منى أحمد تكتب: سيناء.. أرض التضحيات    الأقصر .. قطع المياه عن بعض المناطق في إسنا غدا    التموين: استوردنا شحنات من السكر لحقيق الاكتفاء الذاتي وضبط الأسعار في الأسواق|فيديو    منسق حملة مقاطعة الأسماك: لا مبرر لزيادة الأسعار.. والانخفاض وصل إلى 60%    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف شرق رفح الفلسطينية    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    رغم الخسارة| العين الإماراتي يتأهل لنهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال    صلاح يفاجئ الجميع بطلب غير متوقع قبل الرحيل عن ليفربول.. هل يتحقق؟    غلق شوارع حيوية في مدينة نصر.. اعرف البديل    "تنشيط السياحة" توضح أسباب إلغاء حفل "كاني ويست" في منطقة الأهرامات    هبة من الله.. المناطق السياحية في سيناء «عالمية بامتياز»    وزيرة الثقافة ومحافظ شمال سيناء يشهدان احتفالية تحرير أرض الفيروز بقصر ثقافة العريش    نائب سفير ألمانيا بالقاهرة يؤكد اهتمام بلاده بدعم السياحة في أسوان    كفر الشيخ الخامسة على مستوى الجمهورية في تقييم القوافل العلاجية ضمن حياة كريمة    "سياحة النواب" تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    "مفيش أهم منها"|أحمد موسى يطالب بحضور 70 ألف مشجع مباراة بوركينا فاسو..فيديو    مدرب جيرونا يقترب من قيادة «عملاق إنجلترا»    غياب نجم ليفربول لمدة أسبوعين بسبب الإصابة    «الزعيم الصغنن».. محمد إمام يستقبل مولودا جديدا    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    دعوة أربعين غريبًا مستجابة.. تعرف على حقيقة المقولة المنتشرة بين الناس    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    جامعة المنوفية توقع بروتوكول تعاون مع الهيئة القومية للاعتماد والرقابة الصحية    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    وداعًا حر الصيف..طريقة عمل آيس كريم البرتقال سهل وسريع بأبسط المقادير    شاب يقتل والده بسبب إدمانه للمخدرات.. وقرار من النيابة    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    «بروميتيون تاير إيجيبت» راعٍ جديد للنادي الأهلي لمدة ثلاث سنوات    يد – الزمالك يفوز على الأبيار الجزائري ويتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس    عمال سوريا: 25 شركة خرجت من سوق العمل بسبب الإرهاب والدمار    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    إنفوجراف.. مراحل استرداد سيناء    بائع خضار يقتل زميله بسبب الخلاف على مكان البيع في سوق شبين القناطر    القومي للكبد: الفيروسات المعوية متحورة وتصيب أكثر من مليار نسمة عالميا سنويا (فيديو)    تحت تهديد السلاح.. استمرار حبس عاطلين لاستدراج شخص وسرقة سيارته في أكتوبر    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    السياحة: زيادة أعداد السائحين الصينيين في 2023 بنسبة 254% مقارنة ب2022    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال التطوير بإدارات الديوان العام    غدا.. اجتماع مشترك بين نقابة الصحفيين والمهن التمثيلية    مجلس الوزراء: الأحد والإثنين 5 و6 مايو