إرث اجتماعي يمتد لأجيال| مجالس الصلح العرفية.. العدالة خارج أسوار المحكمة    بعض الأهالي سلموا بناتهم للجحيم.. القضاء يواجه زواج القاصرات بأحكام رادعة    قتلوه يوم الاحتفال بخطوبته.. محمد دفع حياته ثمنًا لمحاولة منعهم بيع المخدرات    المسلسل الأسباني "The Crystal Cuckoo".. قرية صغيرة ذات أسرار كبيرة!    في ذكراها| خضرة محمد خضر.. سيرة صوت شعبي خالد    وزير الثقافة: سلسلة فعاليات فنية ب«العريش» لعام كامل    محمد عبدالله: عبدالرؤوف مُطالب بالتعامل بواقعية في مباريات الزمالك    كيف تُمثل الدول العربية في صندوق النقد الدولي؟.. محمد معيط يوضح    التحالف الدولي يطلق صواريخ على مواقع داعش في بادية حمص ودير الزور والرقة    أول تعليق من ترامب على ضرب أهداف ل«داعش» في سوريا    حريق في مول تجاري بأسوان والحماية المدنية تسيطر على النيران    مصر للطيران تعتذر عن تأخر بعض الرحلات بسبب سوء الأحوال الجوية    إصابة 4 أشخاص في انقلاب موتوسيكل بطريق السلام بالدقهلية    مصرع شاب على يد خاله بسبب نزاع على أرض زراعية بالدقهلية    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    موهبة الأهلي الجديدة: أشعر وكأنني أعيش حلما    مسئول أمريكى: الهجوم على مقار داعش فى سوريا سيستمر لعدة ساعات    مواقيت الصلاه اليوم السبت 20ديسمبر 2025 فى المنيا    شهداء فلسطينيون في قصف الاحتلال مركز تدريب يؤوي عائلات نازحة شرق غزة    محمد معيط: أتمنى ألا تطول المعاناة من آثار اشتراطات صندوق النقد السلبية    محمد معيط: لم أتوقع منصب صندوق النقد.. وأترك للتاريخ والناس الحكم على فترتي بوزارة المالية    بحضور رئيس الأوبرا وقنصل تركيا بالإسكندرية.. رحلة لفرقة الأوبرا في أغاني الكريسماس العالمية    القبض على إبراهيم سعيد لاعب كرة القدم السابق وطليقته داليا بدر بالقاهرة الجديدة    فوز تاريخي.. الأهلي يحقق الانتصار الأول في تاريخه بكأس عاصمة مصر ضد سيراميكا كليوباترا بهدف نظيف    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: برنامجنا مع صندوق النقد وطنى خالص    الغرفة الألمانية العربية للصناعة والتجارة تطالب بإنهاء مشكلات الضرائب وفتح استيراد الليموزين    بريطانيا واليونان تؤكدان دعم وقف إطلاق النار في غزة    مصر تتقدم بثلاث تعهدات جديدة ضمن التزامها بدعم قضايا اللجوء واللاجئين    روبيو: أمريكا تواصلت مع عدد من الدول لبحث تشكيل قوة استقرار دولية في غزة    وزير العمل يلتقي أعضاء الجالية المصرية بشمال إيطاليا    السفارة المصرية في جيبوتي تنظم لقاء مع أعضاء الجالية    برودة شديدة ليلًا وشبورة صباحًا.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس السبت 20 ديسمبر 2025    أرقام فينشينزو إيتاليانو مدرب بولونيا في آخر 4 مواسم    منتخب مصر يواصل تدريباته استعدادًا لضربة البداية أمام زيمبابوي في كأس الأمم الأفريقية    ضربتان موجعتان للاتحاد قبل مواجهة ناساف آسيويًا    حارس الكاميرون ل في الجول: لا يجب تغيير المدرب قبل البطولة.. وهذه حظوظنا    زينب العسال ل«العاشرة»: محمد جبريل لم يسع وراء الجوائز والكتابة كانت دواءه    محمد سمير ندا ل«العاشرة»: الإبداع المصرى يواصل ريادته عربيًا في جائزة البوكر    كل عام ولغتنا العربية حاضرة.. فاعلة.. تقود    إقبال جماهيري على عرض «حفلة الكاتشب» في ليلة افتتاحه بمسرح الغد بالعجوزة.. صور    مدرب جنوب إفريقيا السابق ل في الجول: مصر منافس صعب دائما.. وبروس