تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة, ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي إلي مفاهيم خاطئة, قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم. تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب. لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية, ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين, وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق, ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة! والتاريخ ذاكرة الأمة. وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية, ضعفت بفساد الحكام, وركونهم الي حياة الدعة والترف, حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب, الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح, فتمزقت البلاد إلي دويلات, وكشف الأعداء سرها, أي عرفوا الطريق الي احتلالها, ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة, من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين, ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز! ومع استمرار المذلة والقمع, فقد المصريون إحساسهم بالعزة القومية والاستقلالية. قاوموا بعض الأحيان بإيجابية, ومعظم الأحايين بسلبية, من منطق أنهم باقون في بلادهم, أما الطغاة فإلي زوال! هذا الكتاب بجزء يه خلاصة آلاف الصفحات, جميعها من المراجع الأمهات, وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دارسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي. وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة, ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض. وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء. وقارئ مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم,كأن يقول أحدهم مثلا: ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا, ويكون قصده أنه قتل الكثيرين منهم!.. ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية, وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر. وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية, وغرابة الأسماء, مثل: طرنطاي, يلبغا, أشلون خوند, أقجماس, صرغتمش, طشتمر, وهو عينات سهلة, اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية. كما يكابد قارئ هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات. فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة, ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه, ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها, بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي! ومن أمثلة المراجع الأساسية: كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما, وخطط المقريزي في جزءين كبيرين, والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة, وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات, إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة. ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة, حتي ان الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا, من هؤلاء الأساتذة الدكاترة: محمد مصطفي زيادة, محمد مصطفي, سعيد عبدالفتاح عاشور, سيدة اسماعيل كاشف, حسن حبشي, فهيم محمد شلتوت, ابراهيم علي طرخان, سعاد ماهر, جمال الدين الشيال, مصطفي السقا, حسن ابراهيم حسن, محمد كمال, السيد محمد, أحمد أمين, علي مبارك, فيليب حتي, عبداللطيف حمزة, حكيم أمين عبدالسيد, محمد قنديل البقلي, السيد محمد العزاوي