ختم الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق دراسته «بنو إسرائيل فى القرآن والسنة» التى يعيد دار «الشروق» طبعها بفصل، يمثل هدف الكتاب، ويجىء بعد عرضه إلى التاريخ اليهودى وما فيه من نعم الله على بنى إسرائيل وكذلك رذائلهم ودعواهم الباطلة. وهذا الفصل يتناول فلسطين ومراحل الغزو الصهيونى لها. لقد كان معظم حديث الشيخ طنطاوى عن بنى إسرائيل فى الفصول السابقة، ينصب على تفسير ما ورد فيهم من آيات كريمة، وعلى تبيان ما صدر عنهم فى العهد النبوى من خيانات ومؤامرات واعتداءات أدت إلى معاقبة كل فريق منهم بما يستحقه. أما حديثه عنهم عن كارثة فلسطين، فسيكون حديثا تاريخيا متمما لما ذكره، من تاريخهم وأحوالهم فى الفصل الأول. ومقصد الشيخ طنطاوى منه المساهمة فى كشف الوسائل الخبيثة، والمؤامرات المتنوعة التى قامت بها اليهودية العالمية فى مختلف الأزمنة، حتى استطاعت فى عام 1948 أن تنشئ لها دولة فى فلسطين قلب العالم الإسلامى، بعد أن قتلوا الآلاف من أبنائها، وشردوا مئات الآلاف من سكانها المسلمين. وانصب حديث طنطاوى على خلاصة عن تاريخ فلسطين منذ الفتح الإسلامى لها سنة 636 إلى سنة 1948، واليهودية والصهيونية، ومراحل عملهما لإنشاء دولة لهما فى فلسطين، ومرحلة الأمانى والأحلام لإنشاء دولة إسرائيل، وهذه المرحلة تمتد من خراب أورشليم سنة 586 ق.م حتى أواخر القرن التاسع عشر، بعد ذلك مرحلة الإعداد العملى، والتحضير الفعلى لإعلان دولة إسرائيل، وذلك منذ سنة 1897 إلى سنة 1948، ومرحلة إعلان دولة إسرائيل وما تبعها من آمال اليهود، ثم عدد الأسباب الرئيسية لكارثة فلسطين. أوضح طنطاوى أن المسلمين بعد أن فرغوا من فتح الشام، وجهوا جانبا من قواتهم بقيادة أبى عبيدة عامر بن الجراح إلى فلسطين، واستطاعوا أن يستولوا على عدد من بلادها واستمروا فى سيرهم إلى أن وصلوا إلى إيلياء «بيت المقدس»، وهناك دارت معركة عنيفة بين المسلمين وبين الروم، الذين استماتوا فى الدفاع عن بيت المقدس، إلا أن استماتة الروم لم تغن عنهم شيئا، فقد اضطروا فى النهاية إلى التسليم بشرط أن يكون ذلك لأمير المؤمنين بنفسه. فكتب أبوعبيدة إلى عمر بن الخطاب يطلب منه أن يحضر بنفسه، ليتسلم بيت المقدس، فلبى عمر الطلب، وحضر بنفسه، فتسلم المدينة من البطريرك «صفر نيوس». وقد ظلت فلسطين إسلامية عربية منذ الفتح الإسلامى سنة 15ه سنة 636م حتى قامت الحروب الصليبية سنة 1099م فاستطاع الصليبيون فى الجولة الأولى منها أن يستولوا على فلسطين ويجعلوها تحت نفوذهم حتى سنة 1187م، ثم وفق الله المسلمين بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبى فى استرداد فلسطين من الصليبيين، بعد أن خاضوا معهم عدة معارك من أبرزها معركة حطين التى انتهت بهزيمة الصليبيين فى 25 من ربيع الثانى سنة 583 ه الموافق 1187م، وتلى ذلك معارك أخرى انتهت باستيلاء