متوازن    الجبن القريش.. حارس العظام بعد الخمسين    التغذية بالحديد سر قوة الأطفال.. حملة توعوية لحماية الصغار من فقر الدم    جرعة تحمي موسمًا كاملًا من الانفلونزا الشرسة.. «فاكسيرا» تحسم الجدل حول التطعيم    أخبار كفر الشيخ اليوم.. انقطاع المياه عن مركز ومدينة مطوبس لمدة 12 ساعة اليوم    كيفية التخلص من الوزن الزائد بشكل صحيح وآمن    أول "نعش مستور" في الإسلام.. كريمة يكشف عن وصية السيدة فاطمة الزهراء قبل موتها    الداخلية تنظم ندوة حول الدور التكاملي لمؤسسات الدولة في مواجهة الأزمات والكوارث    الصحة: إرسال قافلة طبية في التخصصات النادرة وكميات من الأدوية والمستلزمات للأشقاء بالسودان    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر رجب.. في هذا الموعد    المهندس أشرف الجزايرلي: 12 مليار دولار صادرات أغذية متوقعة بنهاية 2025    10 يناير موعد الإعلان عن نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025    النتائج المبدئية للحصر العددي لأصوات الناخبين في جولة الإعادة بدوائر كفر الشيخ الأربعة    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابه    للقبض على 20 شخصًا عقب مشاجرة بين أنصار مرشحين بالقنطرة غرب بالإسماعيلية بعد إعلان نتائج الفرز    داليا عثمان تكتب: كيف تتفوق المرأة في «المال والاعمال» ؟    هل يجوز للمرأة صلاة الجمعة في المسجد.. توضيح الفقهاء اليوم الجمعة    القلق يجتاح «القطاع»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قناديل ملك الجليل
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 11 - 2011

في القرن الثامن عشر، وعلي ضفاف بحيرة طبرية وفي جبال الجليل ومرج بني عامر، بدأ رجل من عامة الناس رحلته، نحو أكبر هدف يمكن أن يحلم به رجل في تلك الأيام: تحرير الأرض وانتزاع الاستقلال وإقامة الدولة العربية في فلسطين، متحدّيا بذلك حكم أكبر دولة في العالم آنذاك (الدولة العثمانية) وسطوتها المنبسطة علي ثلاث قارات: أوروبا وآسيا وأفريقيا..
كان اسمه: ظاهر العُمَر الزّيداني 1689-1775
ولعل من أبرز صفات ذلك القائد النادر: تسامحه الكبير، كما يبدو الآن في ظل الربيع العربي شخصية وطنية استثنائية في رفضه توريث أبنائه الحكم في ذلك الزمان!
الصّيحة التي تستَّرت بالظلام
اكتشف سكان المدينة أن أكثر البيوت أمانًا هي تلك الملاصقة للأسوار. فالتصقوا بها، باحثين عن أيّ مسافة تؤويهم. ومن هناك كانوا يراقبون بيوتهم تختفي أمام أعينهم.
لم يعرف أحد ذلك الذي صاح في منتصف الليل، فغطي صوته علي انفجارات القنابل والانهيارات: إنهم يريدون ظاهر والزّيادنة، فلماذا نموت نحن؟! أين جيش سعد الذي سمعنا عنه ولم نره؟!
سمعها ظاهر بأذنه. كانت صيحة كافية لأن تزلزل الأرض تحت قدميه. التفتَ فرأي الجميع يحدّقون فيه: أخوه يوسف والدّنكزلي والقاضي وبشْر.
- هل نبحث عنه ونُحضره إليك يا شيخ؟!
- مَنْ؟
- ذلك الذي صاح قبل قليل.
- لا، لا تحضروه.
- ولكنه يدعو الناس إلي التمرّد يا شيخ. قال الدّنكزلي.
صمت ظاهر قليلا، ونظر إليهم فلم ير غير بعض من بياض عيونهم.
- هل تخشاني الناس إلي هذا الحدّ، بحيث لا يقولون ما في قلوبهم إلا في الظلام؟!
لم يُجب أحد. فأضاف ظاهر: هذه الصيحة ليست صيحته وحده. لنر ما الذي يمكن أن نفعله! هل تعتقدون أن نجمة نامت؟
- مَن ينام في ليل كهذا يا شيخ، إنها تجلس هناك في انتظار عودتنا لا بدّ. قال يوسف. ثم أضاف: ولكن ما الذي تريده من نجمة في مثل هذا الوقت من الليل؟!
