يغلق الباب، يدفع بالترباس إلي أعلي، يتقوس قوامه قليلاً، يستند بجبهته إلي الجدار، مهما اتخذ من احتياطات، مهما تباطأ في صعود الطوابق الست فلابد أن تتسارع دقات قلبه، تتعثر أنفاسه، يدرك خطورة ذلك علي قلبه العليل، لكن.. ما باليد حيلة. الانتقال إلي سكن آخر يتجاوز قدرته الآن. طلب من البواب أن يستطلع في المنطقة والأحياء المجاورة، شقة في الطابق الأول، عاد خلف الذي يبدي مهارة في كل اتجاه، اصلاح اعطال المياه والكهرباء، والاقفال، والحمامات، كذلك أعمال السمسرة سواء تعلقت بالعقارات أو المدافن أو السيارات المستعملة، جاءه بنبأ شقتين كل في الطابق الأول، الأولي أصحابها يطلبون مليون جنيه لا تنقص جنيها واحداً والتسليم نقداً. الثانية أقل مساحة، ثمانمائة ألف جنيه، يمكن التفاهم حتي سبعمائة وخمسين، هذا تقديره، هاله المطلوب، قال إنه يفضل الانتظار حتي عودة زوجته التي تقيم عند ابنهما للعلاج من الداء الخبيث، لم يصارح خليفة بحقيقة الحال وإن أيقن أنه مدرك لذلك، صحيح أن كثيرين يظنون أنه يرقد علي ثروة. ألا يظهر في البرامج الحوارية، ويدلي بآراء شتي في قضايا كبري، كما يظهر اسمه علي صفحات الرأي في صحف الموافقة والمعارضة، يذكر بعض الوزراء بعنف وشد ألا يعني هذا القدرة، وتلك تعني عند الناس الثروة والنفوذ، هذا حال يطول الثأر فيه، فلينته من إعداد الغذاء، يقصد تسخين الطعام، قبل انصرافه صباحاً عقب وصول الشغالة التي ترتب البيت وتنظفه مرتين أسبوعياً أخرج نصف كيلو لحمة من المجمد ليفك الثلج، طلب منها أن تسلقه مع بصلة، وأن تضع بسلة وجزر ستجدهما في الثلاجة. لم يأكل خضار منذ أسبوعين وهذا ضار بالهضم، بعد سفر زوجته اعتمد علي السمك المشوي الذي يشتريه من مطعم قريب، بالإضافة إلي أنه صحي للقلب سريع الهضم، في بعض الأيام يعد طبقاً من الفول، أو يقلي ثلاث بيضات في زيت الذرة، أو يأكل رغيفاً ساخناً مع الجبن الأبيض وثمرة طماطم وحبة خيار لعدة شهور أبي الاعتماد عليها لطهي وجبة له. إنها تنظف البيت كله بما فيها دورات المياه، وتمسح بمساحيق التنظيف، صحيح أنها نظيفة وتهتم بنفسها، لكن يخشي الفيروسات الخفية، كما أن تنظيف المرافق يقززه، إلا أن ذوقه إلي الأرز لين الامتناع، منذ غيابها لم يذق الأزر، صحيح إن الأكل نفس، لم يعتمل إلا ما تطهيه أمه قديماً، ثم زوجته، كلما تلقي دعوة للعشاء أو الغذاء يلبي والسبب الأرز، لكنه يفتقد دائماً المذاق الذي يبحث عنه.. ثمة شيء ناقص، مرة واحدة دعته صديقة قديمة إلي الغذاء، قدمت ملوخية تفوح منها رائحة تقلية، قالت إنها أعدتها خصيصاً لأنها تعرف خيبته في الطهي، قال مداعباً إنه أفضل من يسلق بيضاً في مصر، أشارت بيدها، ولا البيض وحياتها خرج من عندها مسرورا بمذاق الملوخية ونكهة التقلية، كأن من أعدها زوجه لكنه ظل يفتقد شيئا لم يدر بالضبط ما هو، لم يستطع تحديده، ربما القعد ربما التئام العائلة، صحيح أن الصديقة زوجة صاحب عزيز رحل