بحضور وكيل مديرية الشباب.. "معزة" جائزة أحسن مشجع بدورة رياضية بالمنيا    "من 4 إلى 9 سنين".. تعرف على سن التقدم للمدارس اليابانية والشروط الواجب توافرها (تفاصيل)    جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني ببني سويف    إعلان الكشوف المبدئية لمرشحي مجلس الإدارة والجمعية العمومية بالمؤسسات الصحفية القومية    أحمد موسى: قطع الكهرباء هو محور حديث كل البيوت المصرية (فيديو)    هانى سرى الدين: نحتاج وضع خطة ترويجية لتحسين المنتج العقاري ليكون قابلًا للتصدير    "حقوق إنسان النواب" تطالب المجتمع الدولي بتنفيذ رؤية مصر لوقف حرب غزة    وزارة النقل العراقية توضح حقيقة فيديو الكلاب الشاردة في مطار بغداد الدولي    أنشيلوتى: لدى ثقة فى اللاعبين وسنكون الأبطال غدا أمام السيتى    أردوغان يحمل نتنياهو مسؤولية الهجوم الإيراني على إسرائيل    فانتازي يلا كورة.. صلاح متصدرًا.. وبالمر آخر المنضمين "للقائمة المميزة" في بريميرليج    لجنة متابعة إجراءات عوامل الأمن والسلامة لحمامات السباحة تزور نادي كفر الشيخ الرياضي    "منخفض خماسيني".. الأرصاد تكشف تفاصيل الموجة الحارة غدًا وموعد انتهائها    شاهد مرافعة النيابة أمام المحكمة فى قضية سائق أوبر المتهم بواقعة حبيبة الشماع    محافظ دمياط تناقش استعدادات مدينة رأس البر لاستقبال شم النسيم وموسم صيف 2024    بالصور.. أسرة شيرين سيف النصر تستقبل العزاء بحضور نجوم الفن والإعلام في الحامدية الشاذلية    «مكنتش حابب».. حمادة هلال يكشف مفاجأة عن دور نجله بالمداح    بالفيديو.. خالد الجندي: "الشركة المتحدة" جعلت الناس تستمتع بالدين في رمضان    خبير تغذية يحذر من هذه العادات: تزيد الوزن "فيديو"    للمرة الثالثة على التوالى.. نوران جوهر تتوج ببطولة بلاك بول الدولية للإسكواش    برلمانية: التصديق على قانون «رعاية المسنين» يؤكد اهتمام الرئيس بكل طوائف المجتمع    برلماني: خروج محافظة قنا من التأمين الصحي الشامل أمر غير مقبول    الفريق أسامة عسكر يلتقى قائد قوات الدفاع المالاوية    التخطيط: توجية استثمارات بقيمة 4,4 مليار جنيه لقطاع الإسكان بالقليوبية    إصابة فني تكييف إثر سقوطه من علو بالعجوزة    ضبط 7300 عبوة ألعاب نارية في الفيوم    بالشيكولاتة.. رئيس جامعة الأزهر يحفز العاملين بعد عودتهم من إجازة العيد.. صور    فوز العهد اللبناني على النهضة العماني بذهاب نهائي كأس الاتحاد الآسيوي    أحمد حسام ميدو يكشف عن أكثر شخصية جاذبة للستات    أفلام كان وإدفا في الإسكندرية للفيلم القصير.. القائمة الكاملة لمسابقات الدورة العاشرة    برلماني عن المثلية في المدارس الألمانية: "بعت للوزارة ومردتش عليا" (فيديو)    إسلام أسامة يحصد فضية بطولة العالم للسلاح للشباب (صور)    فانتازي يلا كورة.. دفاع إيفرتون يتسلح بجوديسون بارك في الجولة المزدوجة    شولتس يعلن اتفاقه مع شي على التنسيق بشأن مؤتمر السلام الخاص بأوكرانيا    بعد إصابة 50 شخصًا في أعينهم.. ضبط 8 آلاف قطعة ألعاب نارية قبل بيعها بسوهاج    أوبل تستبدل كروس لاند بفرونتيرا الجديدة    الخميس.. "بأم عيني 1948" عرض فلسطيني في ضيافة الهناجر    بعد انتهاء إجازة العيد.. مواعيد غلق المحلات والمطاعم والكافيهات 2024    بعد تحذيرات العاصفة الترابية..دعاء الرياح والعواصف    عالم بالأوقاف: يوضح معني قول الله" كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ"؟    