في حاجة إلي السعي وراء كل سبل العيش الممكنة. كانت لدي الخبرة الكافية كمترجم، وترجمت أعمالًا جيدة للغاية. ترجمت شيسترتون، وأندريه جيد، وكذلك حياة ورسائل كيتس، باختصار، كنت أمتلك خلفية جيدة كمترجم. دائمًا ما أحببت الترجمة، لذا سعيت لإتمام ترجمات في أوروبا وإرسالها إلي بوينوس آيرس. ونظرًا لأن دار نشر سودأمريكانا كانت قد نشرت بالفعل كتابي الصغير Bestiario في نفس الوقت الذي رحلت فيه عن الأرجنتين، فقد سمحوا لي بالاختيار من بين أربعة كتب؛ رأيت كتاب "مذكرات أدريان" الذي كنت قد قرأته بالفرنسية وفتنت به، فطلبت من دار النشر مهلة طويلة لإتمامه، إذ كنت أعرف أن هذا الكتاب يجب ترجمته جيدًا. بل وبدأت العمل عليه في المركب الذي حملني من بوينوس آيرس إلي مارسيليا، فأعدت قراءة الكتاب، وجرّبت مقاربات مختلفة للترجمة. أتممت ترجمة "مذكرات أدريانو" في باريس، ثمّ نُشرت. دائمًا ما يشيد بها النقاد.
خوليو، بينما كنت تترجم، ألم تشعر بأنك تقتطع من الوقت الخاص بأعمالك الشخصية؟
- لا، لم أشعر بذلك قط، فقد كان لدي الكثير من الوقت حينئذ، ولي قدرة عظيمة علي العمل عندما أرغب في القيام بشيء. كُنت مجهولًا تمامًا وقتئذ، فلا كنتِ أنتِ أو غيرك تحضرون لإجراء المقابلات معي وتصويري وطلب أوتوجراف، وما كنت أتلقي مترًا مربعًا من الرسائل أسبوعيًا. أقصد أنني كنت بحق شخصًا يعيش الحياة التي أحببتها دائمًا، حياة المنعزل، عندما كنت أكرّس نصف يومي لكسب العيش عن طريق الترجمة لليونسكو، ثمّ يكفيني ويزيد الوقت المتبقي للقراءة والكتابة.
- كتب أحد شعراء المكسيك، أليخاندرو أورا، منتقدًا المنعزلين: »عزلة المنعزلين محض هراء«. كما قال: »يبتسمون بغتةً بدون سبب واضح، ونظرة الحملان علي وجوههم تدقّ كأجراس مرضي الجذام التي تُبعد الآخرين«.
- رغمًا عن صديقك، سأظلّ منعزلًا.
- إن سمحوا لك.
- إن سمحوا لي. وهو ما أصبح عسيرًا الآن، ولكني حين أريد الاختلاء بنفسي أستقل القطار إلي لندن (حيث لا يعرفونني) وأعيش وحدي تمامًا ما احتجت من الوقت. أحبّ الحديث إلي الناس يا إلينا، واكتشفت تلك البهجة في وقت متأخر للغاية. قضيت خمس سنوات أعمل معلمًا للمرحلة الإعدادية بإحدي القري، في الريف؛ ثمّ رحلت إلي "مندوثا"، إلي جامعة "كويو"؛ لتدريس المرحلة الجامعية.
ولكن ماذا درست؟
- قلتُ لكِ، أنا معلم، تخرّجت من مدرسة "ماريانو أكوستا" في "بوينوس آيرس"، ودرست بكليّة الآداب، ثمّ التحقت بكليّة الفلسفة والآداب، غير أنني تركتها بعد مرور عام ورحلت إلي القرية الريفية التي حدثتكِ عنها. كانت تلك هي أعوام عزلتي، وكنت واسع الإطلاع. التجارب التي عشتها كانت أدبية دائمًا. عشت قراءاتي، ولم أعِش حياتي. قرأت الآلاف من الكتب، حبيس البنسيون؛ درستُ وترجمت. اكتشفت الآخرين في وقت متأخر للغاية.
- والآن، لماذا تكرّس كل هذا الوقت للناس؟
- لأنني لا أستطيع تجنب ذلك. أنا لا أعرف إلي أيّ مدي يعرف المرء ذاته، قليلًا جدًا علي الأرجح. رغم ذلك أنا مقتنع بأنني لو كنت قد بقيت في الأرجنتين وقطعت مشوارًا يعادل ذلك الذي قطعته في أوروبا، لأصبحت بعد ذلك ما أنا عليه. منذ طفولتي شعرت بإحساس شديد العمق بالآخرين بوصفهم أشخاصًا. أما الشيء الذي كنت أفتقر إليه فهو الإحساس بالآخرين بوصفهم مجموعة، بوصفهم قصة؛ وقد تعلمت هذا مع الكوبيين، ولكن علي المستوي الفردي، فالحزن الذي يشعر به شخص قريب مني كالحزن الذي يشعر به حيوان، أفعل أيّ شيء لتخفيف حزنه. لا أستطيع رؤية قط أو كلب يتألّم، لا أقبل بذلك. فما بالك برجل أو امرأة...