- ستعرف في الصَّباح.

تصاعد القلق في قلب سليمان باشا، إلي ذلك الحدِّ الذي أمر فيه بإرسال جاريته إلي الشام، لأنه لم يعد يُطيق ملامسة أحد أو الاقتراب من أحد.
استبدل صِوانه الذي مزَّقته السّهام، بآخر أقوي. وما إن انتهوا من نَصْبه حتي أمسك قوسًا وأطلق سهما نحو الصِّوان. ارتدّ السَّهم، ثم أمسك رمحًا وطعن الصِّوان فكانت النتيجة واحدة، بحيث لم يُخلِّف رأسُ الرّمح سوي نتوء صغير!
أمسك بندقية أحد ضباطه ووجّهها نحو الخيمة! فأدرك الجميع أن الباشا جنَّ تمامًا.
في اللحظة الأخيرة أنزل البندقية وناولها لصاحبها، وقد تذكر أن الصِّوان الذي لا يخترقه الرَّصاص لم يُصنع بعد!
- رأيي أن تصالحه! قال كتخداه عثمان باشا.
- أصالح مَنْ؟!
- تُصالح ظاهر يا باشا! فالوقت يمرّ بسرعة، والطقس يتغيّر، وبعد قليل سيدخل الشتاء، والمسافة بيننا وبين خروج قافلة الحج تتناقص بسرعة.
- أهذا كلامك أم أنك تعيد ما يطلبه السّلطان يا عثمان؟!
- كلام السلطان فوق كلّ كلام سيدي، ولكنني أري أن الوقت لا يعمل لصالحنا!
- سأطلب منْحي خمسة عشر يومًا لأتمّ المهمة التي أتيتُ من أجلها. لم يحدث أن عاد سليمان باشا يا عثمان مهزومًا من قبل، ثم من يهزمني: طبرية؟! هذه المدينة الصغيرة التي لا توازي أيّ حارة من حارات دمشق!
- لنعمل إذن كل ما نستطيع قبل انقضاء هذه المُهلة سيدي.

لم يصدِّق سليمان باشا أن رسولا من ظاهر قد وصل. لكنه استعاد دَوْر القويّ الذي لا يتراجع. رفض مقابلة الرّسول: قولوا له: الباشا ليس له سوي مطلب واحد: أن تفتحوا أبواب طبرية وأن تخرجوا ومناديلكم في رقابكم!
- لكنه أرسل أمّه، سيدي! قال عثمان باشا.
- أمّه؟!
- نعم أمه، فمن عادة الناس كما تعرف سيدي، أن تُرسلَ الأمُّ أو امرأة أخري قريبة للأمير أو الشيخ للتّفاوض، كنوع من التّواضع والخضوع اللطيف للطرف الآخر! أي لنا سيدي!
- وما الذي تراه يا عثمان.
- أري أن تقابلها سيدي، فلعل ذلك يُنهي ما نحن فيه من ارتباك! فها نحن بعد أكثر من شهرين في مكاننا وهو في مكانه.
- أحضروها إليَّ إذن.
- إنها بالباب سيدي.

انتقي ظاهر واحدًا من أفضل الخيول الأصيلة، يصل ثمنه إلي ألف قرش، هدية لسليمان باشا، وأوصي نجمة أن تجلس مع الوزير وتعرف مطالبه؛ ولم تكن هناك رسالة أوضح من قبوله للهديّة، أو رفضها. فإذا رفضها فإن ذلك يعني أنه لا يريد التّفاهم، وإذا قبلها فالصّلح وارد!
تأمّلها ظاهر فوق ظهر الحصان، فسألته: لماذا تنظر إليّ هكذا؟
- تعرفين يا أمي، سأقول لك شيئًا، وأرجو ألا تغضبي مني؟
- كأنني عرفته قبل أن تقوله، لأنني أراه في عينيك.
- وما هو إذن؟!
- قله، وإذا كان هو، سأعترف لك بأنه ما فكرتُ فيه!
- أظن أنك بحاجة إلي حصان أقوي وأفضل من هذا، ما رأيك؟
- أنا؟! ولماذا أكون بحاجة لحصان، وهل سأعيش حتي الخمسين؟!
ضحك ظاهر، فقد كان يعرف أنها علي وشك بلوغ الستين.
- لماذا تضحك؟!