إجازة رسمية بمناسبة عيدي العمال وشم النسيم    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    مواصفات أسئلة الفيزياء والكيمياء والأحياء للثانوية العامة 2024    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    بدأ جولته بلقاء محافظ شمال سيناء.. وزير الرياضة: الدولة مهتمة بالاستثمار في الشباب    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 23 - 4 - 2024 في الأسواق    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سادة العالم عشاق وعلماء
بقلم‏:‏ مجيد طوبيا

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي الي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب‏.‏
لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏
والتاريخ ذاكرة الأمة‏.‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون احساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزئية خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دراسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقاريء مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أن قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قاريء هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لإبن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي أن الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏ إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوربا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏
احتضن تل المقطم مدينة الفسطاط‏,‏ واحتضنت الفسطاط مئات من قصص الحب وآلاف العشاق والعاشقات‏,‏ أشهرهن عزة وبثينة‏,‏ وكل واحدة منهما أحبها شاعر كبير حبا عارما‏.‏
وقد ظل انتشار اللغة العربية في مصر بطيئا حتي نهاية العصر الأموي ومعظم العباسي لهذا لا نجد أدباء مصريين يكتبون بالعربية‏,‏ والابداع يحتاج الي الحرية والي الزهو بالنفس‏.‏ وحتي شعراء العرب المادحين لم يفدوا الي مصر‏,‏ ويمموا صوب دار الخلافة في دمشق الأموية ثم بغداد وسامرا العباسيتين‏,‏ طمعا في العطاء‏.‏ لكن لما ولي الخليفة مروان بن الحكم ولده عبدالعزيز عام‏65‏ ه علي مصر‏,‏ كان ذا نفوذ‏,‏ ودام بقاؤه بمصر طويلا‏,‏ فقصده عدد من الشعراء العرب طمعا في الإجازة أي المكافأة‏.‏
‏*‏ ذهول العاشق‏:‏
في سنة‏86‏ ه وقع الطاعون بالفسطاط ولم يكن له علاج‏.‏ والوباء لا يفرق بين كبير وصغير‏,‏ فحصد ضمن من حصد الوالي عبدالعزيز‏(‏ ابن الخليفة‏)‏ وعاشقة شهيرة في تاريخ العرب هي عزة بنت جميل بن عمرو العمري‏,‏ ودفنت بمصر‏,‏ وكان أصلها من الجيزة كما قيل‏.‏ وكانت من أحسن النساء وجها وأفصحهن لسانا وأحفظهن لكلام العرب‏.‏ وهي معشوقة كثير الشاعر الذي عرف بكثير عزة من فرط افتتانه بها حتي ضرب المثل به‏.‏ وقبل أن أخت الخليفة عمر بن عبدالعزيز سألت عزة في حياتها عن قصد كثير من البيت الذي قال فيه‏:‏
قضي كل ذي دين ووفي غريمه‏..‏ وعزة ممطول معني غريمها
وسألتها عن هدا الدين‏:‏ فقالت عزة‏:‏ لقد وعدته بقبلة ولم أنجزها له‏.‏ فقالت أخت عمر بن عبدالعزيز‏,‏ وكانت من النساء العابدات الصالحات‏:‏ أنجز يها له وعلي إثمها‏.‏ ثم أنها أعتقت أربعين جارية لأجل قولها‏:‏ وعلي إثمها‏.‏