الحرية المصري يشيد بدور التحالف الوطني للعمل الأهلي في دعم المواطنين بغزة    وزير التعليم: مد سن الخدمة للمُعلمين| خاص    سلوفاكيا تعارض انضمام أوكرانيا لحلف الناتو    هل يجوز العلاج في درجة تأمينية أعلى؟.. ضوابط علاج المؤمن عليه في التأمينات الاجتماعية    توقعات برج الدلو في النصف الثاني من أبريل 2024: فرص غير متوقعة للحب    توفير 319.1 ألف فرصة عمل.. مدبولي يتابع المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر    طلبها «سائق أوبر» المتهم في قضية حبيبة الشماع.. ما هي البشعة وما حكمها الشرعي؟    ناقد رياضي يوضح أسباب هزيمة النادي الأهلى أمام الزمالك في مباراة القمة    مؤتمر كين: ندرك مدى خطورة أرسنال.. وتعلمنا دروس لقاء الذهاب    مستشار المفتي من سنغافورة: القيادة السياسية واجهت التحديات بحكمة وعقلانية.. ونصدر 1.5 مليون فتوى سنويا ب 12 لغة    بعد التحذير الرسمي من المضادات الحيوية.. ما مخاطر «الجائحة الصامتة»؟    المؤبد لمتهم و10 سنوات لآخر بتهمة الإتجار بالمخدرات ومقاومة السلطات بسوهاج    بضربة شوية.. مقتل منجد في مشاجرة الجيران بسوهاج    رئيس جهاز العبور يتفقد مشروع التغذية الكهربائية لعددٍ من الموزعات بالشيخ زايد    ميكنة الصيدليات.. "الرعاية الصحية" تعلن خارطة طريق عملها لعام 2024    «لا تتركوا منازلكم».. تحذير ل5 فئات من الخروج خلال ساعات بسبب الطقس السيئ    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    بعد نحو عام من الصراع.. مؤتمر باريس يجمع 2 مليار يورو للسودان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق 2010:
العائلة الكبيرة.. أو المكان كوشم في الذاكرة!
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 01 - 2011

أشقاء وشقيقات المعالى بدون عبدالمحسن وخيرية كانت فكرة أخي كامل، الذي ترك العراق إلي السعودية خلال أحداث عام 1991، ومنها استطاع الهجرة، بعد فترة إلي الولايات المتحدة الأمريكية، أن نلتقي جميعاً، نحن الأشقاء والشقيقات، ونؤرخ هذا اللقاء بصورة جماعية لنا، نحن الذين تقريباً لا نملك إرثاً فوتوغرافياً، وأيضاً أن نحاول إنجاز تخليد مشاهد عائلية أخري عبر الصِوَر. فحينما كنا صغاراً كان بيتنا بمفرده في برية لا تعرف إلا زراعة الحنطة والشعير ورعي الأغنام والماعز والحمير وأحياناً البقر وبعضهم يملك الخيول والجمال، وكانت العائلة شبه طارئة علي الفلاحة، فهي نصف مستقرة وتتحكم في علاقاتها الموروثات السابقة، فلم نكن مزارعين حقاً وقد تركنا حياة التنقل والبداوة... وقد أُدخلت مجموعة قبلي إلي المدرسة وتلك كانت هي المجموعةُ الأولي التي تدخل إلي المدارس، وبعد عامين تقريباً حان دوري، وكان الأمر مقصوراً علي الذكور آنذاك.
بالطبع كانت أنظارنا موجهة إلي المدينة، وأحياناً وبحكم العادة إلي الطبيعة، حيث كان علينا الرعي، الفلاحة، حفر الآبار والبحث عن الطعام، نظراً لكون طعامنا لا يتعدي في أغلبه، الخبز والبصل، اللبن، التمر والرز، وبالطبع ليس دائما بكميات كافية، صيد الجراد والطيور والأسماك حسب الفصول والأحوال ومع التقدّم في الدراسة اكتشف أخي الأكبر كسّاب، قيمة الحديقة البيتية، زراعة الأشجار وتحويل تلك البرية إلي واحة جميلة ظليلة، من يعرف قيمة الظل؟ حيث كان السير في الظهيرة حافياً في الصيف عملية صعبة جداً، وكان فرحنا شديداً في الصغر ونحن نجد طيور القطا التي يدفعها العطش إلي البحث عن المياه وعن الظل خصوصاً، حين يصعب عليها مواصلة الطيران بعدما شربت كثيراً من الماء، وقد التجأت إلي الأظلّة القليلة المتوافرة فتسنح لنا فرصة صيدها. وشقيقي كسّاب، هو اليوم مهندس كهربائي يعمل في شركة مصفي نفط السماوة، منه تعلمت القراءة الأدبية في المراحل الأولي ومنه تعلمت الكتابة والخطابة في المراحل الأولي، ومعه، بل ربما بضغوط منه قمنا معاً بزراعة الأشجار: النخيل والرمان والأعناب، وفي الصيف حين يتوقف وصول المياه في الجداول، نحفر الآبار ونسقي حديقتنا الصغيرة... في ظلّ هذا الأخ وبرعايته خطوتُ وكان يمنحني ثقته وودّه حتي اليوم.