وآخرون. إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل. والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك, وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم, وارتباطهم بالمنطقة المحيطة, ثم علاقتهم بأوروبا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين, وجعلت المسيحية للحياة الروحية, وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة, فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم. فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات. والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية. عادت مدينة العسكر مرة أخري مقرا للولاية, كما كانت في عهد ولاة العباسيين قبل طولون.. وسرعان ما نسي اسم العسكر ثم اسم الفسطاط, وأصبحت العاصمة تسمي: مصر أو مدينة مصر.. وحتي يومنا فإن أهل الأقاليم يطلقون علي القاهرة اسم مصر. مرت بمصر ثلاثون عاما وقعت فيها فريسة لوحشية عساكر العباسيين, كان القواد يفعلون ما يحلو لهم, وكان حكمهم في أهل مصر حسبما ذكر ابن تغري بردي: ضرب الأعناق, قطع الأيدي والأرجل جورا, تمزيق الظهور بالسياط, والصلب علي جذوع النخيل, ونحو ذلك من أصناف النكال! وكأن هذا الهول لم يكن كافيا, فوقع زلزال مروع أتي علي كثير من المنازل والقري, مع سقوط وابل من الشهب أرعبت الناس! إلي ان تولي محمد بن طغج فطمع ان تكون مصر له كما فعل طولون من قبله, وهو تركي مثله, ويزعم أن نسبه ينتهي الي ملك فرغانة. وقد اتصل بابن طولون وخدمه وخدم ابنه خمارويه بمصر, فانتفع بتجاربهما واقتدي بهما, وكان شديد التشبه بابن طولون. وكان أول وصوله الي مصر في صيف935 م حيث شهد سكان مصر موكبا من سفنه الحربية وهي تتقدم في النيل من دمياط قادمة من البحر المتوسط, وتحتل جزيرة الروضة التي كان يصلها بمدينة نصر العاصمة كوبري عائم مثبت فوق عدة مراكب, وفي أغسطس دخلت عساكره قلب العاصمة, وأخذوا كالعادة في السلب والنهب والاغتصاب مدة يومين, استباحوا فيهما المدينة حتي صدر الأمر بالعدول عن ذلك! ثم أخذ الحاكم الجديد ينشر النظام, ونشره, فاستعاد جامع عمرو بن العاص مكانته السابقة, وأخذ الأدب في الازدهار, وبدأت التاريخ يدون بصورة واضحة لظهور مؤرخين معاصرين علي درجة عالية من الهمة. في البداية عمل محمد بن طغج علي كسب مودة الخليفة العباسي الراضي بالله وأهدي اليه كثيرا وإلي رجال بلاطه, فمنحه لقب اخشيد, وهو حسب زعمه لقب ابائه في مملكتهم, فكل من تولي الحكم بمدينة فرغانة لقب بالإخشيدي, ومعناه ملك الملوك, وبالفارسية تعني الذكي اللبيب, فكان أول من تولي منهم بمصر, ثم أخذها باليد, أي بجهوده الشخصية, لأن تكليف الخليفة لأي شخص بالولايات لم يكن وقتها كافيا لتثبيت الوالي, فكان علي الوالي ان يفرض نفسه فرضا! عيد الغطاس وكانت دولة الفاطميين قد اشتد عودها بالمغرب العربي, وقوي أمرها, وصارت تترصد الفرصة لالتهام اعدائها العباسيين وامبراطوريتهم المحتضرة. فحاول ملك الملوك أو الإخشيد ان يوطد علاقته مع الخليفة الفاطمي, فأرسل اليه يعرض زواج ابنته من ولي عهده المنصور, ووافق الخليفة الفاطمي علي هذا الزواج السياسي, ورأي فيه فرصة للتغلغل في مصر, وأرسل صداقا مقداره مائة ألف دينار, فاستقله الاخشيد وفشل المشروع, ويبدو انه طمع في مهر يعادل مهر قطر الندي ابنة سيده السابق خمارويه! وتوترت العلاقة بينهما, وصدت عساكر الاخشيد أكثر من محاولة فاطمية لاحتلال مصر من الغرب في الاسكندرية وفي الصعيد. وفي أيامه زار المسعودي مصر سنة942 م. ووصف احتفال عيد الغطاس قائلا: ليلة الغطاس بمصر لها شأن عظيم عند أهلها, لاينام الناس فيها, ولقد حضرتها سنة330 ه والاخشيد قد أمر فأسرج( أضاء الأنوار) من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل, غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشموع, وقد