فلما بلغ كثيرا موت عزة أتي الي مصر وزار قبرها وبكي عنده‏,‏ ورثاها بقصائد سنية‏.‏ وقيل لما ماتت تغير شعره بعدها‏.‏ فقال له قائل‏:‏ ما بال شعرك قد قصرت فيه؟‏.‏ فقال‏:‏ ماتت عزة فلا أطرب‏,‏ وذهب الشباب فلا أعجب‏..‏ واستمر بعد عزة في ذهول حتي مات سنة‏107‏ ه ودفن بمصر‏,‏ وقيل أنه مات سنة‏105‏ ه
واحتوي سفح المقطم جسد العاشقين البائسين‏:‏
يقول د‏.‏ زكي مبارك في كتابه العشاق الثلاثة‏:‏
وكان كثير قد تردد كثيرا علي مصر ومدح واليها عبدالعزيز بن مروان‏,‏ ولقي في مرة من مرات خروجه من مصر عزة وقومها في طريقهم إليها‏,‏ فحادثها طويلا ثم افترقا‏.‏ فقدمت هي الي مصر وسار هو إلي الحجاز علي أن يعود فيلحق بها ولكن القدر لم يمهله فمات‏..‏
وكان كثير قصيرا أعور وكان شيعيا مفرطا في التشيع‏..‏ وكان الشيعة اندحروا في عهد بني أمية‏,‏ ولم يبق لهم أمل في الظفر بالسلطان‏,‏ ولا يثبت الرجل علي عقيدة مخذولة منبوذة إلا إذا كان علي جانب عظيم من قوة الروح‏..‏ وكان يؤمن بالتناسخ فيري أن الأرواح في تنقل من صورة الي صورة‏,‏ فتساير الوجود من زمن الي أزمان‏.‏ وكان يدين بالرجعة فيري أن لا خوف من الموت‏..(‏ ومع ذلك‏)‏ اكتفي بالسير في ركاب الخلفاء من بني أمية ليقي نفسه شر العوز‏,‏ وليسلم من الاغتيال الذي كان يترصد أنصار الهاشميين في ذلك الحين‏.‏
‏*‏ شهيد النساء‏:‏
احتوت الفسطاط كذلك عاشقا مشهورا هو جميل العذري صاحب بثينة من بني عذرة‏,‏ والذي عرف بجميل بثينة‏.‏ قدم الي عبدالعزيز بن مروان ممتدحا له فأحسن جائزته‏,‏ وسأله عن حبه لبثينة فذكر له وجدا عنيفا‏,‏ فوعده في أمرها‏,‏ وأمره بالمقام‏,‏ وأمر له بمنزل وبما يصلحه‏,‏ فما أقام إلا قيلا حتي مات بمصر سنة‏82‏ ه‏.‏ وهو الذي قال عن الغواني‏:‏
يقولون جاهد ياجميل بغزوة‏..‏ وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث عندهن بشاشة‏..‏ وكل قتيل بينهن شهيد
فلما وقع في حب بثينة بثها شعره‏:‏
علقت الهوي منها وليدا فلم يزل الي اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري بانتظاري وعدها وأبليت منها الدهر وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا ولا حبها فيما يبيد يبيد
ويبدو أنها كانت تعطيه الأمل ولا تنجز‏..‏ فناجاها منشدا‏:‏
ألم تعلمي ياعذبة الريق أنني أظل إذا لم أسقي ريقك هاديا
ولم تقف بلية الحب عند الهيام بامرأة متزوجة‏,‏ وهو مسلك يمقته جميل‏,‏ فقد وقع لبثينة حب جديد مع رجل إسمه حجنة الهلالي‏,‏ وبذلك وقعت الجفوة بينها وبين جميل‏,‏ فصار الي حاله لا ينفع فيها دواء كان جميل قوي البنية طويل مابين المنكبين‏,‏ شجاعا غاية في الهيبة والجلال‏.‏ لم يعرف الخضوع إلا للحب‏.‏ وكان غرام بثينة بحجنة سحابة صيف انقشعت‏,‏ لتعترم الصبابة بالعاشقين من جديد‏.‏ وحاول عمر بن أبي ربيعة التقرب منها لكنها سخرت منه رغم صيته‏.‏ وكانت إمرأة ذكية القلب قوية الروح‏.‏ وكانت النجوي بين هذين العاشقين تتصل من وقت الشفق الي إشراق الصباح‏.‏
