تربع الأمير علي منصة القضاء حتي إذا ما اكتمل المجلس وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ قائلاً: أحضروا المجرمين أمامي واحدا واحدا وأخبروني بذنوبهم ومعاصيهم.. ففتح باب السجن وخرج منه جنديان يقودان فتي مكتوف اليدين يتكلم وجهه بكبرياء وعزة نفس فحدق إليه الأمير برهة ثم سأل: ما جريمة هذا الشاب المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة؟ فأجاب رجل من أعوانه قائلا: هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس قائدا من قواد الأمير كان ذاهبا في مهمة بين القري فقتله وقبض عليه والسيف المغمد بدماء القتيل مازال في يده.. فيهتز الأمير فوق عرشه وتطايرت نيران الغضب من عينيه وصرخ بأعلي صوته آمرا الجنود بإعادته إلي ظلمة السجن حتي يجيء فجر الغد فيضربون عنقه بحد سيفه ثم يرمون جثته في البرية لتلتهما الوحوش وتحمل الرياح رائحتها العفنة إلي أنوف أهله ومحبيه. وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة الجسد حزينة الملامح والعينين.. فنظر إليها الأمير وسأل عما فعلته هذه المرأة المهزولة الواقفة أمامهم وقوف الظل من الحقيقة.. فأجاب أحدهما بأنها امرأة عاهرة قد فاجأها زوجها ليلا فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أن فر عشيقها هاربا.. فرمقها الأمير بنظرات قاسية آمرا جنوده بأن يمددوها علي فراش من الشوك ويسقوها الخل ممزوجا بنقيع العلقم علها تذكر طعم القبلة المحرمة.. وعند مجيء الفجر يجروها عارية إلي خارج المدينة ويرجمونها بالحجارة تاركين جسدها هناك تنعم بلحمه الذئاب وتنخر عظامه الديدان والحشرات. وظهر الجنديان مرة ثالثة يقودان كهلا ضعيفا يسحب ركبتيه المرتعشتين ومن نظراته الموجعة يسيل البؤس والفقر والتعاسة.. فالتفت الأمير نحوه يسأل باشمئزاز عن ذنب هذا القذر الواقف كالميت بين الأحياء.. فأجابه أحدهما بأنه لص سارق قد دخل الدير ليلا فقبض عليه الرهبان الأتقياء ووجدوا طي أثوابه آنية مذابحهم المقدسة.. فنظر إليه الأمير نظرة النسر الجائع إلي عصفور مكسور الجناحين وأمر جنوده بأن يقضي ليلته مكبلا بالحديد وعند طلوع الفجر يجروه إلي شجرة عالية ويشنقوه بحبل من الكتان تاركين جسده معلقا بين السماء والأرض تبعثر الرياح أعضاءه وتنثرها نثرا ونتفا. ثم نزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرعون وسار الجند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان إلا من بكاء وعويل وزفرات المسجونين اليائسين. صراخ القبور جري كل ذلك والراوي واقفا هناك يتابع محاكمات الأمير بقلبه وعقله. مفكرا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر.. متأملا بما يحسبه الناس عدلا متعمقا بأسرار الحياة باحثا عن الطريق إلي العدل الإلهي.. فالأعشاب تمتص غذاءها من التربة. والخروف يلتهم الأعشاب والذئب يفترس الخروف. ووحيد القرن يقتل الذئب. والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يفني الأسد.. فهل توجد قوة تتغلب علي الظلم وتهزمه بتحقيق العدل.. قوة توقف القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسروق أمام محكمة أسمي وأعلي من محكمة الأمير؟ وفي اليوم التالي خرج الراوي من المدينة ولما بلغ أطراف الوادي رأي أسرابا من الغربان والنسور وقد ملأت الفضاء بصغيرها وحفيف أجنحتها تحوم حول ثلاثة أساءوا بعرف البشر إلي الناموس فمدت القوانين العمياء يدها وسحقتهم بقسوة شديدة. ثلاثة جعلت الظروف مجرمين لأنهم ضعفاء فقتلتهم شريعة الأمير لأنها قوية.. سفك الدماء محرم ولكن من حلله للأمير.. وسلب الأموال جريمة ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة.. مثلما خيانة النساء قبيحة ولكن أبشع منها رجم الأجساد.. ولماذا تطبق القوانين علي الضعفاء المساكين وحدهم.. أما صرع الامير