حضر في تلك الليلة الاف من المسلمين والنصاري, منهم في الزوارق ومنهم في الدور النائية للنيل, ومنهم علي الشطوط, وهم يظهرون كل ما يمكن اظهاره من المآكل والمشارب والالات والذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف, وهي أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سرورا, ولا تغلق فيها الدروب) بوابات الحواري(, ويغطس أكثرهم في النيل, ويدعون انه أمان من المرض(1) وكان رجال الاخشيد يطلبون منه السماح لهم بالتنقيب في المعابد القديمة, علهم يعثرون علي كنز أو مطلب كما كانوا يسمونه, وكان معظمهم لايجد سوي العظام والأتربة, لأن الظاهر منها كان قد سبق نهبه! ولم يترك الاخشيد أي أثر فني في مصر وكان حذرا فقنع أن يمتد نفوذه حتي دمشق فقط بدلا من الفرات, وكان أزرق العينين عظيم البطن, منحسر الشعر في مقدم الرأس, شديد البطش, مصابا بمرض الصرع, وسطا بين الجبن والشجاعة, شرها في جمع المال ومصادرة أموال الأثرياء, مكروها من الرعية, حريصا علي التشبه بابن طولون في بلاطه وموكبه. وقد ذكر مؤرخ عصره ابن زولاق, أنه ترك بعد موته عدة ملايين من الدنانير الذهبية, وجواهر قيمتها مائة ألف دينار, وثمانمائة رطل عنبر وكان مغرما به, ومن العبيد ثلاثة آلاف ما بين روم ومولدين وسود, وأشياء كثيرة نفيسة.. أدباء ومؤرخون بعد موت الاخشيد سنة945 م حكم مصر كافور الحبشي المحب للهو, لمدة اثنتين وعشرين سنة, وفي عهده ازدهرت الآداب بوجه عام. كان حكمه في بادئ الأمر بوصفه وصيا علي ولدي سيده, اللذين عاشا في لهو ومجون دون أن يعرفا شيئا عن أمور العالم, أما السنتان أو الثلاث سنوات الأخيرة من حياته فقد تولي إمارة مصر بصفة رسمية.. يقول المقريزي أن الإخشيد لما مات بدمشق ضبط كافور الأمور, وجهز استاذه وحمله الي بيت المقدس ودفنه.. ثم سار الي مصر فدخلها... وسرعان ما جاء الخبر بأن سيف الدولة علي بن حمدان أخذ دمشق وسار الي الرملة, فخرج كافور إليه بالعسكر, وظفر في القتال وغنم, وعاد الي مصر وقد عظم أمره.. فخاطبه القواد بالأستاذ.. وعزل وولي وأعطي وحرم.. ولما قدم عسكر من عند المعز لدين الله الفاطمي من المغرب الي الواحات جهز جيشا وأخرجهم وقتل منهم. ومن وقتها صارت الطبول تدق علي بابه خمس مرات في اليوم, وعددها مائة طبلة من نحاس. وقد شيد مارستانا( مستشفي) مثل ابن طولون. ويتعجب لينبول: الواقع اننا قلما نجد بين الشخصيات التاريخية أغرب من هذا العبد الأسود, بما كان له من بطن ضخمة وأرجل معوجة وشفاه غليظة مشقوقة, تلك الصفات التي سخر منها المتنبي.. رغم أن كافور الإخشيدي كان قد نال قسطا لا بأس به من الثقافة والمعرفة, شأنه شأن أغلب العبيد الأذكياء, وقد أحاط نفسه كل مساء بالشعراء والنقاد ليستمع الي مناقشاتهم والي سير الخلفاء والأولين. وقد ضمت أمسياته شخصيات مثل الكندي المؤرخ الذي يدين له المقريزي بالكثير مما كتب, ومثل البحتري عالم النحو الشهير.. وكان كافور يغدق عليهم, ويحب الموسيقي شأنه شأن جميع السودان أما الكندي هذا فقد ولد بالفسطاط سنة283 ه(897 م) بعد وفاة ابن عبد الحكم أول مؤرخي الفترة الاسلامية بحوالي ربع قرن, وحضر عصر الإخشيدية, وكان أول مؤرخ مصري ينتفع بخطط ابن عبد الحكم, وهو صاحب كتاب الولاة وكتاب القضاة الذي يعد من المراجع الأصلية في تاريخ مصر الاسلامية منذ الفتح العربي الي وفاة الإخشيد, وابنه عمر الكندي هو صاحب كتاب فضائل مصر كتبه بأمر كافور الإخشيدي.. وعرف هذا العصر مؤرخين آخرين مثل ابن زولاق, وسعيد بن البطريق, ثم المسبحي الذي سوف يعلو شأنه في الدولة الفاطمية, وله كتب في الشعر والنقد والتاريخ, ورسائل في الخمر واللهو وألوان الطعام وعلم التنجيم والشياطين والأحلام والأمثال ونظم الحكم.. ومن