ولما عاني جميل سكرات الموت بمصر‏,‏ كانت وصيته الوحيدة إبلاغ بثينة أن اسمها كان آخر اسم هتف به عند الموت‏.‏ وتجشم رجل مشقة السفر من مصر الي بلاد بثينة ومعه حلة جميل لتصدق أن محبوبها دفن بأرض الفراعنة‏.‏ وذكر صاحب الأغاني عن الأصمعي أن بثينة لما بلغها خبر موت جميل‏,‏ وكانت كأنها البدر صاحت بأعلي صوتها وصكت وجهها‏,‏ واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتي صعقت‏,‏ فمكثت مغشيا عليها ساعة‏..‏ وقال من شاهدها‏:‏ مارأيت أكثر باكيا أو باكية من يومئذ‏.‏
‏*‏ الحمار والسفاح‏:‏
ولأن كل ما له بداية له نهاية‏,‏ فقد شاخت الدولة الأموية وحان أوان سقوطها‏.‏ فلما كان آخر خلفائها وكان يعرف بالحمار والجعدي‏(‏ ووصف الحمار هنا ليس شتيمة‏).‏ وتسميته بالجعدي نسبة لمؤدبه جعد بن درهم‏,‏ والحمار‏:‏ يقال فلان أصبر من حمار في الحروب‏,‏ ولهذا لقب بالحمار فإنه كان لا يفتر عن محاربة الخوارج‏.‏ وقيل سمي بالحمار لأن العرب تسمي كل مائة عام‏(‏ أي قرن‏)‏ حمارا‏,‏ فلما قارب ملك بني أمية مائة سنة لقبوا مروان بالحمار‏..‏ لأنه بويع بالخلافة سنة‏107‏ ه فلم يهنأ بها لكثرة حروبه وظهور دعوات بني العباس
فلما قويت شوكة العباسية علي الأموية‏,‏ وانكسر مروان الحمار وهرب‏,‏ توجه الي مصر‏.‏ وولي الخلافة عبد الله السفاح‏,‏ وهو أول خلفاء بني العباس‏,‏ أرسل مندوبا عنه في طلب مروان‏,‏ فوجده وقد توجه الي الصعيد‏,‏ فتبعه بمن معه من العساكر حتي ظفر به في قرية بوصير‏,‏ وقطع رأسه هناك‏,‏ وأخذ ماكان معه من الأموال والتحف‏,‏ ودفن جثته هناك في بعض الشطوط من البحر بغير غسيل ولا تكفين‏..‏
فلما بلغ إبنه عبيد الله بن مروان ذلك قام الي خزائن المال وأخذ منها عشرة آلاف دينار‏,‏ وأخذ شيئا من التحف والقماش والفرش‏,‏ وحمل ذلك علي اثني عشر بغلا‏,‏ وأخذ معه جماعة من عبيده‏,‏ وشد علي وسطه كمية من الجواهر الفاخرة‏,‏ وخرج من مصر هاربا الي بلاد النوبة‏..‏ فوجد مدائن خربة وبها قصور‏,‏ فنزل في إحداها وفرشها من تلك الفراش التي معه‏.‏ ثم أرسل غلاما يطلب الأمان من ملك النوبة المسيحي‏.‏ فعاد ومعه رسول من عنده يسأله إن كان قد جاء محاربا أم لاجئا‏,‏ فقال مستجيرا‏.‏ فمضي ذلك الرسول وغاب ساعة ورجع يخبره بقرب مجيء الملك‏.‏
فإذا هو رجل أسود اللون طويل القامة نحيف الجسد‏,‏ وعليه بردتان‏,‏ ومعه عشرة من السودان من حوله ومعهم حراب بأسنة‏.‏ فلما رآه الأمير استصغر أمره‏,‏ فلما قرب من المكان احتاط به من العساكر آلاف الرجال السود وفي أيديهم الحراب‏..‏ وجلس الملك بين يدي الأمير عبيد الله‏,‏ وجعل ينكش بأصبعه في الأرض طويلا‏,‏ ثم رفع رأسه وقال للترجمان‏:‏ قل له‏(‏ للأمير‏)‏ كيف سلب منكم الحكم وأنتم أقرب الناس الي نبيكم ؟‏.‏ فقال الأمير‏:‏ الذي سلب منا ملكنا أقرب الي نبينا منا‏..‏
سكت ملك النوبة وقال للترجمان‏:‏ قل له فكيف أنتم تمتون الي نبيكم بقرابة وأنتم تشربون ماحرم عليكم من الخمر‏,‏ وتلبسون الديباج وهو محرم عليكم‏,‏ وتركبون في السروج الذهب والفضة‏,‏ ولم يفعل نبيكم شيئا من هذا‏,‏ وتكلف أهل القري ما لا يطيقون‏,‏ وتفسدون الزروع علي الناس‏,‏ وتروم الهدايا من أهل القرية‏,‏ وكل هذا لأجل كركي‏(‏ طائر‏)‏ تصيده قيمته سبعة أنصاف‏(‏ عملة صغيرة جدا‏)‏ ؟