عدوا في غابر حياته.. أما سلب مالا أو عقارا من أحد رعاياه الضعفاء.. إما راود امرأة جميلة عن نفسها وهل كان معصوما عن هذه المحرمات فجاز له اعدام القاتل وشنق السارق ورجم الزانية. ومن هم الذين رفعوا هذا اللص علي الشجرة.. أملائكة نزلوا من السماء أم رجال يغتصبون ويسرقون كل ما تصل إليه أيديهم.. ومن قطع رأس هذا القاتل.. أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون ويسفكون الدماء أينما حلوا.. ومن رجم هذه الزانية غير بشر يأتون المنكرات ويرتكبون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟ ظلت هذه الأفكار تتزاحم في عقله حتي سمع خطوات أقدام تقترب.. وإذا بصبية قد ظهرت من بين الأشجار متلفتة بخوف إلي كل ناحية حتي إذا ما رأت رأس الفتي المقطوع صرخت وركعت بجانبه تبكي ثم أسرعت تحفر قبرا واسعا يضم جثمانه ورأسه.. وعندما رأته يرقبها من بعيد استحلفته ألا يبلغ عنها الامير فقد أنقذها الشاب القتيل من العار عندما جاء قائد الأمير إلي حقلهم ليتقاضي الضرائب ويجمع الجزية.. ولما رآها طمع في جمالها ففرض ضريبة باهظة علي حقل والدها الفقير عجز عن دفعها فاقتادها قهرا إلي قصر الامير بدلا من الذهب فصرخت مستغيثة فجاء هذا الشاب وخلصها من بين يديه فاستشاط غضبا وهَم أن يفتك به فصرعه الشاب بسيفه مدافعا عن حياته وعرضها. انصرفت الفتاة المحزونة ليجيء فتي في ربيع العمر يقترب من جثة المرأة الزانية يستر جسدها المسجي بعباءته ويحفر الأرض بخنجر كان معه ثم يواريه التراب ويضع بعض زهور علي قبرها.. أنه الرجل التعس الذي رجمت من أجله.. جمع بينهما الحب الطاهر لكن أعطاها والدها كرها لزوج تكرهه.. فذهبت إليه سرا تندب حبها وغرامها وحظها فجلسا والعفاف ثالثهما.. ولم تمر ساعة حتي دخل زوجها واتهمها بالزني ظلما وزورا وبهتانا فهرول الجيران وجاء الجنود واقتادوها محلولة الشعر ممزقة الثياب لأن القوانين العمياء تعاقب المرأة اذا سقطت أما الرجل فتسامحه.. بعد ساعة رأي امرأة.. تتسلق الشجرة وتقضم حبل الكتان بأسنانها فسقط القتيل علي الأرض وحفرت له قبرا بجانب القبرين وضعته فيه.. وتهدج صوتها بالدموع وهي تخبره أنه زوجها الصالح الحنون والد أطفالها الخمسة.. وأنه لم يكن لصا بل كان زارعا يفلح أرض الدير مقابل رغيف يتقاسمونه عند المساء ولا تبقي منه لقمة إلي الصباح وعندما ضعف جسمه وسكنته الامراض طرده الرهبان فلم يعد الدير محتاجا اليه.. وذات ليلة رأي أطفاله يتضورون جوعا فذهب مستترا بالظلام وحمل زنبيلا من الدقيق علي ظهره لكنه لم يسر بضع خطوت حتي استيقظ القسس من رقادهم وأسلموه إلي الجند الذين اقتادوه إلي السجن. وقف الراوي بين القبور الثلاثة.. ينبثق منها صراخ فتي دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة وأنقذها من بين أنياب ذئب كاسر.. وصبية لامسي الحب نفسها قبل أن تغتصب الشهوات جسدها فرجم لأن قلبها أبي إلا أن يكون أمينا صادقا حتي الموت.. وفقير بائس أنهكه المرض والجوع فطرده الرهبان وعندما طلب الخبز لصغاره بالعمل لم يجده فاضطر لسرقة ما يسد جوعهم فقبضوا عليه وفتكوا به. ظل الراوي واقفا بين القبور حتي توارت الشمس وراء الأفق وكأنها ملت متاعب البشر وكرهت ظلمهم.. ثم عاد المساء يضرم في قلبه شوقا للانعتاق من الوجع فيرفع جبران خليل عينيه متوسلا الرحمة وعدالة السماء.. ومثله أفعل كلما اقترب العام من نهايته معلنا مجيء عام جديد فتهيج اشواقي لعودة الحب الذي لفحت زهوره نيران الحقد والكراهية والبغضاء.. والعدل الغائب بقوانين وتشريعات تحول تعاليم الدين وأحكامه ووصاياه إلي سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون اجساد المساكين الضعفاء في وطن يتصارع فيه موكبان.. موب من عجائز ينحدرون من الأعالي إلي المنخفضات.. وموكب من فتيات يحلقون بأجنحة من نور ونيران.