تأمل سليمان باشا الرّسولة بقامتها المتوسطة وعينيها المشعَّتين. كانت ممتلئة بنفسها كما لو أنها المُنتصرة! وضاعف إحساسه هذا، ذلك الحصان الأصيل الذي يُمسك به الفتيان الأشداء الواقفون خلْفها.
حين وقعت عيناه علي قدميها ارتبك، كانت حافية كعادتها. فكَّر في معني ذلك! لم يصل إلي نتيجة. هل يكون ذلك نوع من التوسّل؟ أو ربما الاستهزاء به؟! لم يعرف.
أدركتْ نجمة ما يفكر فيه، فقالت: هكذا أنا دائما يا باشا، لم انتعل حذاء من قبل، حتي يوم عرسي! لقد طلب الشيخ ظاهر مني أن انتعل حذاء قبل القدوم إليك، ولكني رفضت، لأنني علي يقين من أن الحرَّ لا يجبر الناس علي فعل ما لا يريحهم!
- تفضّلي. قال سليمان باشا، وأشار إلي كرسيّ بجانبه.
- اسمح لي يا باشا أن أجلس هنا علي هذا البِساط. لأنني لم أبتعد عن هذه الأرض يومًا!
- تفضّلي.
جلست نجمة، لكن سليمان باشا راح يفكّر في كلّ كلمة قالتها، فأحسّ بأنه أمام امرأة داهية، وأن ظاهر لم يرسلها عبثًا.
- هذه هدية الشيخ ظاهر إليك. قالت نجمة، وهي تشير إلي الحصان اة
خلْفها، دون أن تنظر!
عاد سليمان باشا لتأمّل الحصان، ازداد إعجابا به، فحسم الأمر: وقد قبِلنا الهديّة!
- الحمد لله، هذا يعني أن الخير فيما سيأتي. علَّقتْ نجمة.
- ليس لي سوي طلب واحد، لا غير، أن تفتحوا أبواب طبرية، وتخرجوا إليَّ ومناديلكم في رقابكم!
- هذا ليس طلبًا يا باشا. هذا أَمْرٌ؛ فجنابكم لم ينتصر ونحن لم ننهزم!
- بل هُزمتم، منذ اللحظة التي وصلتُ فيها إلي هنا!
- لقد جئتُ يا باشا لحقن دمائنا ودمائكم، وكلي أمل أن تساعدني في هذا.
- لا تقلقي علي دمائنا، فورائي برّ الشام كلّه، وأستطيع إحضار مئة جندي مقابل كل جندي يموت!
- أعرف هذا يا باشا. كلنا نعرف هذا يا باشا! ونعرف أن من نفقده في طبرية يصعب علينا أن نعوّضه حتي بواحد، وليس بمائة؛ ولكن من نفقده من أولادنا نحزن عليه مثل ذلك الذي يمكن أن تفقده أنت يا باشا، حتي لو أحضرت مئة مكانه!
- أأنتِ أحرص مني علي دم جنودي؟!
- جنودك بشَر مثلنا يا باشا! ولذلك يحقُّ لي أن أخاف عليهم!
- ما هي مطالبك؟
- مطلبنا يا باشا أن تنسحب بجيشك وأن نُسدّد، مقابل ذلك، كلّ ما في ذمتنا للدولة من مال الميري.
- أما مطلبي فهو أن تفتحوا أبواب المدينة، وتستسلموا، وأن أُمسك بظاهر وأحمله معي إلي دمشق، فقد أقسمتُ أنني سأفعل هذا قبل أن أتحرّك منها!
- أتأخذ ولدي ليُعدم هناك كما أُعدم من قبله أخوه صالح؟!
- هذا مطلبي!
أطرقتْ نجمة، ثم التفتتْ إلي الباشا مباشرة. حدّقت في عينيه طويلا، إلي أن أبصرته يغيّر اتجاه نظره نحو قدميها، وقالت:
- اسمح لنا يا باشا بالذهاب.
- مع السلامة.
نهضت نجمة، ربّتت علي ظهر الحصان، كما لو أنها تودّعه، وسار خلفها الفتيان الذين أتوا معها، الفتيان الذين كانوا ينتظرونها في الخارج.