أما شقيقي الأكبر عبد المهدي، الذي لم يحالفه الحظ في دخول المدرسة، فإنه تعلّم القراءة والكتابة متأخراً في مدرسة مسائية، وكان كما أتذكره يرسم طيوراً بذات الوتيرة بقلم جاف ولا أتذكره إلا بالملابس الريفية وقد حاول الكثير من الأعمال الزراعية المختلفة، لكنه كان يخفق دائما، ولعل تجربته في شراء مضخة مياه قديمة من أجل نصبها علي بئر في الصحراء، لكي يكون مزارعاً مستقلاً، حاضرة في ذهني رغم مرور السنوات، ولم أتذكرها حينما كنت التقيه في السنوات القليلة الماضية، لكنها برزت وأنا أكتب هذه السطور الآن. فلا المضخة كانت تعمل ولا البئر الذي اختاره فيه ما يكفي من الماء، وكل نظريته كانت قائمة علي تفجير أعماق البئر بالديناميت لكي يصل إلي الينابيع الكبيرة، ولكنه كان يفشل في كل محاولة، فالماء يرتفع ويطفئ شعلة الديناميت قبل الإنفجار... وهذا كان تقريباً مسار نظرياته حول الفلاحة التي كان يحاول فرضها علينا، بحكم تقدمه في العمر، ومنها النظرية القائلة بأنه يمكنك أن تشتل عصا مقطوع من شجرة الإثل أو الصفاف، وستخضر خلال أشهر وخلال عام يمكننا أن نجلس في ظلها ونحتسي الشاي في أوقات الظهيرة وفي العصريات...

أخي عبد الهادي، كان مختلفاً... فقد كان صموتاً، هكذا أتذكّر سنوات شبابه، وهو يؤدي أغاني شعبية شائعة بصوت رخيم فيما يرخي غطاء رأسه علي كتفيه... غير أنه سرعان ما اختفي مهاجراً إلي دولة الكويت... وبعد أشهر من الحزن استلمنا منه رسائل تشير إلي مرضه، الذي لا نعرف له نحن الصغار سبباً... فيما بعد عرفت أسباب غنائه ورخامته وهجرته، حبُّه لفتاة اسمها: كواغد (جمع: كاغد)، وقد رفض أهله تزويجها له. أتذكر هذه الفتاة التي كانت فاتنة آنذاك، فقد كنت علي معرفة بوالدها الذي منحني مودّة خاصة وكان يسأل عني حتي وفاته قبل سنوات كثيرة. ربما كان عبد الهادي شقيقنا الأكثر سعادة وألماً بينناً، فبعد زواج سعيد وحياة جميلة، كما كنا نتصور، أمضاها كمتطوع في الجيش الكويتي... أعادته حرب 1990 إلي العراق من الكويت... وتركته يبدأ حياته من الصفر.. كان يدخن الغليون، وتقريباً نفس التبغ الذي كنتُ أدخنه. أحياناً يحمل لي بعض الهدايا الأثيرة، أو يترك لي، في سنوات السعادة المتخيلة من قبلي، صندله أو غليونه حينما يعود إلي الكويت بعد الإجازة.
عبد المحسن، هو الأخ الذي أثر فيّ كثيراً في بداياته، فهو أول أخ يدخل المدرسة، وكان يُقال _ والعهدة علي الراوي، مدللاً من قبل والدي _ وهو أيضاً أول شخص يرتدي قميصاً بنصف أكمام، الأمر الذي يعتبره الجميع أمراً معيباً، وكان والدي يعتبر هذا إشارة إلي الانحلال الخلقي، ولكنه خطا هذا الخطوة في التمرّد، وقاده اهتمامه السياسي إلي متاهات لم يخرج منها ربما حتي هذه اللحظة، وقد دَرُجتُ معه قليلاً... ولكن قراءاتي المبكرة قادتني إلي طريق آخر ولم نعد نتواصل مذذاك... التقينا لمرة واحدة فيما بعد عام 2004 ببغداد، رأيت كم كبر أطفاله، وكم غزت التجاعيد وجهه ووجه زوجته التي عرفتها شابةً. عبد المحسن لم يحضر في زيارتنا هذه من أجل أن نتصوّر ولم أعرف السبب، وقد تجنّب مراسلتي أو الرد علي رسائلي لأسباب مفهومة طيلة الوقت حتي عام 2003.
