كانت الشمس تلهب رمال الصحراء العريضة المحيطة بالليمان. ولم يكن هناك شجرة واحدة علي بعد عدة أميال من مكان السجن.. ولا ثمة طيور شاردة في الجو، ولا أثر اطلاقا للحياة، لم يكن هناك سوي عدة قبور مهجورة يقطنها الكلاب والذئاب وصقور الجو الجائعة. وكان الطريق من المدينة الي السجن طويلا مرهقا، والعربة الوحيدة التي صادفها واعظ السجن لتنقله الي هناك، عربة نقل تستعمل في نقل اللحوم مرة كل اسبوع إلي هؤلاء الذين لفظتهم الحياة بعيدا عنها. كان الواعظ بدينا قصير القامة، أحمر الوجه، يبدو للوهلة الأولي كأنه من عمد الريف الأثرياء. وكان حديث التخرج، وكانت وظيفة واعظ السجن.. هي أول عمل يقوم به في الحياة. جلس الواعظ بجوار السائق يفكر فيما عساه سيقوله في صباح الغد للمذنبين من نزلاء الليمان. و تذكر وهو جالس بجوار السائق، والعربة تهزه هزا عنيفا - كل خطب الوعظ التي حفظها عن ظهر قلب، خطبة رمضان المعظم، وفيها الحث علي الصوم ومغالبة النفس، وخطبة الحج.. وفيها المناسك جميعا، وخطبة رجب وفيها النهي عن زيارة المقابر و... و....!! وابتسم الواعظ في سرور، انه لم يزل يحفظ هذا كله، وفي جعبته عدد لا بأس به من الآيات والأحاديث.. واستقر في مقعده مطمئنا الي النجاح الذي سيصادفه غدا عندما يقف أمام حشد المذنبين ليعظهم ويرشدهم الي العمل الطيب الذي يرفعه الله الي سمواته. ودس يده في جيبه فأخرج منديله الكبير، وجفف به عرقه الذي ظل يسيل من فوق جبهته فملأ عينيه حتي تعذرت الرؤية عليه. وكان الارهاق الشديد قد نال منه خلال الرحلة فأغمض عينيه وراح في نوم عميق.
وعندما استيقظ في صباح اليوم التالي، كانت الشمس قد توسطت الأفق، وحجارة السجن الصماء تكاد تنصهر من شدة الحرارة، وكان قد قضي ليلته غارقا في نوم عميق أنساه طول الرحلة، ووعورة الطريق. وعندما فرغ من صلاته جلس يتناول افطاره، وكان شهيا لذيذا وبكميات ضخمة، ودهش لوجود مثل هذه الأصناف اللذيذة والكميات الكبيرة داخل الليمان.. لابد أنهم سعداء هؤلاء النزلاء، وهو نفسه عندما كان خارج هذه الجدران - في عالم الحرية - أيام أن كان طالبا في الأزهر.. لم يكن يستطيع الحصول علي هذه الكميات ولا هذه الأصناف! لم يفكر طويلا في هذا الأمر الذي بدا غريبا في نظره.. وراح أثناء تناوله الطعام يفكر في الخطبة التي أعدها.. والتي يرجو من أعماقه أن تحوز رضاء مأمور الليمان، وتجشأ الشيخ عبدالحميد - وهذا اسمه - وهو يخطو أمام الحارس في طريقه الي مكتب المأمور.. ليتعرف إليه، إذ لم تكن أمامه الفرصة ليقوم بهذا العمل في مساء الأمس عندما هبط السجن في عربة اللحوم. وكان غريبا عليه أيضا هذا الذي صادفه في شخص المأمور، فقد كان رجلا بدينا تدل ملامحه الغليظة علي الطيبة والهدوء.. وكان فوق هذا وذاك مطلعا علي كتب النحو والبلاغة، وآراء الشراح القدامي والمحدثين. وبعد أن انتهي الحديث بينهما حول الفقه والدين. اتخذ المأمور سمة الحاكم وقال مخاطبا الواعظ بعد أن أصلح رباط عنقه: - إننا هنا أسرة واحدة. وأنا طيب جدا، مادام النظام هنا علي أكمل وجه. والرجل الذي يعمل داخل السجن، هو في الحقيقة مسجون بملابس عادية، وستحب مهنتك جدا مادمت مخلصا لها، مقبلا عليها، وأري من واجبي أن أخبرك أن زميلك الذي حللت أنت مكانه ظل