كان جالسا في زنزانته، يتناقش مع أحد أصدقائه حول السجن. اتفقا أن أمامهما عامين آخرين في تلك الزنزانة، وربما أكثر عليهما أن يرتبا الحياة علي هذا الأمر. فجأة دخل عليه الشرطي، نادي اسمه قائلا : " إفراج وزاري".. لم يصدق مسعد أبو فجر ما يحدث.. ولن يصدق إلا بعد أن يصل إلي بيته أو علي الأقل عندما " يمسك الطريق" وهو التعبير يستخدمه المعتقلون دليلا علي الخروج من المعتقل. ففي أي لحظة يمكن أن يصدر قرار بالإفراج ولكن لا يتم تنفيذه.. ثلاثون شهرا وسبعة عشر يوما ..قضاها الروائي مسعد أبوفجر متنقلا بين معتقلات "المحروسة" حتي استقر به الحال في الزنزانة رقم 7 في سجن أبو زعبل. لم تكن هناك تهمة محددة ولكن كان لديه 22 حكما بالإفراج، وبنت صغيرة لم تكن قد أكملت وقتها عامها الرابع، ومشروعات روائية كثيرة كان قد أنهي بعضها بالفعل، وتم اعتقالها يوم اعتقاله ولم يتم الإفراج عنها حتي الآن! صغيرته رناد التصقت به، ونحن في المقهي ، لا تريد أن تفارقه، طلبت أن يحملها علي كتفيه. يسمونها في البدو " لعبة الجمل" ..حملها بالفعل وسار قليلا ..ولكنه انتبه:" الجمل يحتاج إلي صحراء ليتحرك بحريته". رناد لم تكن تتأخر في كل زيارات مسعد في المعتقل...كل مرة كانت تسأله : " متي ستأتي؟" وكان يجيبها : "قريبا"..وفي مرة أخيرة سألته :" لماذا لا تريد أن تأتي؟" أربكه السؤال، كاد يبكي، ولكنه تماسك أمامها: "الأطفال يتصورون آباءهم سوبرمانات قادرون علي فعل كل شئ..هذا ما أربكني" . أسأله: متي بكيت داخل السجن؟ قال : " إطلاقا.. البدوي لا يبكي عندما يحزت أو يضعف.. يبكي فقط في الفرح". لا يعرف صاحب " طلعة البدن" الرواية الوحيدة التي صدرت ( دار ميريت) عام 2007 سببا لاعتقاله: "لم أكن أعرف أنني خطير لهذه الدرجة.. هناك ألف أداة كان بإمكانهم استخدامها للسيطرة عليّ ولكنهم اختاروا أكثر الوسائل بؤسا" ..يتوقف قليلا: "ربما أزعجهم أنني حوّلت خطاب البدو إلي خطاب مشتبك مع الزمن الحضاري". بالفعل هذا ما قام به أبوفجر..هو بدوي ولكنه لا يرعي الغنم ، بل درس في كلية الآداب في قسم الوثائق والمكتبات ،ويكتب الرواية.. ويدوّن علي الإنترنت . لهذا اعتبروه خطرا علي الأمن ..هذا الإحساس هو ذاته الذي دفعه ليكتب الرواية. أساله: أنت بدوي والرواية يعتبرها النقاد ابنة للمدينة؟ يجيب: هذا كلام قديم، الرواية متسعة لكل الأشكال والبيئات، مشروع إبراهيم الكوني الروائي يقوم علي الصحراء ، وهي صحراء في المطلق، تختلف عن صحراء سيناء . سيناء مشتبكة مع العالم مشتبكة مع حدث في غاية السخونة، هو مشكلة الشرق الوسط كلها، البدوي الذي عاش أيامه في هدوء استيقظ ليجد نفسه محاطا بالدبابات، وجد نفسه بجوار أكبر مفاعل نووي في العالم، أزعجته رائحة العسكر..وكان عليه أن يفكر في الصراع بعقلية المدينة لا بعقليته هو. لذا: "كتبت رواية حتي أستطيع أن أقول ما أحس به بهذا الشكل". هو يعمل في إحدي الشركات بالإسماعيلية، يسكن في شقة تتبع الشركة، بإمكان السكان أن يستقبلوا زوارهم إلا هو " لأنه بدوي" كما قال له رجل الأمن عندما رفضوا أن يزوره أخوه، فوجئ بأنه مراقب 24 ساعة يوميا ، كاد يجن: " أنا مصري ومن حقي أن أستقبل زواري وقتما أشاء" هكذا وجد نفسه محاصرا بالريبة والتوجس ... كانت وسيلته لتفريغ هذه الضغوط " الكتابة" يقول :" لم تكن لديّ أحلام كبيرة في أن أكون كاتبا عظيما، فقط كنت أريد أقول نفسي: أخفف الضغوط عليَ". يتذكر أبوفجر مقولة للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان عندما سألوه لماذا تكتب فأجاب :" كنت أقول للناس في باريس السلام عليكم.. ولم يكن يرد أحد عليّ ، فقررت أن أقولها لهم بالكتابة". " الكتابة صدفة"، حدث أن كتب قصة وأرسلها إلي مسابقة أخبار الأدب القصصية، لم تفز قصته، نسي الأمر، ولكن بعد ستة شهور وجدها منشورة ، اندهش فلم يتوقع أن تنشر الجريدة القصص التي لم تفز. قال: النشر يعني أنني كاتب. مثلي مثل محمود عباس العقاد" . يضحك: العقاد كان بالنسبة لي في ذلك الوقت هو النموذج الأمثل للكتابة، كانت النقلة عندما اكتشف كتابات عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني ، يكتبان أشياء مثل التي يكتبها ,لكن بداوة الكوني تختلف عن بداوته ، بداوة الكوني هي البداوة المطلقة أما سيناء فليست صحراء مطلقة، أينما تسير ستجد نخيلا وبشرا. لم أجد أبدا بدويا يموت من العطش مثل بدو الكوني. صحراء سيناء بعيدة عن الخطية، ليست مجتمعا ثابتا ، لا توجد مواعيد محددة للزراعة، قد يوجد الربيع ولا يوجد ، الواقع مليء بالمفاجآت التي لا يمكن حسابها بالعقل . الواقع لا يمكن الهيمنة عليه، لا يمكن حسابه، واقع مفتوح والنتيجة أيضا مفتوحة ... في هذا الجو نشأ مسعد في عشيرة تتجه بعد صلاة العصر إلي " الديوان"، يجتمعون، ويبدأ الحكي، كل يحكي ما جري له، تتشابك الحكايات وتتجمع، كل شخص يحكي حكايته وهو يستمع.. كل حكاية لها الأهمية ذاتها. لغة الكتابة لديه أيضا استمدها من الصحراء . " حياة البدوي حياة تقشف واقتصاد" في كل شيء..لذا كان سؤاله الدائم كيف تكتب بأقل عدد من الكلمات لتصل إلي المعني مباشرة ، بدون زيادات، فالزيادات بنت الوفرة من وجهة نظره..يوضح:" لكي تكسر عودا من شجرة يجب أن تكسر الجاف فقط من العود، لو كسرت أزيد قليلا مما تريد ستموت الشجرة". ولكن لم تكن الرواية كافية ، في أحد اجتماعات البدو لمناقشة قضاياهم سأل أحدهم في نهاية المناقشة: والآن ماذا نريد؟ أجاب طفل صغير: " ودنا نعيش" .. فصاحوا جميعا خلف الصغير :" ودنا نعيش". كان سؤال مسعد كيف يستطيع أن يحول هذا الشعار إلي واقع عملي، إلي " تكنولوجيا". أحد أصدقائه نصحه بإنشاء " مدونة".. مهمتها أن تلقي الضوء علي الظلم الذي يتعرض له البدو ، وتعرض مطالبهم ، وهي مطالب ليست كبيرة، فقط مجرد حياة كريمة بعد سنوات من الإهمال والتجاهل للبدو الذين تم التعامل معهم كمشاريع أعداء.يوضح :" تعرضنا لظلم لا يحتمله بشر، في مقابل أقسام الشرطة التي تمتلئ بها سيناء لا يوجد مركز تعليمي واحد متميز". صرخة طلب الحياة لم تعجب النظام ..ارتبكت السلطة أمام مغامرة الروائي الشاب وهي التي اعتادت " الصمت" كان قرار الاعتقال الذي يصف مسعد بأنه " كان محاولة لقتل النموذج..نحن لا نريد نموذجا مثل هذا ، أراد توصيل رسالة لكل البدو عليكم بالصمت". الغريب أيضا أن الرسالة اتسعت لكي تشمل شقيقه الذي لم تكن له علاقة بالأمر " كأنهم يريدون أن يقولوا لم يدمر نفسه فقط وإنما دمر أيضا عائلته". يعود مسعد بذاكرته إلي ذلك اليوم: " جاءوا في التاسعة، حملوا معهم الكومبيوتر، وكل أوراقي وصوري ..