آسيا، أختنا الشقراء الجميلة التي كانت تحفظ الأناشيد المدرسية وتنشدها لنا، لم يبق منها في الذاكرة إلا اسم نشيد واحد منها: خروفي، وبمناسبة الخروف، كانت آسية تصنع أوانيٍ من الطين الطري وتحلب لنا الأغنام ونشرب الحليب في الحقول. عام 1967 وقبل موسم الحصاد هطل البرد بأحجام كبيرة، وكنتُ آنذاك أرعي الأغنام، فحاولت الاحتماء بشتلات القمح، حاولت الاحتماء بالأغنام التي أخذت تركض في كل اتجاه، حينها تصورت بأن يوم القيامة قد بدأ... وبعد آلام الضربات الأولي والخدر القليل، أخذ حجم حبات البرد يصغر قليلاً قليلاً... حتي اتخذنا طريق العودة إلي المنزل وقبل أن نصل كانت آسيا بملابسها السوداء وهي تحضنني.. مشهد تذكرته فيما بعد حينما شاهدتُ فيلم المخرج الإيطالي بازوليني: ماتيوس (أو متي، حسب الترجمة العربية)، حينما نري مشهدا تمثل فيه والدة بازوليني... كانت آسيا المحك الأول لوعيي كشاب يقرأ الكتب الحديثة ويهتم بنوال السعداوي آنذاك، فهنا تولد ما يسمي بوعيي النسوي... فآسيا أختي الجميلة، عاشت حياة قاسية جداً... بعد زواج قسري بسبب دية قتل وإجهاض وطلاق تزوجت من رجل يكبرها في العمر كثيراً وهذا توفي بعد فترة قليلة تاركاً لها لا شيء... لكن عليها تربية ثلاثة أطفال... كنتُ أسمي أكبرهم مصطفي حتي اليوم رغم أن إبراهيم هو اسمه الحقيقي. اليوم آسيا سعيدة بأولادها الثلاثة وقد كبروا وبأحفادها... أنا ما زلت أتألم حتي اليوم. لكني لم أسألها أبدا عن هذا الأمر، فقد كان غير ممكن آنذاك بسبب سطوة العائلة واليوم ربما بسبب التقادم أو القبول بالأمر الواقع.
شقيقتي خيرية التي تكبرني بعامين، وقد أمضيت معها طيلة فترة طفولتي والمراهقة، معها رعيت كل أنواع الماشية عندنا في القرية وعملنا في الحقل، وذكرياتي كلها مشدودة إليها في تلك الفترة، فقد كنتُ معها دائماً علي نقيض وتوافق مستمرين، فيوماً أنا خادمها ويوماً أنا عدوها اللدود، لهذا كانت تدعوني بالبعير... لهذه الأخت كانت الحياة القاسية والآلام بالمرصاد، فقد زوجوها إلي رجل مازال يسكن الخيمة ومتنقلاً... ولم يستقر به المقام حتي قبل أعوام قليلة... وزواجها كان يسمي عندنا بزواج الصداق: فقد تزوج أخي عبد الهادي أخت زوجها وغادر معها إلي الكويت، في حين تزوج شقيق زوجة أخي، أختي خيرية وغادر بها من البيت الطين إلي الخيمة. لكن من كان يفكر بالمصير الذي خبأه لها القدر، حيث هناك، في تلك البرية العارية سيكون مصير تلك المجموعة الكردية من الضحايا، واحدة من مقابر الأنفال، حيث دُفن أكثر من 1500 كردي وكردية في مقبرة جماعية، ومن هذه المقبرة يستطيع تيمور، الطفل الصغير والجريح أن يدرج وأن يسير حتي تنبحه كلابُ أختي الحارسة... تيمور سيكون في أيدٍ أمينة. خيرية، أم الأكراد دون أن تدري، كلما تأملت وجهها عدت إلي نفسي في الصغر... لم أفلح في التحدث إليها حقاً خلال هذه الزيارة، ربما لأني لم أتحدث تقريباً مع أحد من أشقائي أو شقيقاتي، حاولت التحدث إلي كامل، وأكثر إلي أخي عباس الذي لم ألتق به منذ 32 عاماً، هوس كامل بالطبيعة وبالماضي كان طاغياً... وهذا الهوس لم يكن مختصراً علي المراقبة الخارجية أو استنطاق كلّ من نلتقيه لكي نعرف منه أسماء بعض النباتات أو الأحداث أو العادات. لم يكن ثمة يوم يمضي دون أن نتابعَ أمراً في المدينة أو القرية، رغم أن بيتنا أصبح الآن جزءاً من المدينة.. وأضحت تلك المسافة التي كنا نقطعها بساعات مشياً علي الأقدام أو بوقت أقصر بواسطة الدراجة الهوائية وكأنها غير موجودة... الحقول البعيدة، أو تلك المساحات العارية التي كان يحولها السراب آنذاك إلي متاهة بحيث يبدو العائد من المدينة خلالها وكأنه شبحٌ يطيرُ أو ذئب يطارد فريسته... وفي الليل تتحول شجيرات الطرفاء إلي ذئاب يمكن أن تنهشك في كل لحظة... فلهذا تسير بحذر شديد وجسدك يرتعد خوفاً من تخيلاتك لهذه الشجيرات الصغيرة ذئاباً...