معنا هنا لمدة طويلة. كان فيها مثالا للكفاية والاخلاص. ولكنه فجأة نسي أصول مهنته فأخذ يتدخل فيما لا يعنيه. وأصبح هو سببا قويا في تمرد المذنبين علي الأوامر، فقد كان يتدخل دائما في طريقة معاملة السجانين للمسجونين. ولكنه نال جزاءه. فقد نقل من هنا الي جهة نائية. فأنا لا أحب شيئا قدر حبي للنظام، وأضحي في سبيل تدعيمه بأقرب المقربين الي. تصبب العرق علي وجه الشيخ عبدالحميد وهو يستمع الي قصة الواعظ الذي سبقه. وجف حلقه تماما عندما أنهي المأمور قصته بخبر نقله، واستعاذ برب العباد من شر الشيطان الرجيم، ودعا الله سرا أن يوفقه في عمله. فيعمل آمنا مستقرا ويجمع قدرا من المال ليشتري به قطعة أرض علي »حرف« الترعة كما فعل الشيخ رشيد، والشيخ سلمان ابنا قريته.. وزميلا الدراسة! وعندما انتهت المقابلة خرج الشيخ عبدالحميد من مكتب المأمور وهو يتمتم باسم الله، والحارس يخطو أمامه في الردهة الضيقة الطويلة ليقوده الي الفناء الواسع حيث ينتظره المذنبون منذ ساعة ليستمعوا الي موعظته. وعندما أطل علي الفناء كان الحر لا يزال شديدا، ورأي أكثر من ألف مسجون يجلسون القرفصاء علي الرمال في مواجهة منصة صنعت خصيصا لتقي الواعظ من حرارة الصيف في تلك المنطقة الجافة الحارقة. وحول الجالسين اصطفت فرقة من الجنود المسلحين، وقد صوبوا أسلحتهم الي القطيع البائس. وكان اللغط يدور شديدا بين الجالسين وكأنهم في معركة كلامية حادة. ولكنها سرعان ما هدأت تماما عندما اقترب الواعظ من الجمع المحتشد، وتركزت كل النظرات عليه.. حتي نظرات الحراس، وأحس الشيخ عبدالحميد بأهميته البالغة ربما للمرة الأولي، فتحسس جبته، وأصلح من وضع العمامة. وثبت بصره بالأرض وهو يصعد السلالم الخشبية المؤدية الي المنصة. وألقي نظرة شاملة علي كل من حوله. ثم رفع صوته بالتحية وبدأ يلقي موعظته في صوت رتيب ونبرات حلوة. ولكن هبت الأصوات من جانب الجالسين: - هس يا جدع انت وهوه - اللي يحب النبي يسكت - خلونا نسمع الكلام المفيد ويبدو أن أحدا منهم لم يكن يحب الاستماع الي الكلام المفيد، فقد ظلت الضوضاء تتصاعد من حوله، وكأنه يعظ في سوق. ولم يثنه هذا عن التوقف، فقد كان الموقف يحتاج الي شجاعة.. وهو شجاع، فواصل حديثه اليهم: - أيها الناس.. أمرنا الله باتباع طريق الخير.. والبعد عن طريق المعصية، ومن يعمل منكم مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. نهانا الله عن الخمر..فلا نقربها.. وعن الميسر فلا نمارسه، حكمة سماوية.. للبعد عن الخطيئة التي يزينها الشيطان »إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه« فالخمر تهدم الصحة وتمحو الشخصية. والميسر يهدم بيوتكم الآمنة ويجركم الي الدين والخراب، فاتقوا الله يا معشر المسلمين تنالوا رضاءه!! وتوقف الشيخ عبدالحميد عن مواصلة حديثه ريثما يجفف عرقه الذي سال من جبينه علي عينيه، وأحس ارهاقا شديدا.. وصعوبة في التنفس.. لابد أنه أجاد وأحسن وإلا.. لماذا كل هذا الاستغراق حتي لقد نسي نفسه. وألقي الشيخ عبدالحميد نظرة علي من حوله ليري وقع حديثه في نفوس السامعين.. لم يكن هناك من ينظر اليه، المذنبون يتجادلون في ضجة.. ربما من أجل عملية بيع وشراء. ولفائف تبغ كثيرة تنتقل من يد الي يد، وأوراق لامعة شفافة تتناولها