أدباء عصر الإخشيدية سيبويه المصري وهذا لقبه لأنه كان يحفظ النحو والأشعار والنوادر. وكانت في أخلاقه غرابة واختلال عقل, فصنفوه تحت وصف عقلاء المجانين, ذلك أنه كان متنسكا, يخاطب الناس في الطرقات مهاجما عيوبهم واستكانتهم, وكانوا يتقبلون منه ذلك ويسجلون ما يقول. كان يري أن الموت أفضل للانسان الذي لا يتقدم ولا يتطور: من لم يكن يومه الذي هو فيه أفضل من أمسه, ودون غده فالموت خير له وأروح من حياة سوء تفت في عضده وفي زمنه كانت الحمامات عمومية, لأن البيوت كانت خالية منها لانعدام أساليب الصرف الصحي. وحدث أن أخلي العسكر الحمام لأحد الأمراء, وجاء سيبويه ليدخل فمنعوه لأن الأمير يستحم, فصاح علي الملأ داعيا علي الأمير لا اتقي الله مغسوله, ولا وفاه من العذاب مهوله. فاتهموه واتهموا أمثاله بالمروق والإلحاد, فاشتكي من ذلك: أما سبيل إطراح العلم فهو علي ذي اللب أعظم من ضرب علي الرأس فإن سلكت سبيل العلم تطلبه بالبحث, أبت بتكفير من الناس وقد نشطت هذه الحركة الثقافية في عهد كافور, الذي قال عنه الذهبي المؤرخ كافور الإخشيدي الحبشي الأستاذ السلطان أبو المسك, اشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا, وكان أسود بصاصا وكان يعي حقيقة أصله, فصار يتلقي الإهانة بالإحسان, وقد ذكروا أن واعظا قال يوما: أنظروا الي هوان الدنيا علي الله, أعطاها لضعيفين, ابن بويه في بغداد وهو أشل, وكافور عندنا وهو خصي! فنقل العسس ذلك اليه, وظنوا انه يعاقب الواعظ, فإذا به يرسل اليه خلعة ومائة دينار. فما كان المجلس التالي وحضر كافور, حتي وقف الواعظ قائلا: ومن العجائب ان ما نجب من بني حام غير ثلاثة: لقمان الحكيم, وبلال مؤذن الرسول, وكافور الخصي! وهكذا بالمال, وبعد ان اثبت جدارة في الحرب صار كافور عظيم الحرمة, له جوار مغنيات, وله من غلمان الروم ما يتجاوز الوصف. زاد ملكه علي ملك مولاه الاخشيد.. وكان يهادي المعز لدين الله صاحب المغرب, ويظهر ميله اليه, وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس, ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء, حتي تم له الامر وكان الفاطميون يرسلون دعاتهم الي مصر من سقوط الدولة الطولونية. وقد قدمت علي كافور دعاة المعز من بلاد المغرب يدعونه الي طاعته, فلاطفهم..وكان اكثر الاخشيدية والكافورية وسائر الاولياء والكتاب قد اخذت عليهم البيعة للمعز الليالي الملاح وكان مسرفا في كرمه, يطهي في مطبخه في كل يوم مائة خروف ومائة جمل ومائتان وخمسون اوزة وخمسمائة دجاجة والف حمامة, عدا الحلوي, وخمسون دعاء من النبيذ. وكان عصير التفاح شرابه المفضل, لذلك كان قاضي اسيوط يرسل له خمسين الف تفاحة في كل موسم.. وكانت الورود تنثر فوق المائدة وتزينها, ويصنع الخبز علي شكل فطائر,ويؤتي بالاكل فوق اعمدة يحملها الرجال علي اكتافهم. وكان يستطيع ان يأكل خروفا بأكمله, فإذا اصابته التخمة احيانا تناول الخمر في اسراف, وكانت الكأس وقتئذ تسع لترا كاملا من الخمر.. وفي عصره كانوا يهتمون بملابسهم وبتعطير فيهم, ويرشون ماء الورد علي اجسامهم, ويطلقون بخور العنبر في الحجرات. وكانت الموسيقي من مستلزمات اللهو والمرح. وعادة ما تكون الجارية المغنية ممشوقة القد, يشبه وجهها البدر في تمامه وتغني بصوت ساحر علي اوتار العود.. وكانت معظم الولائم يحضرها احد الظرفاء المشهورين بسرعة البديهة, والقدرة علي استخدام الجناس لتوليد النكتة, وسعة الاطلاع علي الادب والمعرفة.. وكان كافور الي جانب محبته للهو قويا كالحصان. مجدا في عمله, يقضي وقتا كبيرا كبيرا في رعاية شئون الدولة, ورغم افراطه في الكرم فإنه عندما مات ترك كثيرا من الذهب والمجوهرات والعبيد والحيوانات. وكان لنشاط موظفيه وجنده الفضل في عظمة مملكته