المشهد مؤلمٌ هنا، أخي عباس الذي تركته صغيراً، ها هو أشيّب الشعر وبعكاز... كان بيننا موعد سابق في مدينة أبو ظبي ولكن لأسباب التوقيت لم نستطع أن نلتقي، فقد كان في طريقه إلي ميناء أم قصر بالبصرة عن طريق دبي، في حين كنت في معرض أبو ظبي للكتاب... كنتُ أشعر وأنا أراه وكأنه يحمل ألمي الداخلي في جسده الخارجي. لقد ترك مع أخيه كامل الملجأ في مدينة رفحاء السعودية إلي الولايات المتحدة ومذذاك وهو يقيم ويعمل هناك.
نحن من أب مزواج، وقد كان حظه أربع نساء، الأولي توفيت قبل أن تخلّف، وكانت كما ذُكر لنا حبه الأول، وشخصياً لم أرها، ويبدو أنها توفيت مبكراً. وأخي عباس مثل أخي قاسم من الأم الأخيرة، حسب التعبير السائد في بيتنا آنذاك، وهي الزوجة الأخيرة لأبي، وكان قاسم يصغرني عاماً أو أكثر كما أعتقد، لأنه سمي كما قيل لنا تبركاً بزعيم انقلاب 14 تموز 1958 الجنرال عبد الكريم قاسم، مع قاسم تقاسمت تقريباً السراء والضراء في الدرس والعمل، ولكن بما أنه كان يصغرني بعام أو أكثر فقد كنتُ أنا المسئول عنه، وبالطبع كان هذا يجعلني عرضة للعقاب المستمر من قبل والدي والعتاب من قبل والدته. لكن قاسم الذي جاء شبيها بأخواله، الذين كانوا مشعري الأجساد، نما شاربه قبل نمو شاربي، الأمر الذي جعله يستشعر علامات الرجولة الظاهرية قبلي، ودفعته والدته إلي ذلك فأخذ يتجرأ علي حمل السلاح أحياناً، حتي حمل البندقية وأردي كلبة قتيلة تأكيداً علي رجولته القتالية، كنتُ أتأمل الكلبة القتيلة وهي تحتضر وأنا أتألم بشدة... أعتقد بأنه ندم بداخله علي فعلته تلك، لا أدري ماذا فعل فيما بعد، لكنه كان في الجيش حينما كانت أحداث 1991 التي شارك فيها وهرب بعد فشلها إلي السعودية، وحينما عاد إلي المدينة بعد فترة مكث فترة في السجن وطُرد بالطبع من عمله.. وبعد عام 2003 عاد إلي السياسة وأحرز بعض النجاح.. كنت أستطيب الحديث معه حول التحول الاجتماعي والسياسي والديموغرافي في قرانا وفي المدينة: السماوة، حيث إنها قد "تأريفت" ليس من الخارج، بل أيضاً بسبب امتناع أهل المدينة عن المشاركة في ممارسة السياسة وهو أمر وجدناه قد ترك آثاراً سلبية علي انجازات المجلس البلدي فيها. فأهالي المدينة لم يستوعبوا لحد الآن، مثلهم مثل أغلب الكتل السياسية والأحزاب العراقية التغييرات الجديدة... وأعتقد بأن عليهم أن يستوعبوا هذا الأمر لكي يمكنهم المساهمة، ومساهمتهم أساسية، في الحياة السياسية اليوم.