الأيدي لتسلمها الي أخري، والحراس مستندون الي فوهات بنادقهم، وعيونهم مغلقة في اغفاءة لذيذة، وارتبك الشيخ عبدالحميد ولم يدر ماذا يفعل، أنه واثق تماما انه أجاد اختيار موضوع الموعظة،و صوته جميل حسن، فلماذا اذن لا يستمع اليه هؤلاء الجهلاء!! وعاد الشيخ عبدالحميد مواصلا حديثه، وفي هذه المرة بصوت أشد: - أيها الناس، إن الله يأمركم بالزكاة.. ففي أموالكم حق للسائل والمحروم. فلا تكنزوا ثرواتكم فتجنوا حسرة الدنيا.. وعذاب الآخرة، ولا تبذروا في أموالكم، فقد نهي الله عن التبذير.. ان المبذرين إخوان الشيطان. فعلي كل منكم أن يطهر ماله بالزكاة. وتوقف الشيخ عبدالحميد قليلا ريثما يلتقط أنفاسه.. وعاد من جديد ينظر الي الجمع المحتشد أمامه! كان الجميع مشغولين عنه وعن حديثه بما يبدو أنه أهم من ذلك. عمليات بيع وشراء علي الطريقة التي كانت سائدة يوما ما قبل أن تخترع النقود. والحراس في نفس الاغفاءة اللذيذة، واستبدت الدهشة بالشيخ عبدالحميد كيف لم يستطع التأثير علي هؤلاء الناس.. وقد نجح من قبل في السيطرة علي أهل قريته عندما كان يخطب فيهم الجمعة خلال زياراته المتعددة لهم في فصل الصيف.. وكان لم يزل طالبا.. والآن وهو يعمل كواعظ رسمي لا يستطيع أن يلفت اليه نظر هؤلاء المذنبين. واشتد ارتباك الشيخ عبدالحميد.. وهو لا يدري تماما ماذا يجب عليه أن يفعل، هل ينسحب ويمشي؟ ولكن هذه قد تحسب عليه. إذن هل يصرخ فيهم أن انتبهوا أيها الكافرون؟... أم.. وقبل أن يمضي في تفكيره للعثور علي حل لهذه المشكلة.. انتبه علي صوت أجش يرتفع صائحا: - انتباه. وعلي الأثر ظهر المأمور وبجانبه كبار الضباط، وعدد كبير من الحراس، مقبلين جميعا في موكب مهيب نحو منصة الشيخ، وانتفض الحراس في وقت واحد وقد طار النوم من عيونهم. وصمت المذنبون وكأنهم جثث في مقبرة. وانتفض الشيخ عبدالحميد هو الآخر، فقد أخذته روعة الموكب المهيب. واختلطت في ذهنه جميع المواعظ التي حفظها عن ظهر قلب طول حياته الماضية. وارتفع صوته من جديد، وكان المأمور قد اتخذ له مكانا علي مقربة من الحشد الكبير. - أيها الناس، كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم.. »وكل عمل ابن آدم لنفسه إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به« والصيام دواء لمرض التخمة، ولاشعاركم بما يلقاه المحرومون من اخوانكم في الانسانية، فتعطفون عليهم، وتحسنون إليهم. وترزقونهم مما رزقكم الله. وتوقف الشيخ عبدالحميد قليلا. كان الصمت لا يزال مخيما علي الجميع، وهم ينصتون في هدوء ويمصمصون شفاههم في »طرقعات« مسموعة، وعيونهم تختلس النظرات الي الناحية التي وقف فيها المأمور، وكان يبدو عليهم التأثر الشديد لما يقوله ورضي الشيخ عبدالحميد عن نفسه كثيرا وراح يربت بيده علي الشيخ، وكأن أفئدتهم قد تفتحت للتوجيه الحكيم الصائب. صدره العريض، لقد آمن أفراد هذا القطيع أخيرا، آمنوا بالصلاة والصيام والزكاة.. والحج الي بيت الله لمن استطاع اليه سبيلا وغشت عيناه سحابة من أثر الرضاء وعاد الي حديثه يليقه في عزم وقوة. وعيناه لا تري شيئا أمامه سوي الاستقرار الذي سيلقاه في عمله.. وقطعة الأرض التي سيشتريها بجوار الترعة. ولم لا؟ وقد ران الصمت علي الجميع واستطاع أن يغزو قلوبهم بالايمان؟!