- ألا تشعر بضياع الوقت؟ أرجو أن تعذر إلحاحي في مسألة الوقت، ولكنها قد استحوذت عليّ مؤخرًا.
- ضاع مني وقت طويل في حياتي، إلي درجة يصبح معها من النفاق اعتبار أن تخفيف ألم أو مرض مضيعة للوقت. كلا، كلا، كلا. أعرف أن هناك أشياء تضيع وقتي. في باريس، علي سبيل المثال، في هذه اللحظة، هناك المشاكل اليومية التي تواجه أشخاصًا من تشيلي والأرجنتين وأروجواي، إذ يصلون من بلادهم مطرودين، بلا نقود، مرتبكين، ودون معرفة باللغة في الكثير من الأحيان، في بلد يبدو لهم معاديًا لأنهم لم يكوّنوا بعد العلاقات اللازمة؛ حينئذ أفعل المستحيل لإعطائهم أصدقاء، وتوضيح وضعهم، ومرافقتهم. لا أعتبرها مضيعة للوقت. بل إنها كما لو كنت أؤلف كتابًا.
- حقًا؟
- بالطبع! إنه كتاب لن يصدر، ولكن هذا ليس له أدني أهمية. أفتقرُ إلي رد فعل الكاتب المهني، الذي يتّسم بالأنانية بوجه عام، وإن اعترفت بأن هذا ضروري في بعض المواقف. أثناء عملي علي قصّة، وعندما أجد نفسي مستغرقًا في تلك القصّة وفي كيفيّة حلّها، حينئذ أغلق بابي بإحكام ولا أقابل أحدًا. لا أردّ علي الهاتف. ولكن علي كل حال، بابي مفتوح بقدر الإمكان.
- الشعار الذي اتخذه جييرمو آرو هو: «الموت للضعفاء والخائبين، فلنساعدهم علي الاختفاء، وليكُن هذا أول مبادئ حبّ الآخر».
- فيما يخصّ الضعفاء، لا يمكنني أن أرّد بالمثل، فليس لهم ذنب في كونهم ضعفاء. الأسباب المؤدية لذلك كثيرة. تخيّلي ميكانيكيًا من تشيلي رحل عن بلده ووصل إلي باريس. هذا الرجل ضعيف بالنسبة للمجتمع الفرنسي الذي يدخله، رغم أنه مفعم بالقوة. ضعيف لأنه أعزل تمامًا: لا يعرف الفرنسية، ليس هناك من يمنحه فرصة عمل، ستقابله مشاكل مع النقابات. أساعد هذا الشخص لأنه ليس ضعيفًا بحق. لو منحته فرصة، وساعدته في التواصل مع ورشة، لو عمل ميكانيكيًا وبدأ في إظهار معرفته بالعمل، خلال خمسة عشر يومًا لن يعود ضعيفًا؛ فهو رجل له راتب وغرفة، ويبدأ في الحياة. كيف لا أفعل له شيئًا؟
خوليو، هل ما زالت قدرتك علي العمل استثنائية بنفس القدر؟
- لا، فهي تقلّ بمرور الزمن. عندما أبدأ كتابًا - لنتحدث عن الرواية لأنها عمل متواصل بدرجة أكبر- وأكون في حاجة ماسّة لكتابته، أستغرق وقتًا طويلًا للغاية في اتخاذ قرار بدء الكتاب، فأدور كما يدور الكلب حول جذع شجرة، لأسابيع وشهور في بعض الأحيان، وصولًا إلي البداية أخيرًا؛ هذا أمرٌ واضح، أعرفه بالخبرة، فدائمًا ما يحدث لي نفس الشيء. خلال الثلث الأول من الكتاب يتقدّم سير العمل علي نحوٍ متقطّع، ثمّ أدخل مرحلة العمل المتواصل، وصولًا إلي مرحلة نسيان النوم والطعام في النهاية. أذكر بكل وضوح عندما كتبت "لعبة الحجلة"، كنت في حالة من الاستغراق لم أكُن أستطيع معها مفارقة المكتب.
وهل ما زلت محتفظًا بتلك القدرة علي الجنون؟
- نعم، نعم. أنهيت الخمسين أو الستين صفحة الأواخر من "كتاب مانويل" دفعةً واحدة، حتّي النهاية. هكذا، كتبتها وأنا أحتسي الكثير من الخمر، وحيدًا تمامًا. في جلسة واحدة.
وبالنسبة لك، هل الكثير من الخمر يعني احتساء زجاجة ويسكي يوميًا؟
- لا، إطلاقًا، بل يعني احتساء ستة كؤوس من الويسكي (إذا أردتِ الدقّة)، ولكنها ليست عادة منتظمة، هي أبعد ما تكون عن ذلك.