الشقيقتان الأصغر سناً: نجية وصفية، لم يدخلا إلي المدرسة كالعادة السائدة آنذاك، كانتا توأم العائلة، وكان علي دائماً أن أهزّ مهدهما لكي يكفا عن البكاء...، هاشمية ووضحة، من الأم الأخيرة، فقد كانتا بنفس العمر وأصغر قليلاً... لقد كبرن في غيابي ولا أعرف تقريباً شيئاً عن زيجاتهن... الآن أحتاج إلي وقت لكي أتذكر شيئاً أو أن أربط شيئاً، أسماً أو شخصاً بهذه التفاصيل. هذا ينطبق علي أشقائي: أحمد، علي وحسين، فكنت أخلط كثيراً بالمعلومات حولهما، صورهم صغاراً محفوظة في ذاكرتي، لكنهم اليوم أكثر حضوراً في حياتي: أحمد مهندس معماري، حسين يدرّس الرياضيات في الجامعة، وقد كنت دائما ما أخلط بينه وبين أخي هاشم، الذي يليني تقريباً في العمر... ومنحته الحب الذي كنت أكنه لأخي هاشم آنذاك وأيضاً المسئولية، وغالباً حينما أذكر اسمه، فإني أذكر اسم هاشم، والآن صرت أخلط بين الاسمين. لكن الأكثر من الجميع هو علي، فقد كانت أصغرهم تقريباً، ناعماً، احتجت إلي وقت لكي أعتاد علي أن هذا الشخص الدمث أمامي، الأسمر الوجه، هو ذاك الشقيق الصغير علي...
شقيقي هاشم، هو الذكر الأشقر الوحيد في العائلة... علاقته بالدراسة لم تكن جيدة، وأحياناً يصيبه نوعٌ من التمرد أو بتأثير الدلال يخرج عن طوره، فقد كان لوالدي عادات كثيرة، منها تدليل هذا أو ذاك حسب الوقت والمزاج، وأخي هاشم هذا كان أحد الذين حط علي رؤوسهم طير سعد الدلال... وهكذا كان سفره عن طريق التهريب كما أعتقد إلي دولة الكويت حيث دخل إلي سلك الجيش في الكويت وهناك تدرج، كما أخبرني في الفريق الجوي الرياضي للجيش الكويتي... حينما التقيه اليوم لا يمكنني تخيل هكذا سيرة له. فقد تلقي من الضرب مني، بحكم العمر والعادة، الكثير، ومدّ يد المساعدة لي في بداياتي بألمانيا بالكتب وبالمال... وبعد احتلال الكويت عاد صفر اليدين إلي القرية... وبعيد حرب 2003 فقد ابنه الكبير غرقاً في نهر الفرات لأسباب غير مفهومة... كنتُ أحضنه حينما عدت لأول مرة إلي العراق عام 2003 وأبكي... وهو كان يحاول أن يتجاوز الألم، والأكيد أن يتجاوز الآلام التي عاناها. حينما شاهدَ ولداي سعدي ورامي صُوَر زيارتي إلي العراق، اقترحا عليّ، متخيّلين زيارتهما للعراق، بأن يقيما في بيت أخي هاشم، ويجلسا تحت شجرة السدر الورافة في حديقته.
لم أعد أتذّكر الناس كالسابق، وذاكرتي بدأت في الاضمحلال رويدا رويداً. تراجع شغف التذكّر، بعدما اختفي الحاجز المباشر من الالتقاء بمن نريد من الناس وفي أي مكان. أيضاً ثمة أجيال جديدة لم يعد بإمكاني حفظها الآن وبالتالي تذكّر أسمائها حتي لو التقيتها عدة مرات، فأنا زائر عابر، وقد اختلطت عليّ الأمور وبت حائراً في تحديد وجوه الآباء والأبناء والأحفاد.

هنا، في هذه المدينة، تقل شهيتي للطعام، أنا الذي أصلا شهيته ضعيفة، أحتسي الكثير من الماء بسبب الحرارة المرتفعة، حاولت استعادة الأشياء القديمة ومشاهدتها، لكن بحزن، الأشياء تذوي، ونحتاج إلي جهود لكي نستطيع وصفها، وسط الإهمال واللامبالاة، فنحن الذين يهاجرون يشعرون بقيمة الأشياء التي تندثر، مع شقيقي كامل والذي يشتغل علي كتابٍ عن "الضب"، وقد قَدِمَ إلي هنا قبلي بأيامٍ، فقادني إلي البرية لكي يريني كيف تبني أو كيف تحفر هذه الزواحف جحورها، وخصوصاً باب السلامة والذي يقع بعيدا عن باب الدخول، كما أراني قبيل غروب الشمس أعداداً كبيرة من الخفاش تطير في اتجاه معين، حيث اكتشف بعد البحث والتقصي انها تتجه إلي هناك لوجود الحشرات التي تشكل غذاءا لها، كان أخي كامل يراقب الطبيعة ويستمع إلي الناس لكي يجرهم إلي أحاديث عن الماضي.