وصار يعد للأمير جملة من الذنوب وهو ساكت‏,‏ ثم قال‏:‏ لما استحللتم ماحرمه الله عليكم سلبتم ملككم‏,‏ وأنا أخاف علي نفسي إن أنزلتك عندي‏,‏ فتحل بي تلك النقمة التي حلت بكم‏,‏ولكن إرحل عن أرضي بعد ثلاثة أيام‏,‏ وإلا أخذت مامعك من الأموال وقتلتك‏.‏ ثم قام وانصرف‏..‏
وعاد عبيد الله الي الفسطاط‏,‏ فقبض عليه وأرسل الي السفاح أول خلفاء بني العباس‏,‏ وبه زالت دولة الأموية‏.‏
هكذا بدأت الدولة العباسية علي يد السفاح‏,‏ بعد قتل الحمار آخر الأمويين‏,‏ وكانت مقتلته في مصر‏.‏ لكن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك هرب الي الأندلس وأنشأ الدولة الأموية هناك‏,‏ وهو المعروف بعبد الرحمن الداخل وبصقر قريش‏.‏
‏*‏ صديق الصعاليك‏:‏
وكما تحول العباسيون عن دمشق الأموية‏,‏ وبنوا لأنفسهم عاصمة مشهورة هي بغداد‏,‏ فعل ولاتهم في مصر وأسسوا ضاحية جديدة رسمية‏,‏ في المكان الذي عسكر فيه الجند العباسي‏,‏ فسمي العسكر‏.‏
وكانت هذه المدينة شمال شرق الفسطاط‏,‏ وصارت مقرا للوالي والحكام‏,‏ وقد حافظ العباسيون علي تغيير ولاتهم بسرعة خشية طموح أحدهم والاستقلال بمصر‏.‏ فكان عصرهم منذ البداية وحتي مجئ أحمد بن طولون كثير الفتن‏,‏ بسبب تمرد قبائل العرب علي الولاة أو علي بعضهم بعضا‏,‏ أو بسبب قيام العلويين بمصر يطالبون بالخلافة‏,‏ أو من القبط يثورون منفردين أو متحدين مع المسلمين‏,‏ حتي بلغ عدد الولاة في عهد الرشيد‏17‏ واليا فيما يقرب من‏23‏ سنة‏,‏ وفي عهد المأمون‏13‏ في حوالي عشرين سنة‏!‏
وطوال القرن وربع القرن بين بداية العباسيين سنة‏132‏ ه واستقلال أحمد بن طولون بمصر سنة‏254‏ ه ظل الحكم لا يختلف عما قبله‏,‏ ولاة خاضعون لعاصمة الخلافة الجديدة في بغداد‏,‏ مدينون لهم بولايتهم‏,‏ متوقعون لعزلهم‏,‏ لذلك كانوا يجمعون المال بأكثر وبأسرع ما يكون فلم يستقر الأدب في مصر لعدم استقرار الادارة‏.‏ وكان معظم الولاة بخلاء‏.‏
ومن الشعراء الذين وفدوا علي مصر في هذه الفترة الشاعر الكبير دعبل الخزاعي‏,‏ قال عنه صاحب الأغاني‏:‏ شاعر مطبوع هجاء لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن ولا أفلت منه أحد وكان من الشيعة المشهورين بالميل إلي علي‏,‏ وقيل عنه كان يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاء وأثري‏,‏ وكانت الصعاليك‏(‏ وقطاع الطرق‏)‏ يلقونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه‏.‏
جاء هذا الشاعر الي مصر والولي عليها إسمه المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي ومدح المطلب هذا بقصيدة قال فيها‏:‏
أبعد مصر وبعد مطلب ترجو الغني ؟ إن ذا عجب
إن كاثرونا جئنا بأسرته أو واحدونا جئنا بمطلب
فصار عنده أحب الناس وولاه أسوان لكن طبعه غالب عليه وهجاه‏:‏
وعاديت قوما فما ضرهم وشرفت قوما فلم يتبلوا
شعارك عن الحروب النجاة وصاحبك الأخور الأفشل
‏*‏ أبو نواس في مصر‏:‏
ومن قبل وفي ولاية الأمير موسي بن عيسي المعروف بالخصيب لوضاحة وجهه وفد عليه بمصر أبو نواس‏,‏ الذي يصفه ابن إياس بأنه‏:‏ كان إماما عالما فاضلا بارعا في العلم والأدب‏,‏ وإنما غلب عليه حب الشعر واللهو والخلاعة وشرب الراح‏(‏ الخمر‏).‏ فانحطت رتبته بين العلماء‏.‏ وإسمه الحسن بن هانئ‏,‏ وإنما سمي بأبي نواس لأنه كانت له ذؤابتا شعر تنوسان علي قفاه‏..‏ دخل هذا الشاعر علي الخصيب ومدحه بقوله‏:‏