راقبها سليمان باشا تسير حافية، متوقِّعًا تعثُّرها، في أيّ لحظة بحجر، أو انغراس شوكة قاسية في قدميها، لكن ذلك لم يحدث. ظلّت تسير بهدوء، كما لو أنها تسير علي رمل شاطئ، إلي أن وصلت حيث الخيول التي جاؤوا عليها. وضعتْ قدمها اليمني في الرِّكاب، وقبل أن تمتطي الجواد، نظرت نحو سليمان باشا فوجدته يحدِّق فيها؛ فظلت قدمها داخل الرِّكاب لحظات، إلي أن أدرك أن عليه أن يغضّ بصره كي تستطيع امتطاء الحصان. أخيرًا أدرك ذلك، وما إن ابتعد بعينيه، حتي كانت فوق الحصان تبتعد.
- يقولون إنها التي ربّت ظاهر بعد موت أمه. قال سليمان باشا.
- نعم سيدي، ربته هي وفرس أصيلة؟ ردّ عثمان.
- ماذا؟
- معرفة عدونا أمرٌ ضروريّ لكي ننتصر عليه سيدي! ولذلك سأخبرك بقصة ظاهر من أولها.
- ولكن لا تُطِل!
حين بدأ الكتخدا عثمان بسرد حكاية ظاهر، نسيَ سليمان باشا أن الحكاية حكاية عدوّه، فسأل يستحثه: وماذا بعد؟
استفاض عثمان باشا، وفوجئ بالسؤال ثانية: وماذا بعد؟
- كأنك أحببتَ حكايته يا باشا!
انتبه سليمان باشا لذلك فقال: يكفي، هذا يكفي!
- ولكن هنالك أمرًا آخر في الحكاية سيدي.
- قلت لك، هذا يكفي!

حين رأي أهل طبرية نجمة ومن معها، من فوق الأسوار، عائدين، دون ذلك الحصان، استبشروا؛ بل كان بعضهم علي وشك أن يهنئ الآخرين علي ذلك النجاح الذي لا بدّ أن تكون قد حقّقته.
- كانت أفضل رسول يمكن أن يرسله ظاهر إلي سليمان باشا! قال أحدهم.
- الآن تقول هذا الكلام! أنسيتَ بأنك قلت في الصباح: ألم يجد ظاهر غير هذه العجوز ليرسلها؟!
الصّيحات!
كان الوجوم قاسيًا كحجر، وقد احتلّ ملامحَ الناس.
وقف ظاهر علي واحدة من الدّرجات الصاعدة إلي أعلي السور، والناس تحدّق فيه.
التفت يمينًا، شمالا، وأمامه، محاولا لمَّ الجميع.
كلّ أهل طبرية تحوّلوا إلي قلب واحد وأذن واحدة.
أشار ظاهر لنجمة أن تصعد وتقف إلي جانبه.
تردّدت قليلا، فأعاد طلبه. صعدت ووقفت إلي جانبه وعيناها تتصفّحان وجوه الناس، وبين حين وحين تنظر إلي ظاهر.
كانت قوية وصلبة كعادتها.
- لقد سمعتُ من يصيح ليلة أمس: إنهم يريدون ظاهر والزّيادنة، فلماذا نموت نحن؟! ولذلك أرسلتُ أمي نجمة إلي سليمان باشا هذا النهار؛ أرسلتها لتوصل إليه مطالب طبرية، وتسمع مطالبه. لقد أرسلت إليه أقرب امرأة إلي قلبي علي هذه الأرض؛ تواضعًا وأملا في أن يفهم رسالتنا كلنا إليه. يريد أموال الميري، نعم. قالت له أمي ستصلك أموال الميري كاملة. سيصلك حقّ الدولة! لكنه طالب بأن تخرجوا ومحارمكم في رقابكم أذلاء، وأن تهزِموا طبرية بأنفسكم بأن تفتحوا أبوابها التي لم يستطع جيشه الوصول إليها.
حقّ الدولة أن تأخذ الميري، أما إذلال الناس وتمريغ كراماتهم في الوحل فليس حقّ الدولة؛ لأن الكرامة التي وهبنا إياها ربنا ليست مُلكًا للدولة، وحريتنا ليست مُلْكا للدولة، وأرواح أبنائنا التي تُنتزع من أجسادهم، منذ شهرين، ليست مُلك الدولة. ومن يقول إن كرامته وحريته وروحه للدولة، لن أمنعه من الذّهاب. سأفتح له باب طبرية بنفسي، وليذهب عبدًا إلي حيث شاء.
وسمع من يصيح: أين جيش أخيك سعد؟! وآخر: أخرج بجيشك يا ظاهر إلي الوزير واقتله!