منذ سنوات، كأنها شقيقته، يألف بيتها. لكن الأكل مسألة ثانية، مهما بلغت الصحبة لا يفارقه شعور بالتكلف، لابد أن يجلس بطريقة معينة، الا يرتفع صوته عند سحب الشوربة من الملعقة، أو عند تجرع العصير، حتي زوجته كانت تبدي بعض الملاحظات علي عاداته تلك التي يمكن أن تنتقل إلي الأولاد، عندئذ يكرر ما فعل مبتسماً تبدي الغضب أحياناً، ليتها تعود وسيظهر أقصي درجات الإلتزام. يتجه إلي غرفة النوم، لا يتناول غذاءه مهما كان جائعاً إلا بعد خلع ملابسه تبديلها، غسل يديه، وجهه، حتي لو خرج وعاد بعد عشر دقائق، يتم طقوسه ويتجه إلي المطبخ، يتوقف عند المدخل، مستطيل، مساحة ضيقة، الحوض إلي اليسار، الثلاجة في المواجهة، أمامها البوتاجاز، علي سطحه إناء صغير به اللحم المسلوق، آخر يحتوي علي البسلة والجزر، رغيف مغطي بورق معدني، الحقيقة أنها منظمة جداً، لم يعد يفكر في تعاملها مع مرافق البيت. يرفع غطاء حلة اللحم، مازال البخار يتصاعد، جس الحواف بأصابه، لن تحتاج إلي تسخين، يمسك الإناء بفوطة مطوية، يرفعه إلي فمه مباشرة، لو أنها هنا لأدركها هلع، وربما تنتزع بقوة، تشير إلي الخارج حيث المائدة والأطباق والشوك والملاعق، يرشف بصوت مرتفع، مذاق طيب، يفضل صراحة الطعام، اللحم المسلوق يحتفظ بالخصائص لا يفضل الصلصة المضافة أو المايونيز أو المسترد لكنه الآن لا يبحث عما يفضله أو يتجنبه، إنه يمضغ ويبلع أتقاء للجوع، التنعم بالمذاق يحتاج إلي صحبة، أما الأنفراد فسد للحاجة، إذا ركز وأمعن فإن ذلك يستدعي الاكتئاب والأمور القاتمة. بالملعقة يتناول الخضار المسلوق، البسلة طيبة المذاق، يقضم قطعة من الرغيف يليها مباشرة مقدار من شوربة اللحم، ما تحمله الملعقة قليل، يرفع وعاء الخضار تتساقط بعض حبات البسلة علي الأرض، تتناثر قطرات علي فانلته الداخلية! يرتدي الجلباب بجد، وربما ينام هكذا بعد أن يغسل وجهه ضارباً عرض الحائط بتوصية الطبيب أن يتمهل بعد الغذاء، لابد من مسافة بين الأكل ونوم ما بعد الظهيرة الذي أعتاده. فرغ من الخضار، تناثرت الحياة فوق أرضية المطبخ، لا بأس، سيجمعها ويبل الفوطة، بقدمه يحركها، يمسح البلاطة المكسو بطبقة رقيقة من البلاستيك، كل هذا مخالف لترتيباتها، تحرص علي استخدام أدوات للمطبخ، مختلفة عن أدوات دورة المياه، عن الصالة، أما الغبار الناعم فله المكنسة الكهربائية، تبلغت حوله، أحياناً يخاطبها بمنطوق مرتفع. "لا تؤاخذيني، لا أعاندك، ولا أتصرف علي راحتي لأنك غائبة، لكن الأكل واجب ثقيل".. ربما يلمس الهواء مطبطباً، أو يهز رأسه، أو يمد يده داعياً من لا توجد إلي الجلوس فوق أرضية المطبخ، لم يتجه إلي الصالة، يعرف أنها لن تقبل. لكنه يرغب في مداعبتها. من يدري، ربما يحدث ذلك هناك، يتناول وعاء اللحم، قطعة من الموزة يغرس الشوكة، ينقلها إلي طبق صغير كان فوقه الرغيف، يحاول اقتطاع جزء بدون سكين، لا يستطيع، يميل منقوساً، يتناولها بأسنانه جانباً علي أربع.