صلاح الدين على بيت المقدس فى يوم الجمعة 27 من رجب سنة 583 ه 12 أكتوبر سنة 1187م. وفى 9 من ديسمبر سنة 1917م احتل الإنجليز بقيادة الجنرال «اللنبى» مدينة القدس، وقد دخلها من باب الخليل، وقال عبارته المشهورة: «الآن انتهت الحروب الصليبية». ومن ذلك التاريخ خضعت فلسطين للحكم الإنجليزى، إلى أن سلموها إلى اليهود فى 15 مايو سنة 1948. هذه خلاصة قدمها الشيخ طنطاوى لتاريخ فلسطين منذ الفتح الإسلامى إلى أن استلب الجزء الأكبر منها اليهود، وأقاموا عليه دولة لهم. يهودية أم صهيونية؟ بعد ذلك انتقل طنطاوى إلى الحديث عن اليهودية والصهيونية، فقال إن اليهودية والصهيونية فى الحقيقة: اسمان لمسمى واحد، إلا أنه جرت عادة بعض الباحثين أن يعبر عن الصهيونية بأنها الجانب السياسى، أو الوجه القومى لليهودية، أو هى الجهاز التنفيذى لليهودية العالمية، التى تسعى إلى تدمير العالم، والتحكم فى مصيره. وكلمة صهيونية نسبة إلى: جبل صهيون الذى يقع فى جنوب بيت المقدس، وكان هذا الجبل يسكنه اليبوسيين، فلما تولى داود ملك بنى إسرائيل طرد اليبوسين منه فترة من الوقت، وأصبح صهيون بعد ذلك مقدسا عند اليهود، لاعتقادهم بأن الرب يسكن فيه، فقد ورد فى سفر المزامير «رنموا للرب الساكن فى صهيون». وورد فى دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة «الصهيونية» ما نصه: «إن اليهود يتطلعون إلى افتداء إسرائيل، واجتماع الشعب فى فلسطين واستعادة الدولة اليهودية، وإعادة بناء الهيكل، وإقامة عرش داود فى القدس ثانية، وعليه أمير من نسل داود». وجاء فى دائرة المعارف اليهودية تحت كلمة الصهيونية، ما نصه: «إن اليهود يبغون أن يجمعوا أمرهم، وأن يقدموا إلى القدس، ويتغلبوا على قوة الأعداء، وأن يعيدوا العبادة «أى: مكان المسجد الأقصى» ويقيموا ملكهم هناك». إذن فالصهيونية هدفها تحقيق الطموح اليهودى، الذى يرمى إلى الاستيلاء على فلسطين، وجعلها مركزا للدولة اليهودية، وإعادة بناء معبدهم المسمى «هيكل سليمان» مكان المسجد الأقصى المبارك، وممارسة عباداتهم وشعائرهم الدينية فيه. والصهيونى هو: اليهودى الذى يؤثر المعيشة فى فلسطين على غيرها من البلاد، وهو كذلك من يساعد اليهود ماديا وأدبيا، ليقيموا فى فلسطين، ويستقروا بها. والصهيونية كفكرة وحركة تدعو إلى عودة اليهود إلى فلسطين ليست حديثة، بل هى قديمة، فقد زرعت بذورها كما يقول بعض اليهود يوم دكت مملكة إسرائيل على أيدى الآشوريين سنة 721 ق.م، ثم تمت بعد خراب أورشليم الأول على يد بختنصر سنة 586 ق.م، وسوق اليهود أسارى إلى بابل. وأورد الشيخ طنطاوى بعض آراء الكتاب الذين أكدوا أن اليهود الذين سيقوا إلى بابل هم الذين وضعوا بذور فكرة التعصب العنصرى لليهود، وهم أصحاب فكرة العودة إلى صهيون، ودعاة أسطورة شعب الله المختار. وسرد طنطاوى فى دراسته التى تجىء فى 754 صفحة، الجهد الذى بذلته الصهيونية للاستيلاء على فلسطين منذ خراب أورشليم الأول سنة 538 إلى أواخر القرن التاسع عشر، وذلك فى 15 نقطة: 1 فى سنة 163 ق.