إذا لم تزر أرض الخطيب ركابنا فأي فتي بعد الخصيب نزور
فتي يشتري حسن الثناء بماله ويعلم أن الدائرات تدور
وهي طويلة فمنحه الخصيب ألف دينار‏,‏ فلما كان الغد امتدحه بقصيدة أخري منها‏:‏
أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا‏,‏ فكلكما بحر
فأمر له بألف دينار أخري فعاد في اليوم الثالث منشدا‏,‏ وكان أهل مصر قد أحدثوا شغبا علي الخصيب لسوء الأحوال وغلاء الأسعار‏,‏ وكان يشرب وعنده أبو نواس‏,‏ فوثب وقال‏:‏ دعني أيها الأمير أكلمهم‏,‏ فسمح له فخرج حتي وافي المسجد الجامع‏,‏ وقال للناس‏:‏
منحتكمو يا أهل مصر نصيحتي فإن عصا موسي بكف الخصيب
فانصرف الناس ومنحه الأمير ألف درهم وأمره بالرحيل فعاد إلي بغداد‏.‏
وقد عزل الخصيب بعد ذلك ولكن ليس بسبب غضب المصريين وزيادة الأسعار‏,‏ وإنما لأنه قال‏:‏ أنا أحسن من هارون الرشيد‏.‏ فقال الرشيد والله لأولين علي مصر أوحش الناس شكلا‏.‏ واستدعي شخصا اسمه عمر بن مهران وولاه علي مصر نيابة عن جعفر‏(‏ أي من باطن جعفر‏).‏ فلما سار دخل مصر وهو في أزري هيئة راكبا علي بغل‏,‏ وغلامه علي حمار‏.‏
‏*‏ جيوب الناس‏:‏
كما عاد الي مصر أبو تمام الطائي‏,‏ وهو نشأ بها واعتاد أن يسقي الماء بالجرة في جامع عمرو وليقتات‏,‏ فلما لم تعرف مصر قدر شعره ولم يمنحه وال‏,‏ رحل الي بغداد فشاع ذكره وطارت شهرته‏.‏ وعاد الي مصر مادحا واليها‏,‏ وكان اسمه عياش الحضرمي‏..‏ فكانت هذه الحكاية الطريفة‏.‏ في البداية مدح الشاعر هذا الوالي عياش‏:‏
رأيت لعياش خلائق لم تكن لتكمل إلا في الأديب المهذب
لكن هذا الأديب المهذب عياش كان بخيلا ولم يلتفت إليه‏.‏ وطالت إقامة أبي تمام الطائي‏,‏ وجاء عيد الفطر والأضحي وهو ينتظر المنحة‏,‏ وعندئذ قال مستبطئا‏:‏
الفطر والأضحي قد انسلخا ولي أمل ببابك صائم لم يفطر
ولزم عياش الصمت‏.‏ فعاتبه محذرا‏:‏
وقواف قد ضج منها استعمل فيها المرفوع والمخفوض
يا محب الاحسان في زمن أصبح فيه الاحسان وهو بغيض
ثم ذمه وهجاه‏:‏
ستعلم يا عياش إن كنت تعلم فتندم إن خلاك جهلك تندم
وقفت عليك الظن حتي كأنما لديك الغني‏,‏ أو ليس في الأرض درهم
فلما مات عياش اغتاظ الشاعر وقال‏:‏
فيمن يش الشعر غاراته بعدك أو أمثاله السائرة
قد كانت الدنيا شفت لو عتي منك‏,‏ ولكن غدت بالآخرة
لكن جميع هذا لا علاقة له بنشأة الأدب المصري المكتوب بالعربية‏,‏ شاعر يصطنع الشعر للإرتزاق‏,‏ والوالي إن منح فمن مديده الي جيوب المصريين بالخديعة أو بالسوط‏!‏
‏*‏ الليث والشافعي‏:‏
من أئمة الدين عرفت مصر الليث بن سعد‏,‏ وهو فارسي الأصل مصري المولد‏,‏ ولد ببلدة قلقشندة المصرية‏.‏ قال عنه الإمام الشافعي الليث بن سعد أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به‏.‏ وكان عظيم المنزلة عند الوالي والقاضي حتي كانا لا يقطعان أمرا دون مشورته‏.‏
وهو الذي أشار علي الوالي موسي بن عيسي أن يأذن للنصاري في بنيان الكنائس التي هدمها سلفه‏,‏ قائلا‏:‏ إن كنائس بمصر‏(‏ الفسطاط‏)‏ بنيت في الاسلام في زمان الصحابة والتابعين‏.‏ وقد أسف الإمام الشافعي لكونه لم يدرك الليثي بمصر‏,‏ إذ كان قد مات سنة‏175‏ ه‏.‏