الممتدة الي حدود سوريا الشمالية, والتي شملت الحجاز, حتي سادها الامن طوال مدة امارته, علي الرغم من الزلازل المروعة التي انتابت البلاد, والحريق الهائل الذي دمر اكثر من الف وسبعمائة منزل في مصر سنة954 م. أنجاس مناكيد: لكن العجيب ان سبب شيوع صيته كان الشاعر ابو الطيب المتنبي الذي وصف بانه اشعر العرب, وكان ملازما لسيف الدولة بحلب. وقيل ان كافورا اغراه علي المجيء الي مصر, وقيل انه جاء طامعا لما بلغه نبأ عطاياه وجوائزه.. وامتدحه بقصائد حسان منها: قواصيد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا وقيل لما دخل المتنبي كان في كبكبة عظيمة من حاشيته ومماليكه وغلمانه, وكان يلبس عمامة خضراء, ويشد في وسطه منطقه وسيفا, ويلبس في رجله اخفافا حمراء من جلد, وكان ينسب الي بخل عظيم مع ما كان بيده من سعة المال ومنحه كافور فتوالت مدائحه: اغالب فيك الشوق والشوق أغلب واعجب من ذا الهجر والوصل اعجب واعتبره من جملة اهله: اذا ترك الانسان اهلا وراءه ويمم كافورا فما يتغرب ثم أخطأ المتنبي لجشعه, وتوجه الي الفيوم ومدح صاحب اقطاعها, ووصفه بأنه كالشمس وما للشمس امثال. ولهذا السبب وغيره توترت العلاقة بينه وبين كافور. وظل بمصر بعد ذلك سنة لا يلقي فيها كافورا لكنه يركبه في خدمته خوفا منه!.. فلما اخذ في الرحيل بدأ هجوه الشهير: لا تشتر العبد الا والعصا معك ان العبيد لانجاس مناكيد من علم الاسود المخصي مكرمة اقومه البيض ام اهله الصيد ام اذنه في يد النخاس دامية ام قدره وهو بالفلسين مردود وزاله ان الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السود والقصيدة تشينها عنصرية بغيضة لان المتنبي يهجو لون كافور... ثم تمادي في هجوه: وتعجبني رجلاك في النعل انني رأيتك ذا نعل اذا كنت حافيا ويصفه بانه لا يصلح الا مضحكة للباكيات: ومثلك يؤتي به من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا ثم هجاه والمصريين جميعا: سادات كل الناس من نفوسهم وسادة المسلمين الاعبد القزم اغاية الدين ان تحفوا شواربكمو يا امة ضحكت من جهلها الامم وصور اوضاع الحكم في معان عديدة ثاقبة: اكلما اغتال عبد السوء سيده او خانه فله في مصر تمهيد صار الخصي امام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفني العناقيد ثم يقول ان اناسا ضلوا فعبدوا الاصنام,اما المصريون فقد فتنوا بزق رياح, اي بقربة منفوخة علي الفاضي مثل كافور! اما عن الحياة بمدينة مصر, فقد كانت الاسواق عامرة بانواع الخضار والفاكهة, والفخار الفاخر والزجاج الاخضر والاواني النحاسية.. وكان السقاءون يحملون الماء بالقرب المصنوعة من جلد الجاموس.. وكان حجم الدور كبيرا جدا, لدرجة ان الدار الواحدة الربع تسع ثلاثمائة وخمسين شخصا. وبعض الشوارع المسقومة تضاء بالمصابيح دائما لان ضوء الشمس لم يكن يصل اليها.. هكذا كان حال العاصمة سنة978 م تقريبا.. ولان امثل كافور لا يتركون من يصلح للحكم بعد موتهم, فقد اضطرب امر الديار المصرية, ووقع بها الغلاء, وفشا الطاعون وحطت المجاعة, وتناحر عسكر الاخشيدية وعسكر الكافورية, فخرجت الرسائل من شيعة مصر الي المعز لدين الله الفاطمي بالمغرب تحثه بالاسراع الي مصر قبل وصول العباسيين, فأرسل جوهر الصقلي, فملكها من غير قتال! بذلك دخلت مصر في منعطف سياسي ديني خطير, ولمئات السنين! وكان الشعب المصري في ذلك العصر سلبيا خانعا مهمشا, فاقدا لحسه الوطني او القومي, وقد اعتاد علي مجيء حكامه من خارج البلاد.. ولم يكن امام هؤلاء الحكام رأي عام يحسبون له اي حساب!! ذات يوم صاح سيبويه المصري في الناس حانقا: يا اهل مصر: حيطان المقابر انفع منكم, يستند اليها ويستظل بها من الشمس. والبهائم خير منكم, تمتطي وتؤكل لحومها, وتحتذي! اي تصنع من جلودها الاحذية!