م قامت حركة المكابيين بزعامة الكاهن اليهودى «متاثيا» وأولاده، وكان هدفها إنشاء دولة مستقلة لليهود، واستطاعت أن تنفرد بالحكم لفترة من الزمان، إلا أنها لم يكتب لها البقاء، فقد قضى عليها الرومان قضاء نهائيا سنة 37 ق.م، وقد فصلنا القول عنها فى الفصل الأول. وثورة المكابيين يتفاخر بها اليهود فى العصر الحاضر، بن جوريون يقول عنها بن جوريون «إن هذه الثورات التى قام بها المكابيون قبل الميلاد، وفرت لليهود الحرية السياسية فى القرن العشرين». 2 وفى سنة 117م تزعم «باركوخيا» اليهودى حركة تدعو اليهود إلى التجمع والتكتل لإنشاء دولة لهم بفلسطين، تعيد بناء الهيكل، ويكون ملكها من نسل داود عليه السلام إلا أن هذه الحركة رغم ما أثارته من حماس لم يكتب لها النجاح، بل قضى عليها قضاء تاما. 3 وفى السنة 361 م استعمل اليهود شتى الوسائل مع الإمبراطور «جوليان» الرومانى ليعيد لهم بناء معبدهم، ويمنحهم الاستقلال، وقد مناهم «جوليان» بإجابة مطالبهم، إلا أن المنية عاجلته قبل أن يفى بعهده معهم. وفى خلال القرن الرابع وعدهم أحد ملوك الفرس بمنحهم الحرية إذا انضموا تحت لوائه، ولكنه لما رأى منهم مخادعة وغدرا اضطهدهم وأذلهم. 4 ثم توقفت مساعى اليهود لتحقيق حلم العودة خلال القرون الوسطى، بسبب الاضطهادات التى نزلت بهم، وانعدمت مشاريعهم، وتركزت جهودهم فى تثبيت فكرة العودة فى نفوسهم عن طريق التضرع والصلاة فى المعابد، وعملوا فى ترسيخ عاداتهم وطقوسهم الخاصة فى نفوس الأفراد، وساعدهم فى ذلك أسلوب حياتهم المنطوى فى الأحياء الخاصة بهم، والتى عاشوا فيها مئات السنين. وفى هذه الأجواء المنعزلة لمعت أسماء عدد من مفكريهم وأحبارهم وكهانهم.. الذين وضعوا دراسات للفكر اليهودى، وكان من أبرز هؤلاء «اليعازر كالير» فى القرن السابع، و«سعاد غاؤون» من سنة 882 942م و«موسى بن ميمون» من سنة 1135 1204م و«إسحاق لوريا» من سنة 1534 1572م.. وغيرهم كثيرون. أما أسباب خمود النشاط اليهودى، وتوقف العمل المنظم، وتجميد المساعى الجدية فترجع إلى عدم ملاءمة الظروف السياسية والاجتماعية، كما قال أحد مفكريهم. 5 ثم عاد لليهود بعض نشاطهم خلال القرن السادس عشر، ففى سنة 1532م قامت حركة «دافيد روبين» وتلميذه «سولون مولوخ» وكان هدف هذه الحركة تجميع اليهود وإعادتهم إلى فلسطين، ليقيموا دولة لهم فيها. 6 وفى سنة 1566م طلب اليهودى الإسبانى «دوم جوزيف ناس» من السلطان العثمانى، أن يبيعه مساحة واسعة من الأراضى القريبة من بحيرة طبريا بثمن مرتفع، وكان مقصده من وراء هذا الطلب إقامة أول مستعمرة يعمرها اليهود ويحتلونها، مهاجرين إليها من أنحاء العالم المضطهدين به، إلا أن السلطان العثمانى رفض طلبه رفضا نهائيا. 