وكان أول ما عرفه المصريون من المذاهب الفقهية هو مذهب الإمام مالك‏..‏ وكانوا لا يعرفون خلافا ولا يجري بينهم نقاش إلا كما يجري بين أهل المذهب في الفروع التي يهون أمرها‏..‏ حتي حل الأمام الشافعي سنة‏199‏ ه وقيل‏201‏ ه فحدث خلاف شديد‏,‏ وكان الإمام قد زار بغداد وكانت موطن القياس الذي جري عليه الإمام أبو حنيفة النعمان وأصحابه‏,‏وكانت أيضا مقر الفلسفة والمنطق‏,‏ فاستفاد من حرية الرأي والفهم والتخريج‏.‏
لذلك كانت طريقته جديدة وجريئة في نظر المصريين‏.‏ فلم يلبثوا بعد أن سمعوا كلامه أن رموه بأشياء كثيرة‏,‏ حتي لقد ضربوه في حلقات درسه ضربا مبرحا‏,‏ حمل علي أثره الي منزله عليلا‏..‏ وذكروا أن القاضي عيسي بن المنكدر كان يصيح به‏:‏ ياكذا دخلت البلاد وأمرنا واحدا ففرقت كلمتنا وألقيت الشر بيننا‏,‏ فرق الله بين روحك وجسدك‏!‏
ويكمل محمود مصطفي معلقا‏:‏
مع أن دخول الشافعي مصر كان بركة ويمنا علي المصريين‏,‏ لأنه علمهم مناقشة الحقائق بعد أن كانوا يستسلمون الي الرواية استسلاما‏.‏ ولا شك أن للجدل والمناظرة أثرهما في تنوير الأذهان‏.‏ وقد كان لادبه وعلمه باللغة ورواية الأشعار أثر عظيم في حسن عبارته‏..‏ وكان مولده بغزة من فلسطين سنة‏150‏ ه وشب في مكة ثم رحل الي المدينة وتلقي الحديث عن الإمام مالك بعد أن كان حفظ الموطأ‏,‏ ثم رحل الي بغداد‏..‏ وجاء الي مصر سنة‏199‏ ه وألقي دروسه بجامع عمرو
وعاش أربعة وخمسين عاما‏,‏ واستمر بمصر الي أن مرض بعلة البطن‏..‏ فلما أشرف علي الموت أوصي ألا يغسله إلا أمير البلد‏,‏ فلما مات حضر الأمير وعلم أنه مات وعليه دين سبعون ألف درهم قضاها عنه الأمير‏,‏ وقال‏:‏ هذا غسلي له
مع أن المصريين عندما علموا فضله كانوا يرسلون له الهدايا والهبات‏.‏ وكان له راتب من السيدة نفيسة رضي الله عنها‏,‏ كما كانت زوجة الرشيد ترسل اليه من بغداد مالا وثيابا‏.‏ لكنه كان كريما‏.‏ وقد أحب مصر‏,‏ وكان مسافرا عنها فأنشد مشتاقا‏.‏
وإني أري نفسي تتوق الي مصر ومن دونها عرض المهامة والقفر
وقال عنه المؤرخ إبن زولاق‏:‏ أنه كان واسع الاطلاع‏,‏ حسن الخلق‏,‏ سخي النفس‏,‏ قليل الغضب‏,‏ فكه المحاضرة‏.‏ ومن نظمه في كلام الناس‏.‏
الذين لايرضيهم أي شيء‏:‏
إن كنت منبسطا سميت مسخرة أو كنت منقبضا قالوا به ثقل
وإن أخالطهم قالوا عن طمع وإن تجنبتهم قالوا به علل
وإن طعمتهم قالوا يصانعنا وإن منعتهم قالوا به بخل
وكان الإمام الشافعي حتي وفاته‏204‏ ه‏(819‏ م‏)‏ هو قطب الحركة الفكرية في الحلقات الفكرية التي كانت تعقد في الفسطاط‏,‏ لأن مدينة العسكر كانت مركزا للإمارة والإدارة العباسية فقط‏..‏ لكن هذه الحلقات الفكرية كانت تتعرض من حين لآخر لمعاكسات الوالي وعسكره حسب التغيرات السياسية‏,‏ مثلما حدث عام‏226‏ ه عندما أمر القاضي محمد بن أبي الليث قاضي قضاة مصر‏,‏ تنفيذا لرغبة الخليفة العباسي‏,‏ بالقبض علي جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء بإسم الامتحان في مسألة خلق القرآن المعروفة بالمحنة‏,‏ فملئت السجون بالمنكرين لخلقه‏,‏ وأغلق المسجد الجامع في وجه الملكية والشافعية‏,‏ وقضت حلقاتهم العلمية والأدبية‏...‏ وكانت أشهر هذه الحلقات حلقة بني عبدالحكم‏,‏ وهي ثمرة مصرية نابهة ثرية‏,‏ أنجبت بعض كبار الفقهاء‏,‏ وأنجبت عبدالرحمن بن عبدالحكم أقدم مؤرخ لمصر الاسلامية‏.‏