كانت مفاجأة لي، كنت أتصور أنها فترة مؤقتة لم تتجاوز الأربعين يوما علي أقصي تقدير ، ولكن اكتشفت أنها سنوات". عندما أدرك أنها " الرحلة " أكثر مما توقع قرر أن يبحث عن الجانب " الإيجابي" من التجربة". يقول: " في يومي الأول قلت لهم لو استطت أن أقرأ في السجن عشرة آلاف صفحة فقد انتصرت علي سجاني" ...لكن هل قرأ بالفعل؟ في البداية مع التنقل من بين المعتقلات ، والزنازين وحجرات أسفل الأرض كان الأمر صعبا، ولكن تحت ضغوط المثقفين ومنظمات المجتمع المدني سمحوا له بدخول الكتب.. كان محمود درويش شريكه الدائم في الزنزانة، أشعاره ونثره كانا يتماسان معه كثيرا وكأنه " نثر زنزانة" ، وكانت رواية " ذكريات منزل الموتي" لدستويفسكي أقرب الأعمال له " قرأتها أكثر من مرة ..ولكن ما أدهشني أن زنازين مصر في القرن الحادي والعشرين أسوأ وأكثر بؤسا من زنازين سيبريا منذ 150 عاما التي وصفها دستويفسكي في روايته"...يضحك: " والله نحن نستحق زنازين أفضل بكثير من تلك". لم يكتب مسعد في الزنزانة: " في كل مرة كانوا يفتشون الزنزانة أثناء خروجي ويأخذون ما أكتب ويقومون بتصويره ..هذا آلمني جدا، لأن الكاتب لا يحب أن يطلع أحد علي كتابته قبل أن تنضح"... ولكن هل كسر المعتقل مسعد؟ يضحك :"السجن ليس مخيفا، هو فاصلة بين جملتين ، فاصلة في سياق النص". كان هم مسعد في هذا النص- السجن " كيف يكون النص إنسانيا؟ صراعي لم يكن معهم، كان مع نفسي بالأساس، لم أكن أريد أن أفقد إنسانيتي، السجن ساعدني أن أجلو إنسانيتي". ولكن يبدو مسعد بعد سنوات السجن أكثر توترا وعصبية عما كانه قبل السجن؟! " يجيب :"بالعكس، صرت أكثر رحابة وإنسانية". لا يريد مسعد أن يتوقف كثيرا أمام التجربة.. بحساب الخسائر والمكاسب " لم يخسر كثيرا.." لأن كل فعل يتم احتسابه ضده، فترة السجن فيها بؤس، ولكن تحمل فكرة الحرية ". هذا ما كان يقوله للسجناء زملائه " هناك تفاصيل لو فكرت فيها داخل الزنزانة ستحولها إلي شيء بنّاء". ولكن جرحه الأكبر الذي لم يندمل " سرقة خمسة كراسات كنت أسجل فيها يوميات، تأملاتي، هذا أكبر أذي تعرضت له في الزنزانة".. الإصرار علي بقائك في المعتقل رغم ضغوط المثقفين ومنظمات المجتمع المدني..ورغم صدور أحكام قضائية بالغفران عنك.. جعل البعض يتصور أن وراء الاعتقال أسبابا أخري ..وتردد أنك دعوت إلي التدخل الإمريكي لإنقاذ البدو كما حدث في العراق..وهذا خط أحمر للسيادة المصرية؟ يجيب بهدوء: "أنا لم أدع لتدخل أمريكي أو إسرائيلي، هذه دعايات أمنية أدعوهم لإثباتها، خاصة أن كتاباتي متاحة ومعروفة، ومكالمتي الهاتفية مسجلة لديهم، كل حياتي وثرثراتي مراقبة لديهم، وأتحداهم لو أنني ذكرت ذلك سرا أو علانية، أمريكا ليست مؤسسة خيرية حتي أدعوها للتدخل لحل مشكلات البدو. مشكلتي أنني نقلت أزمات البدو إلي القاهرة، وأنا دائما اقول لأهلي وناسي أن مشكلاتكم ستحل بنضالكم واستمراركم في هذا النضال وليس بأي شيء آخر. هل تخشي أن تتحوّل إلي زعيم؟ هذا شيء يصيبني بالرعب، لذلك أن حريص تماما ألا أبدو زعيما وأخاف تماما من فكرة الزعامة. يضيف: " اللغة العربية لغة عبقرية، كلمة زعيم جاءت من الفعل "زعم" ولعلك تذكرك بيت الشعر الشهير: زعم الفرذدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع شيء مرعب أن أفكر في ذلك، أنا أتعامل في الدنيا بإنسانيتي، وأعتقد أن البدو يعاملونني كما يعاملون الشاعر قديما، ويحبونني كما يحبون المغني. الأشخاص الرمزيون الذين لا يمتلكون سلطة، سلطتهم في أدائهم، أعتقد أنهم يتعاملون معي بهذا التصور". يصمت مسعد قليلا: " أنا لو أردت أن أصبح زعيما عشائريا سأصبح، لست من قبيلة صغيرة، جدي كان شيخ قبيلة، وكان رئيس واحدة من ثلاث لجان قامت بتحديد الحدود المصرية مع الشام، أي أنني لست علي الهامش. ما فعلته أنني قررت تحويل المظاهرات إلي " لغة" تكنولوجية". في تصورك ما المشكلات التي وقعت فيها السلطة المصرية في التعامل مع البدو؟! لو أردت أنت بعد هذه التجربة أن تقدم روشتة إصلاح ..ما الروشتة التي تقدمها؟ يجيب: "روشتة سيناء هي روشتة مصر، أنا لست طبيبا حتي أقدم " روشتات"، وإنما قدمتها دولة الحداثة، والدول التي استوردتها نجحت وصارت دولا عظيمة. هناك أنظمة تعليمية وصحية وتربوية وسياسية معروفة في العالم كله، ليس لأنها آخر العالم ولكن لأنها ذروة العالم، هناك ما بعدها.. صحيح، ولكن ينبغي أن أبحث عما هو بعد وأنا في داخل الحداثة وليس خارجها. سيناء ليس لها خصوصية في مصر، أو قل إنها تحتاج إلي طبيب من نوع خاص ، مشاكلها جزء من مشاكل مصر. ولكن لماذا إذن يحدث الصدام المستمر مع الأمن؟ يجيب: في ظل غياب مشروع تنمية هناك إحساس بالغياب عن الزمن الحضاري، هذا مقبول في مدينة مختنقة مثل القاهرة، ولكن سيناء ضد الاختناق وهنا يظهر الاختلاف، وقع صدام خشن مع الدولة. البدوي يصرخ عندما يختنق، بعكس ابن المدينة، قد يتحمل قليلا. ولكن في النهاية لو تم حل مشكلات القاهرة بمنظومة حديثة سيشعر البدوي بالراحة، والنظم الحديثة لم تكن أبدا خانقة بالنسبة للبدوي. أسأله: طوال فترة اعتقالك.. ألم يحدث بينك وبين أي مسئولين حوار.. ألم يستمع إليك الضباط الذين اعتقلوك؟ ألم يناقشوك..أو يسألوك حتي: لماذا أنت هنا؟ يجيب: الأنظمة الدكتاتورية لا تسمع سوي نفسها، هناك عبارة قالها أحد الخبراء الاستراتيجيون: "أي نظام يظل قويا إلي أن يستخدم القوة، عندها يبدأ ضعفه" .. أتذكر أن الداخلية أرسلت لواء شرطة إلي سيناء لتأديب البدو الخارجين وصرح تصريحات قوية قبل أن يذهب ، وذهب بالمصفحات..ولكن كنت أعرف أن مصير ما سيفعله هو الفشل، كنت أري أن ما يحدث هو إهانة للدولة المصرية لأن " العيال" لعبوا به كما يلعب الأطفال بالعصافير. يضيف: "لا أحد يقهر الصحراء ولا أبناءها، ومن يحاول، تبتلعه الرمال المتحركة". الصغيرة رناد تلتصق به أكثر، هو يحكي عن الصحراء التي علّمته ألا يفكر علي خط مستقيم، وأن الحياة لا تكف عن إهداء المفاجآت.. ليست لديه أحلام كبيرة الآن سوي "أن تلتحق رناد بجامعة من أفضل خمسين جامعة في العالم" ..هي الآن لا تريد شيئا سوي أن تعمل محامية عندما تكبر: "حتي تدافع عن المظلومين"..وهو سيواصل نضالهم ولكن بحرص ألا يتحول إلي " زعيم سياسي أو قبائلي ". أسأله هل أنت نادم علي شيء؟ يصمت:" لست مشغولا بالصح والخطأ ، أنا مشغول بالمتعة ..أستمتع وأنا أكتب ، وأنا أنشر ، وأنا في السجن.. لذلك لست نادما علي شيء مطلقا"!