خالد محمد خالد تحقق واحد من أهم أحلامي في شهر رمضان الماضي بكتابتي مسلسل »غدًا تغرد العصافير» عن قصة حياة المفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد، اعتمدت في كتابته علي سيرته الذاتية التي نشرها في كتاب (قصتي مع الحياة) وعلي كتبه، وتتلمذي علي يديه لمدة تسع سنوات هي خير ما عشت من عمري. وقام ببطولة المسلسل الفنان محمد رياض الذي كان من تلاميذ خالد محمد خالد أيضًا، والفنانة لقاء سويدان، وأخرجه المخرج الشاب أحمد مجدي. كان خالد محمد خالد ضد الرقابة بشتي أنواعها، وقد وقف مواقف عديدة مطالبًا بإلغاء الرقابة، كما كان ضد التطرف والانغلاق والنظرة الأحادية، لذلك حرصت علي تسجيل هذه المواقف. وإذا كان شهر فبراير 2019 الذكري الثالثة والعشرين لرحيله (توفي يوم الخميس 29 فبراير 1996)، فإنني أذكركم وأذكر نفسي بهذه المواقف التي لا نزال نحتاجها الآن، وأعرضها عليكم كما قدمتها الدراما الإذاعية. يوسف السباعي: هل عند أحد من السادة الأفاضل أعضاء اللجنة /أي اقتراح؟ خالد: نعم يا أستاذ يوسف. يوسف السباعي: تفضل يا أستاذ خالد. خالد: نحن لجنة تناقش قضايا الآداب والثقافة والفنون.. وأنت يا أستاذ يوسف السباعي من كبار الأدباء.. وأري أنه واجب علينا أن نصدر توصية مهمة للغاية لو نفذت سيكون لها أعظم الأثر في الارتقاء بالأدب والفن معا. يوسف السباعي: وما هي التوصية يا أستاذ خالد؟ خالد: أري أن نوصي بإلغاء الرقابة. يوسف السباعي: (همهمات تعجب ورفض) لكن هذه توصية خطيرة يا أستاذ خالد. صالح: اسمح لي أريد أن أتحدث يا أستاذ يوسف. يوسف السباعي: أستاذ صالح جودت.. تفضل. صالح جودت: أنا ضد اقتراح الأستاذ خالد جملة وتفصيلا.. لابد من بقاء الرقابة. خالد: لماذا يا أستاذ صالح؟ صالح جودت: إننا نقرأ في بعض الصحف والكتب ما يخجلنا ويفسد أبناءنا والرقابة موجودة فما بالك إذا غابت الرقابة؟ خالد: أنت أجبت بنفسك علي سؤالك يا أستاذ صالح. صالح جودت: كيف؟ خالد: وجود الرقابة باعترافك لم يمنع نشر المخجلات والموبقات.. إذن لماذا تظل موجودة.. ؟ صالح جودت: لكن يا أستاذ خالد. خالد: (مقاطعا) الرقابة باقية لمنع نشر الآراء الجادة والنقد الصادق. يوسف السباعي: أنا مع رأي الأستاذ صالح جودت في ضرورة بقاء الرقابة.. مَنْ من الأعضاء مع بقاء الرقابة؟ (لحظة صمت) أغلبية.. إذن الاقتراح مرفوض. (موسيقي) يوسف السباعي: لا تتضايق يا أستاذ خالد. خالد: يا أستاذ يوسف.. إلغاء الرقابة نقلة كبيرة ستغير حياتنا الثقافية والفكرية.. كنت أتمني أن نبدأ نحن الخطوة وألا تتأخر أكثر من ذلك. يوسف السباعي: أنا عارضتك لأني خائف عليك يا أستاذ خالد. خالد: لا تظن يا أستاذ يوسف أني أكثر منكم شجاعة.. يمكن يكون العكس هو الصحيح.. ولكني أكثر منكم فهما لعبد الناصر. يوسف السباعي: كيف يا أستاذ خالد؟ خالد: في رأيي أن عبد الناصر لا يعاقب علي النقد وإنما يعاقب علي الحقد. (موسيقي الختام) (السيدة فاطمة هي زوجة الأستاذ خالد رحمهما الله، ومؤمل صديقه في المسلسل، وسالم نموذج للشباب الذين يسمعون ويرددون دون فهم، ومنير هو أنا!) خالد: (غاضبا) لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. إلي أين يريد هؤلاء المتطرفون الذهاب بنا يا الله؟ فاطمة: اهدأ يا خالد.. اهدأ. خالد: وكيف أهدأ يا فاطمة ولا يمر أسبوع إلا ونسمع عن اغتيال هنا وتفجير هناك. فاطمة: أتقصد الأتوبيس السياحي التي ألقيت عليه قنبلة بالأمس؟ خالد: نعم يا فاطمة. هل قرأت التفاصيل المروعة. فاطمة: لم أستطع أن أكمل القراءة.. إن الأمر لبشع فعلا.. ما ذنب هؤلاء ليقتلوا تلك القتلة البشعة باسم الإسلام. خالد: الإسلام بريء مما يفعلون.. بريء. (موسيقي) مؤمل: لكنهم يقتلون باسم الإسلام يا خالد.. يرفعون رايته ويلطخونها بالدم البريء.. ومنذ أيام سرقوا محلات الذهب التي يمتلكها بعض المسيحيين.. بل.. بل.. خالد: بل ماذا يا مؤمل؟ مؤمل: لقد سرق محل الذهب الذي أملكه منذ يومين. خالد: يا الله! كيف حدث ذلك يا مؤمل؟ مؤمل: سرق المحل المجاور لي.. ويبدو أن اسم محلي أغراهم.. (المحبة).. فدخلوا وسرقوا. خالد: ولماذا لم تبلغ عن هذه السرقة يا مؤمل؟ مؤمل: والله يا خالد لقد سترها الله معي.. ولم يكن بالمحل يومها الشيء الكثير.. والأهم يا أخي. خالد: الأهم ماذا؟ مؤمل: استعوضت الله فيما سرقوا.. واحتسبته عنده.. وسكت حتي لا أزيد من الإساءة للإسلام. خالد: لا يا مؤمل.. كان عليك أن تبلغ.. هذا حقك.. مؤمل: والإسلام؟ خالد: العقائد لا تتحمل جرائم من ينتسبون إليها.. الإسلام بريء ممن يقتلون وينهبون باسمه.. كما كانت المسيحية بريئة من محاكم التفتيش والحروب الصليبية.. وكما أن اليهودية بريئة من جرائم الصهاينة.. والاشتراكية بريئة من جرائم ستالين.. والديمقراطية بريئة من عبث أمريكا. مؤمل: يا خالد.. أنت تهاجم التطرف هذه الأيام هجوما عنيفا في مقالاتك.. وقد علمت أنك أصبحت علي قائمة المطلوبين للاغتيال. خالد: الأعمار بيد الله يا مؤمل.. وإذا خفنا سيتوحش الإرهاب أكثر.. لابد من مواجهته مهما يكن الثمن.. المهم حدثني عن مشروعاتك الجديدة أيها الشيخ الذي أصبح رأسماليا كبيرا. مؤمل: سأفتتح فندقا في الإسكندرية.. علي الكورنيش.. وسأحجز لك جناحا تنزل به في أي وقت بنصف الثمن. خالد: ظننتك ستقول مجانا يا شيخ/ مؤمل. (يضحكان) (موسيقي) فاطمة: أنا تعبت يا خالد.. تعبت.. ارحمني أرجوك.. لم تعد فيّ أعصاب لكل هذا. خالد: اهدئي يا فاطمة.. وفهميني ماذا حدث لتغضبي كل هذا الغضب؟ فاطمة: أتسألني يا خالد؟ أنا أعيش مهددة بخطر فقدك برصاصة ملعونة في أي لحظة وتسألني لِمَ الغضب؟ خالد: طيب اهدئي قليلا من فضلك. فاطمة: لن أهدأ حتي تجد لي حلا. خالد: أي حل يا فاطمة؟ هل أتوقف عن قول الكلمة التي أؤمن بها. هل أهادن المتطرفين القتلة؟ أم أذهب إليهم وأرجوهم أن يرفعوا اسمي من قوائم الاغتيالات لأجل خاطرك. فاطمة: لا تسخر مني يا خالد.. أنا لا أستحق هذا منك. خالد: والله لا أسخر منك يا فاطمة.. ولم أسخر منك أبدا.. لكن ماذا بيدي أن أفعل؟ أنت تزوجت رجلا هذه حياته.. لا يستطيع أن يصمت عن كلمة الحق.. ومستعد لأن يدفع ثمن كلمته.. هذا قدرك يا فاطمة فارضِ به وأجرك علي الله. (موسيقي) منير: هذا زميلي سالم حسونة يا أستاذ خالد. خالد: أهلا بك وبزميلك يا منير.. اجلسا.. أكرم زميلك يا منير. منير: حاضر يا أستاذ.. ماذا تشرب يا سالم؟ سالم: لا داعي شكرا. خالد: لا.. هنا الجلوس مثل المقاهي بالمشروب (يضحك). منير: سأختار أنا له يا أستاذ.. خذ طبق الكاستر هذا يا سالم. سالم: طبق ماذا؟ منير: (يضحك) كُل كُل سيعجبك.. أنا أيضا أول مرة أتعرف بسيادته كانت مع الأستاذ خالد. خالد: إذن أنت تدرس الاجتماع مع منير يا سالم. سالم: نعم يا أستاذ.. لكنني قرأت الكثير مما كتبته. خالد: عظيم.. ماذا قرأت؟ سالم: قرأت معظم ما كتبته عن الديمقراطية إضافة لكتاب رجال حول الرسول وكتبك عن الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز.. لكن. خالد: لكن ماذا يا سالم؟ سالم: ألا تري أنك ضيعت حياتك للدفاع عن شيء لا جدوي منه وهو ليس من الإسلام أساسا؟ منير: (غاضبا) ماذا تقول يا سالم.. احترم نفسك. خالد: انتظر يا منير.. منير: أنا آسف أنني أحضرته معي يا أستاذ.. هيا بنا يا سالم. خالد: لا.. انتظرا.. أريد أن أسمع رأيه.. ما الشيء الذي ضيعت حياتي هباءً لأجله يا سالم. سالم: الديمقراطية؟ خالد: ألا تستحق الديمقراطية حياتي وحياة الشعب كله يا سالم؟ سالم: بالطبع لا. إنها كلمة غربية أساسا فلماذا نستورد أنظمة الغرب وندافع عنها ولدينا ما هو أفضل منها؟ خالد: في القرآن ألفاظ غير عربية مثل المشكاة وقسطاس وسجيل واستبرق وغيرها، ولم نذم القرآن لذلك.. عموما.. ما الذي لدينا أفضل من الديمقراطية؟ سالم: الشوري. خالد: وما هي الشوري؟ سالم: إنها الشوري كما جاء بها الإسلام.. أن يحكمنا خليفة بما أنزل الله.. وأن يجمع حوله الصالحين من أهل الحل والعقد ليأخذ رأيهم في كل الأمور. خالد: وإذا لم يعجبه رأيهم؟ سالم: له أن يأخذ به أو لا يأخذ فهو/ ولي الأمر. خالد: إن فهمك يا سالم للشوري أو علي الأصح يا ولدي فهم من أفهموك ذلك لا يختلف شيئا عن الديكتاتورية في أبشع صورها. سالم: هل تسفه الشوري في الإسلام؟ خالد: يا بني لا داعي للاتهامات الباطلة.. أنا أري أن الشوري في الإسلام هي الديمقراطية ذاتها.. سالم: مستحيل. خالد: إن النظام السياسي في الإسلام يقوم علي أن تكون علاقة الحاكم بالشعب علي أساس من الحرية والعدل.. وما يحقق هذا النظام هو أن يختار الشعب حاكمه اختيارا حرا نزيها.. وأن يختار الشعب من يتحدثون باسمه من نواب.. وأن تكون الأمة مصدر كل السلطات.. هذه هي الشوري التي أفهمها وهي نفسها الديمقراطية. سالم: أستاذ خالد.. اسمح لي أنت. منير: (مقاطعا بغضب) سالم.. قف عند حدك. خالد: دعه يا منير.. قل يا يا سالم.. أنا ماذا؟ سالم: أنت تبتعد عن الشرع عندما تقول إن الأمة هي مصدر كل السلطات بما يعني أن الأمة مصدر السلطة التشريعية نفسها. خالد: بل أنا في قلب الشريعة عندما أقول ذلك. سالم: لكن كلامك هذا يعارض الإسلام. خالد: أنا؟ بل أنت بكلامك تلقي ثلاثة أرباع الشريعة والفقه في البحر.. لأن هذا القدر من الشريعة أو أكثر منه كانت الأمة مصدره عن طريق الأئمة والفقهاء الذين استخدموا الاجتهاد والقياس والإجماع فوسعوا في رحاب الشريعة الإسلامية. سالم: لكن يجب علي الناس أن يتبعوا حكم الشرع. خالد: من الذي يوجب ماذا علي من؟ سالم: لا أفهم. خالد: نعم. أنت لا تفهم لأنهم يلقنونك بدلا من أن يجعلوك تفكر.. الإسلام حرية.. وليس من حق فرد أن يلزم الناس بفكره ورأيه سواء أكان حاكما أو فقيها.. لذلك ففي السياسة أفضل نظام هو الديمقراطية.. وفي الفقه اعتمد الأئمة علي الاجتهاد. سالم: لكننا يجب أن نتبع شيوخنا وعلماءنا فهم أفضل منا وأكثر علما وفضلا وإلا ضللنا السبيل. خالد: نستمع نعم. لكن لا نتبع بعقل غير مفتوح. لا تسلم قياد عقلك لأحد. سالم: لكن.. خالد: هل ترضي برأي ابن تيمية. سالم: طبعا طبعا. خالد: يقول ابن تيمية في الجزء الخامس من فتاواه (كان أهل السنة والجماعة لا يُلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يُكرهون أحدا عليه). سالم: ابن تيمية يقول ذلك؟ خالد: نعم.. فقل لشيوخك إن الشريعة أوسع مما تعلمون وأكبر مما تعرفون.. فلا تُلزموا أحدا بوجهة نظركم فيما شُرع فيه الاجتهاد.. قل لهم علموا الأتباع والأشياع احترام كل الآراء حتي لا يستمرئوا تكفير العلماء وقتل الأبرياء.. وأخيرا قل لهم قول الإمام أبي حنيفة النعمان: فقهنا هذا رأي فمن/ جاءنا / بأحسن/ منه/ قبلناه. وقول الإمام أحمد بن حنبل: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس علي مذهبه ولا أن يُشدد عليهم. (موسيقي الختام)