عن مسألة المحنة‏:‏ فقد حدث في زمن المأمون ثم أخيه المعتصم ثم الواثق‏(‏ الفترة مابين‏218‏ 234‏ ه‏)‏ اتخذت الدولة العباسية الاعتزال مذهبا رسميا لها وأرادت فرض اعتناقه علي جميع رعاياها‏,‏ وكان من أفكار المعتزلة أن القرآن حادث مخلوق نزل في ظروف معينة ولم يكن موجودا منذ الأزل‏..‏ وكل من رفض ذلك عذب أو سجن‏..‏ وقد أمر القاضي ابن أبي الليث أن يكتب علي المساجد‏:‏ لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق‏..‏ أما ذو النون المصري‏(‏ المتصوف الإخميمي‏)‏ فقد حاول الهرب فلما وقع في يد القاضي أقر بخلق القرآن‏.‏
‏*‏ ذو النون المصري‏:‏
وقد كان لمصر سبق مذكور في ميدان التصوف‏,‏ وذلك منذ ظهور عهد الرهبنة المسيحية‏..‏ ويقول أحمد أمين أن المتصوفة لما جاءوا فلسفوا الزهد‏,‏ ولان من زهدهم لبس الصوف الخشن كما يفعل رهبان النصاري‏,‏ فسموا من أجل ذلك بالصوفية‏..‏
وعن أشهر المتصوفة الحلاج ورابعة العدوية التي ملأت التصوف بحب الله‏..‏ أما ذو النون المصري فهو أحد مؤسسي التصوف‏,‏ أصله من اخميم بصعيد مصر‏,‏ وصف بأنه كان يعرف الكيمياء ويقرأ الخط الهيروغليفي‏..‏ وقد زعم أن ملوك مصر الفراعنة خافوا ضياع علومهم بالطوفان فبنوا البرابي‏(‏ المعابد‏)‏ وصوروا فيها كل آلات الصناعات‏,‏ وأودعوا فيها كل أسرارهم‏,‏ وأنه استطاع أن يعرف هذه الأسرار‏!‏
وهو قد رحل إلي بلاد كثيرة من المغرب وبيت المقدس وانطاكية واليمن وبغداد ومكة والمدينة‏,‏ وقابل الرهبان وتحدث إليهم‏,‏ ثم طلع علي الناس في مصر بكلام لم يألفوه عن الحب الإلهي‏,‏ وأن مصادر المعرفة هي‏:‏ النقل والعقل والكشف‏,‏ وأن هناك علما ظاهرا وعلما باطنا‏,‏ وعرض هذه الأمور بأسلوب شعري جذاب‏,‏ فاتهموه بالزندقة‏.‏
ولاقت أفكاره معارضة الفقهاء الذين لايؤمنون إلا بالنقل‏,‏ فإن تجاوزوه فبالعقل‏,‏ أما الكشف وعلم الباطن والحب والفناء فشيء لم يسمعوا به فعارضوه‏.‏ وكان علي رأس المعارضين سيد فقهاء المالكية محمد بن عبدالحكم‏,‏ وابن أبي الليث قاضي مصر الحنفي الجبار‏..‏ فأرسلوا ذا النون الي دار الخلافة ببغداد فسجن في المطبق‏(‏ السجن‏).‏ ولكن مساعي صوفية بغداد جعلت المتوكل يستدعيه ويسمع منه فتأثر بمواعظه وأرسله الي مصر مكرما‏,‏ ليموت بعد ذلك بتسع سنوات سنة‏245‏ ه بالجيزة‏.‏ وبشكل عام فإن الصوفية في بعض نواحيها كما يقول أحمد أمين مدينة كلها في مصر لتعاليم ذي النون المصري‏,‏ فهو مبتدع المقامات والأحوال‏,‏ وله تعبيرات أخذت في تعبيرات الصوفية مثل‏:‏ كأس المحبة‏,‏ وهو أول من عرف التوحيد بالمعني الصوفي‏..‏ ومن أقواله ان المعرفة ثلاثة أقسام‏,‏ الأول خط مشترك بين عامة المسلمين‏,‏ الثاني معرفة خاصة بالفلاسفة والعلماء‏,‏ والثالث وهو العلم بصفات التوحيد خاص بالأولياء الذين يرون الله في قلوبهم‏..‏
ولما سئل كيف عرفت ربك‏,‏ قال‏:‏ عرفت ربي بربي‏,‏ ولولا ربي ماعرفت ربي‏.‏
علي الجملة فذو النون المصري شخصية كبيرة‏,‏ لم تزل غامضة حتي اليوم‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.