البارحة انتبهت أمي إلي الحزن الشديد الذي أعاني منه، لم أجد إجابة، فمع مرور الأعوام، يتحوّل الألم إلي جلد إضافي.

مرّ عليه حين من الدهر وهو يستجمع ذاكرته، يحاول ذلك، يريد أن يكتب كتاب حياته، متي كان قد قَدِم إلي الدنيا، وها هو قد عاد بعد حين، ليلتقي أشقاءه، الذين مثله جاءوا هنا إلي الدنيا، غير أن حادثات الحياة فرقتهم وسار كلٌّ منهم في طريق لم يخترها، بل وجد نفسه وهو يسيرُ عليها، أو قد دُفع دفعاً لكي يسير وهو يلتفت إلي بيته الذي عاش فيه بحزن، دمعه يسيلُ وهو يسير بصمت كاظماً الألم الذي في جوانحه، مفكّراً بأسي بالحياة التي أمامه.
واليوم وحين عاد وجد نفسه وكأنه فقد الرغبة في الكتابة، فقد الرغبة في قول شيء كان يريد أن يقوله، أو طالما فكر به حينما كان يهم بالسفر إلي هذا المكان. ورغم أنه استجمع كل أفكاره، معتقداً بأنه سيجلس حينما يذهبون إلي النوم لكي يكتب ويكتب كلّ يوم بيومه، وهكذا يكون، حينما يحين وقت المغادرة، قد سجل أغلب الأفكار والمشاهد والصور التي كان يودّ كتابتها فعلاً، غير أنه حينما وصل وبعد السلام والكلام والماء والشاي والطعام والشاي ثانية وثالثة والخ... لم يستطع البقاء لوحده لكي يدوّن ما دار في خلده، وحينما أفلح أخيراً في التمدد في فراشه المؤقت، وقد هدّه التعب، لم يجد في نفسه القدرة علي الكتابة ولا علي القراءة، فقرر تأجيل الأمر إلي الصباح، فهو عادة يستيقظ مبكراً وسيكتب بيسر في الصباح، حيث يكون ذهنه صافياً وسوف تنزلقُ الجمُلُ بيسر علي الورقة. حلم بنفسه، وهو يسافرُ إلي مدن لا يعرف أين رآها ومتي زارها، غير أنه يعرفها، ويعرف بعض الناس فيها.
احتسي القهوة وسار إلي المدينة التي لم يعد يتذكر منها شيئاً كثيراً، حتي المدرسة التي أمضي عامه الأول فيها، كم بدت له بعيدةً في الصورة، وأشجار الخروع والسدر غابت عن حديقتها التي أصبحت جرداء. المكتبة القريبة منها والتي اقتني منها أولي كتبه، فارغة تقريباً، إلا من بضعة كتب يعود تاريخها إلي ذلك الماضي، وصاحبها، الذي ابيضّ شعرُ رأسه، ما زال يجلس قريباً منها ولا يفتحها إلا لساعة في النهار، ولا يعرف سببَ ذلك. ولم يجد في نفسه الرغبة بالسؤال ولا حتي في السلام.
كان يريد أن يجد نفسه من جديد. لكن لا شيء في الصورة يتلاءم مع ما في مخيلته التي تغيّرت حتما، مثلما تغيّرت المدينة. في القرية، لا يمكن له أن يجلس إلي الورقة، وربما لم يعد يحلم بذلك. لقد أقلع عن التفكير بذلك، كان يخزّن أفكاره، وهذا التخزّين يؤلمه، يشعر بنفسه فارغاً، يشعر بألم الدقائق وهي تمرّ... يمضّي ليله وهو يتقلب علي جنبيه، عسي يصلُ النومُ إلي عينيه. كم أخذ يَشعرُ بثقل النهار، كم أخذَ يشعرُ بثقل الليل. الحشرات الصغيرة، بعض الدود يشعر به وهو يمسّ وجهه أو يسيرُ في فراشه. أنه يعجز حتي عن التفكير، عن الحلم، عن الإصغاء إلي خياله. لكن الأيام تمرّ وهو يضيّع وقته وأضحي مثل صياد عجوز فقد القدرة علي العمل. هذا الإحساس كان يؤلمه، بل يشكل عائقاً كبيراً. لم يعد يستطيع التحرّك بيسر، أخذ يسخر من كل شيء حوله.. لقد أضحي بهلواناً ومهرجاً... لنفسه بنفسه.