وفقًا لتصريحات أدليت بها في إحدي المناسبات، بدأ كتاب "الرابحون" كقصّة. هل صنعت رواية انطلاقًا من القصّة؟ هل حدث نفس الشيء في حالات أخري، وبنيت عملًا علي نحوٍ عشوائي؟
- لم أدلِ بهذا التصريح قط! إنه زائف تمامًا. لو أن هناك كتابًا بدأ كرواية فهو "الرابحون"، رغم أن هذا قيل بطريقة ما في ملاحظة صغيرة في بداية الكتاب أو نهايته. كنت أقوم برحلة علي ظهر سفينة من مارسيليا حتّي بوينوس آيرس؛ واحد وعشرون يومًا في الدرجة الثالثة، وهو ما لم يكُن مريحًا جدًا. علي كلّ حال، نزلت وزوجتي في كابينة. لم يكُن المسافرون لطفاء علي الإطلاق. كما تعرفين، هذه مسألة حظّ؛ في بعض الرحلات يكون المرء في غاية السعادة لمقابلة أربعة أو خمسة أشخاص يتفاهم معهم، ولكن تلك المرة لم يكُن ثمّة أحد. انصرفت زوجتي إلي القراءة والتشمُّس، أمّا أنا فكانت لدي رغبة لكتابة تلك الرواية التي جاءت تتجول، وكانت اللحظة مثالية، نظرًا لكون الكابينة منعزلة. كانت معي آلة كاتبة محمولة فبدأت، وأعتقد أنني كنت قد كتبت ما يقرب من مائة صفحة بوصولنا إلي بوينوس آيرس.
الثورة تبدأ من الفرد
خوليو، فكرتك عن الثورة فريدة، فقد ناديت دائمًا بثورة فردية، تلك التي يبدأها المرء بنفسه، ومن الواضح أنك تمثّلها، وهو ما لا تقبله الأحزاب الشيوعية التقليدية. صرّحت في عدّة مناسبات بأنه ينبغي علي الإنسان أن يولد من جديد، وينبغي علي الثورة أن تنجب إنسانًا جديدًا، أليس كذلك؟
- بالطبع. ما أؤمن به، وما سعيت لقوله في "كتاب مانويل"، هو أن إحساسي بالثورة الاشتراكية حسب فهمي لها في أمريكا اللاتينية، ينطوي علي عملية مزدوجة، بالتزامن وليس علي التوالي. هناك من يفكر أنه، بادئ ذي بدء، ينبغي القيام بالثورة؛ بمعني القضاء علي الإمبريالية الأمريكية، والرجعيين، والعسكر، ثمّ تولي زمام الحكم، وإرساء الاشتراكية في البلاد، ومن ثمّ سيكون هناك وقت للبدء في الخطط الثقافية والتنمية البشرية. أشكّ في ذلك. في اعتقادي، ما لم تكُن في نفوس أولئك الثوار رغبة في أن يُطلب، بالتزامن، من كل فرد إعطاء أفضل ما لديه، والبحث عن ذاته، واستكشافها، واتخاذ الثورة وسيلة للتخلص من ثيابه البالية بدلًا من السير نحوها محمّلًا بالأحكام المسبقة، ستفشل تلك الثورة. في الواقع، كانت رؤية الرجل الجديد تلك إحدي أفكار جيفارا. وهي ليست بفكرة عن مستقبل بعيد مجردة ونظرية، بل ينبغي لها أن تنشأ بالتزامن. دعيني أعبّر عن ذلك بصورة: دائمًا ما قلتُ بضرورة القيام بالثورة من الخارج إلي الداخل، ومن الداخل إلي الخارج، علي جميع المستويات. يجب القضاء علي أعدائنا، وكذلك الأعداء الذين بداخلنا. تأمّلي ما يحدث لثورة اشتراكية. فبعد عمل شاق لانهائي، وعناء رهيب يقاسيه أبطال ضحوا بأرواحهم، يكون الوصول إلي السلطة. ولمجرد أن أربعة أو خمسة أو ستة من القادة لم يمارسوا نقد الذات ينشأ في السلطة، علي سبيل المثال، تحفّظ وتزمّت في التقاليد (ولنقُل من المنظور الجنسي). أنا لا أقبل بهذا، فهذه تبدو لي ثورة فاشلة. سيظل الإنسان سجين الوازع والتابوهات والمستحيلات التي يصنعها. بأيّ جحيمٍ تنفعه الاشتراكية؟ بلا شيء.
أعتقد أن عمل المُفكّر هو الوقوف في الصفوف الأولي للمعركة، بمعني ألّا يسمح بأن ينام ذلك الإحساس بضرورة خوض المعركة كلّ يوم، بضرورة أن يتساءل كلّ فرد يعدّ نفسه ثائرًا، عند استيقاظه كلّ يوم: «تُري، هل أمتلك الحقّ في أن أسلك هذا السلوك مع زوجتي؟ هل أمتلك الحقّ في ممارسة ذلك التمييز؟ هل أمتلك الحق في تطبيق أفكار بائدة، حاربتُها وشقيت بسببها؟ بما ينفع انتصار الثورة؟»
بتلك الطريقة لا ينفع بشيء، لا أعرف إن كنت قد أوضحت مقصدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.