- أنا لا أفكّر علي هذا النحو، لأنني أري أبعد من هذا. قال ظاهر.
لن أطلب من أخي سعد أن يوافيني بعسكره إلا في حالتين: الأولي عند قدوم وزير صيدا بعسكره إلي طبرية، ففي هذه الحالة، أي عند وصول وزير صيدا بعسكره، سأطلب من سعد أن يتقدّم ويباغتَ سليمان باشا في معسكره، لأن الناس عندها ستقول إن وزير صيدا هو الذي هاجم وزير دمشق، لأن هذا الأخير اعتدي علي طبرية التابعة لولاية صيدا، وهذا ما أرجوه وأبتغيه، لأني لا أريد أن يقال: إن الشيخ ظاهر قام علي وكيل السلطان أمير الحج وقتله فتتعطل قافلة الحج ويقول الناس إنني قاتل.
أما الحالة الثانية التي سأطلب فيها من سعد أن يتدخّل، فهي تلك الحالة التي سأعمل علي ألا نَصِلَها، وهي: إذا أفلح سليمان باشا في الوصول إلي الأسوار وشرع في نقْبها، ولم يعد بالإمكان صدّه بطريقة أخري، فعندها، وعندها فقط، أدعو أخي سعد إلي نجدة طبريّة.
تعلمون، أخوتي وأخواتي، وأهلي، أننا حتي الآن لم نخسر، ولم ينقصنا شيء، إن قوَّتنا اليوم هي كما كانت عليه أمس؛ فرجالنا أقوياء وأسوارنا منيعة؛ فلماذا نخرج إلي الوالي ونقتله؟! ونحن نستطيع؛ فأتحمل وأحمِّلكم معي مسؤولية قتله، ونحمِل جميعًا نقمة السلطان. كل ما أرجوه أن أحافظ علي بلدي وأحمي شعبي، وأن يرحل الوالي ويكفينا أذاه. فكونوا علي حذر، وحاربوا حرب دفاع، اقتلوا كل من يقترب من الأسوار، وأما القتل لغير ذلك فتجنبوه.
لقد بلغني، أخواتي وأخوتي، أن هناك من يقول: ما يحدث لنا سببه أن ظاهر لا يريد أن يكون أقلَّ من بطل!
إن أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلا في الحرب؛ وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيها بطلا حقيقيا. ولكنّ هذه الحرب فُرضت علينا، ولم نخُضها لكي نصبح أبطالا، بل خضناها لكي نكون بشرًا، كرَّمهم سبحانه وتعالي حين قال (ولقد كرَّمْنا بني آدم) صدق الله العظيم. نحن لا نريد أكثر من أن نكون بشرًا. أما ما أحلم به، فهو أن تكونوا أبطالا كلّكم بعد هذا الحصار. فالبطولة في أن تبنوا بلادكم بأمان، وأن تزرعوا أشجاركم بأمان، وألا تخافوا علي أطفالكم، لأنهم محاطون بالأمان. سيصبح كلُّ رجل بطلا حين يتجوّل في الطرقات كما شاء دون أن يعترض طريقه أحد، أو ينال من كرامته أحد، أو يسرق قوت عياله أحد، أو يعبث بحياته أحد، أو يقيّد حريته أحد. وتكون البطولة، حين تسير امرأة بمفردها فيهابها الجميع، لأنها بطلة علي جانبيها أطياف مئات البطلات والأبطال. أريد شعبا كاملا من الأبطال، لا شعبا من الخائفين بين هذين البحرين: بحر الجليل وبحر عكا. البطولة الحقيقية في أن تكونوا آمنين إلي ذلك الحد الذي لا تحتاجون فيه لأي بطولة أخري.
أخواتي، أخوتي وأبنائي، لو كان الثّمن الذي يمكن أن تحصلوا عليه هذا الذي حدثتكم عنه، لحملتُ رأسي بين يديّ وخرجت لأسلمه إلي سليمان باشا! لكن كلّ واحد منكم يعرف، كما تعرف كل مدينة وقرية حوصِرت قبل طبرية، أن الذي يطلب رأسًا لا يكتفي إلا بكل الرّؤوس، فهل بينكم من يستطيع تقديم رأس أمّه أو ابنته أو ولده أو أخيه أو أخته أو زوجته إلي سليمان باشا؟!
- معاذ الله.
- معاذ الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.