سار في القرية، سار في بساتينها التي هرمت أشجارها وكثرت أشواكها وحفرت الجرذان جحورها في كلِّ مكان فيها، تأمل طيرها في ساعات اليوم المختلفة... لاحظ كيف تغيّرت خريطة الشجيرات والأعشاب بين مدّ وجزر، فمثلما "تأريفت" المدينة، فقد تكاثرت أعشاب الصحراء في حقول القرية وبساتينها، وبدا له وكأن العالم قد انقلب خلال الأعوام التي لم يكن هو فيها هنا. سارَ لأيامٍ، وتمني لو أنه يستطيع من جديد أن يعود بقطيعه إلي هنا، أن يعود إلي أحلامه وهو يسرحُ بعيداً بخياله، لعله يحظي بتلك الموهبة الشعرية ويفك أسرارَ البيت الشعري وتأتيه القوافي بيسر... آنذاك كان يكتبُ ويكتبُ ولكن القوافي لا تأتي بيسر... فتتيه عليه الأمور ويظن أن أغنامه ضاعت وأن الذئب الذي يتربص به، والذي يخافه، قد نال منها واحدة، فتأتيه الصحوة وتتيه الخيالات وتبتعد الصور والذكريات.
في المدينة التي قريتُه جزء منها الآن، أحب أن يتيّه نفسه في أسواقها الصغيرة المتضائلة، أن يدع أقدامُه تخطو في شوارعها المتربة المتهدمة.. وأن يعبر جسورها القليلة ويتخيّلها من جديد... في بعض زواياها يصادف وجوهاً يتعرّف إليها وأخري تتعرّف إليه... أحياناً يفرحُ وأخري لا يشعر بشيء، بل يستطير منها، لسبب لم يعد يتبيّن أساسه. في هذه المرة، والتي شعر بأن ذاكرته قد بدأت تخونه، لم يعد مهتماً بمعرفة المصائر، مصائر الآخرين، أولئك الذي عرفهم لوقتٍ، بل عاش معهم لسنوات ودخل في مناقشات وتبادل الآراء وشرب الشاي وسار معهم في نزهات تصورّها خيالية، ها هو يراهم من بعيد، وقد فقد الرغبة تماماً في ملاقاتهم، فهم بقيوا حيث كانوا، و"تأريفت" أشكالهم الخارجية وخلقت ملابسهم ورثّت وجوههم، هم أبناء المدينة، هو يعرف أنه لا يوجد شيء يمكن التحدّث عنه معهم، لقد حاول ذلك في سنوات سابقة، حين عاد بعد فراقه الإجباري الطويل، وشعر حينها بسذاجته، فلا شيء هنا يمكن أن يتغيّر، سوي أن الجهل سيكون مهيمناً جبارا.
كان يتساءل بينه وبين نفسه، وهو يسير في شوارع المدينة من جديد، لماذا تعنيه هذه الرقعة المتربة؟ المدينة الشوهاء وقد تشبثت بها ذاكرته، لاحقته في كل مكان وبقيت ملتصقة بجلده، بتفكيره، بأقصي خيالاته التي كانت تأتيه في مختلف بقاع الأرض. شوارعها تعطي ذات الرائحة الكريهة، وتنز من وجوه المارة ذات النظرة المتجنية وترمي أفواههم ذات السموم. أبواب بيوت ثقافاتها المزعومة بقيت مغلقة طيلة أيام وجوده، وكأنه لم يكن من هنا. بل تم مسح اسمه من بينهم، وهو ارتاح لهذا، فقد اعتاد ان يسير وحيداً، فلم يتخلّق بأخلاق القطيع... كان يؤمن بالإنسان الفرد.
لكنه يقسو ربما هنا، فمكانه هنا، وهو عاش طويلاً هنا، والكتب التي قرأها، علي الأقل الكتب الأولي التي فتحت له الطريق، وجدها في مكتبات هنا، أو أرشده إليها الأصدقاء، صحيح أنهم اختفوا، تشردوا أو ماتوا لأسباب عديدة، لكنهم من هذه المدينة مثله، التي يسير الآن وهو يتألم متذكراً الماضي، في شوارعها المتربة.
لقد عاشَ لأيامٍ وكأنه شخصٌ من الماضي، كأن الذي يحدث له هنا مجرد تخيّلات وأضغاث أحلام وأشياء أخري من هذا القبيل. لا طعم للذكري، لم تعد بيوت الطين موجودة، ولا تلك المساحات الشاسعة حيث يهيّمن السراب في الصيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.