هو في الأوراق الرسمية سجن برج العرب، لكن المساجين وضباط الشرطة ومعهم المخبرون يسمونه سجن الغربانيات. وهو اسم قديم أطلقه بدو الصحراء الغربية علي المنطقة، التي بني فوقها. سألت مساجين منهم، كانوا من زملائي في المعتقل، عن معني الغربانيات، وفهمت أنها نسبة لوجود العديد من الغربان في المكان، وأخبروني أن بالقرب منه، مبني تاريخياً قديماً كان في الماضي البعيد سجنا، ومن بين من سجنوا فيه الإمام ابن تيمية. كذلك فإن الأرض المقام عليها السجن، أرض مالحة لا ينبت فيها شيء، لذا لم يكونوا يحبونها، ولا يرعوا أغنامهم فيها، ويتحاشون الاقتراب منها، وإن اضطرتهم الظروف للمرور بها، يمرون عابرين، لأنها مليئة بالجن والأرواح الشريرة، وفقا لوصفهم. في النصف الثاني من التسعينيات، احتاجت الدولة لبناء سجون جديدة، وفي ظل تنافس، في وزارة الداخلية، بين طرازين من الضباط. الطراز القديم وعلي رأسهم وزير الداخلية حينها، اللواء حسن الألفي. والطراز الجديد، وهم من ضباط الشرطة الأكثر شبابا، الذين تلقوا تدريباتهم في الولاياتالمتحدة وأعجبوا بطرازاتها الأمنية، وعلي رأسهم، رئيس جهاز أمن الدولة حينها، اللواء حبيب العادلي. القسم الأول شرع في بناء سجن القطا، وهو سجن مبني علي الطراز القديم، ورد عليهم حبيب العادلي، حين قعد علي كرسي وزارة الداخلية، بالشروع في إقامة سلسلة سجون علي الطريقة الأمريكية، وكانت البداية بسجن الغربانيات، الذي أقيم بجوار واحد من مصانع الأسمنت، في تلك المنطقة الكريهة، وفقا لثقافة بدو الصحراء الغربية. وهو حسب معلوماتي، أكبر سجون الشرق الأوسط وأشدها قسوة. ويتكون من 30عنبراً. كل عنبر 18 زنزانة. 5 من تلك العنابر مخصصة للمعتقلين. الحكومة تقسم المعتقلين إلي نوعين، المعتقلون السياسيون والمعتقلون الجنائيون. السياسيون هم عناصر الجماعات الإسلامية: إخوان وجهاد وجماعة وسلفية جهادية... إلخ ومعهم آخرون معتقلون علي خلفية تهريب فياجرا وترامادول إلي قطاع غزة. أما المعتقلون الجنائيون فهم باقي أصناف المعتقلين ومنهم الرباعي: الأخوين غانم ويحيي أبو نصيرة والأخوين مسعد وأحمد أبو فجر. كان الفارق في المعاملة، هائلا بيننا وبين السياسيين، مثلا في كل زنزانة، من زنازين عنبرهم، يعيش اثنان منهم أو ثلاثة وأحيانا واحد، بينما يعيش أكثر من أربعين واحداً منا في الزنزانة الواحدة. أبواب زنازينهم تفتح من الثامنة صباحا ولا تقفل إلا في الثامنة مساء، بينما تفتح زنازيننا أقل من ساعتين في اليوم الواحد. أبواب زنازيننا تظل مقفولة في الإجازات والعطلات، أبواب زنازينهم لا تخضع لأي عطلات أو إجازات. مطلع كل شهر يقتحم زنازيننا الضباط ومعهم المخبرون بعصيهم، ويوقفوننا ووجوهنا إلي الحائط، يحلقون رءوسنا، ثم يقلبون أشياءنا، ويكومونها كومة واحدة في منتصف الزنزانة قبل أن يرحلوا. بينما لا يقترب من زنازينهم لا مخبرون ولا ضباط. أمام عنابر المجموعة جنينة صغيرة، يخرجون في النهار للجلوس فيها. يلعبون كرة قدم في ملعب السجن الكبير ويذهبون للمكتبة مرتين كل أسبوع، بينما يحرم علينا الخروج من باب العنبر، إلا إذا دفع الواحد منا واحدة حمرا (علبة سجاير مارلبورو، ذلك الوسيط فائق القدرة، بين المساجين وسجانيهم).. كل أسبوع نراهم من بين قضبان الباب الرئيسي لعنبرنا، بجلاييبهم البيضاء المكوية، تفوح منها رائحة عطور رخيصة، وعلامات الصلاة علي جباههم، وفي يد كل واحد منهم كرسي بلاستيك أبيض، في طريقهم لاستقبال أهلهم في صالة الزيارات. يجلس الواحد منهم مع أهله أكثر من أربع ساعات. بينما يقف الواحد منا مع أهله أقل من عشر دقائق، يفصله عنهم شبكتان، بينهما أكثر من ثلاثة أمتار، ولأن الزيارة تكون مرهقة، وقصيرة جدا والضوضاء هائلة، يطلب أغلبنا من أهله الكف عن زيارته، ونكتفي بأن يحولوا لنا حوالات بريدية، بمبلغ حسب مقتضي الحال. لم أحتمل كل هذا التمييز، ودخلت في سلسلة إضرابات متوالية، للحصول علي حقوقي كمعتقل، أو مساواتي بعناصر الجماعات الإسلامية. في الإضراب الأول، وبعد سبعة أيام، وافق أمن الدولة علي تسكيني معهم. فيما بعد اكتشفت أن الموافقة لم تكن نتيجة لإضرابي وإنما لأغراض في دخيلتهم، سوف أتكلم عنها بالتفصيل حين يحين أو أن الحديث عنها. وبالفعل أقمت مع السياسيين حوالي 15 يوما. انتهت بحكم من المحكمة بالإفراج عني. مثلما يحدث دائما حين يفرج القضاء عن واحد من المعتقلين، يرحلونه إلي مكتب أمن الدولة الذي اعتقله. وهناك يتم تخزينه، إلي أن يعملوا له جواب اعتقال جديداً، ثم يتم ترحيله إلي المعتقل مرة أخري. لما وصلت المعتقل، هذه المرة، أعادوني من جديد للسكن مع الجنائيين. دخلت في إضراب ثان، استمر لمدة 27 يوما، وانتهي حين اقتحموا باب زنزانتي. حلقوا رأسي، ثم وضعوا كلابشات الحديد في يداي. حطوني في صندوق سيارة الترحيلات، ونقلوني إلي سجن أبو زعبل، وقضيت فيه تسعة عشر شهرا وتسعة أيام.