7 وفى سنة 1604 قامت فى بريطانيا حركة «منشه بن إسرائيل» التى كان هدفها جمع يهود العالم فى بريطانيا، ثم تهيئة موطن لهم فى فلسطين يهاجرون إليه بعد ذلك، ويقيمون به. ويبدو أن هذه الحركة كانت النواة الأولى للصهيونية الحديثة، التى وجدت لها أرضا خصبة هى بريطانيا، ترعرعت فيها ونمت، واستطاعت خلال ثلاثة قرون أن تسخر جميع قوى الإنجليز من أجل تحقيق أهداف اليهود. 8 وفى سنة 1626م قامت حركة عنيفة بزعامة «شبناى ليفى» تولى أفرادها الدعوة بنشاط، لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، وزعم قائدها: أنه هو المسيح المنتظر، إلا أن هذه الحركة رغم تعصبها ونشاطها فشلت فى مساعيها، بل أخذ بعض اليهود يحاربها، ويدعو بنى قومه إلى تقبل العيش فى البلاد المستقرين فيها، وأن يكتفوا بالجانب الدينى من يهوديتهم، ويهملوا الجانب السياسى منها. 9 وفى سنة 1663م زاد اضطهاد اليهود فى ألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، ومصر... فهرب عدد كبير منهم إلى فلسطين، واستقروا بها كأفراد مهاجرين خاضعين لنظم الدولة العثمانية، التى كانت فلسطين ولاية من ولاياتها. 10 وبعد قيام الثورة الفرنسية فى 14 يوليو سنة 1789م زاد نشاط اليهود فى المطالبة بإنشاء وطن قومى لهم بفلسطين، وذلك لأن الثورة الفرنسية كانت من صنع أيديهم كما صرحوا بذلك فى بروتوكولاتهم لأن موجة الاضطهادات التى كان الشعب الفرنسى ينزلها بهم قبل الثورة، خفت حدتها، أو انعدمت بعد قيام الثورة، بل إن اليهود بدأوا يتحكمون فى فرنسا بعد ذلك، مما حمل «نابليون بونابرت» أن يوجه نداء إلى يهود العالم يدعوهم فيه إلى الانضواء تحت لوائه، لكى يعيد إليهم مجدهم الضائع، ويرد إليهم حقوقهم المسلوبة منذ آلاف السنين. وقد نشر هذا النداء بالجريدة الرسمية الفرنسية بتاريخ 20 أبريل 1799م ولكن «نابليون» توالت عليه الأحداث، فلم يستطع أن يفعل لهم شيئا، فضلا عن أنه كان فى الحقيقة يقصد من وراء النداء إبعادهم عن فرنسا، بعد أن لمس تحكمهم فى كل مرافقها، وبعد أن رآهم قد تمادوا فى إثارة حماسة اليهود، لإعادة بناء دولتهم الغابرة فى فلسطين. ففى سنة 1797م ألقى أحد زعمائهم فى فرنسا خطابا مثيرا تحدث فيه عن آمالهم وآلامهم، وطالبهم فيه بالعمل الجاد من أجل العودة إلى فلسطين، وهذه فقرات منه: «أيها الإخوان: لا يغربن عن ذهنكم أن زفراتكم وتنهداتكم صعدت فى خلال العصور إلى عنان السماء، لشدة ما رزحتم تحت أثقال الجور والاضطهاد، فهلا تنوون أن تتخلصوا نهائيا من الحالة المقرونة بالإذلال والانحطاط، التى وضعكم فيها أناس من الهمج. إننا نرى الازدراء مرافقا لنا فى كل مكان، فالبدار البدار. فقد حان الوقت لتحطيم سلاسل الخسف والإهانة التى طوق العدو بها أعناقكم، وخلع النير الذى لا يطاق احتماله. نعم: قد آن الأوان لنهوضنا واحتلال المركز اللائق بنا بين أمم العالم. فهيا بنا أيها الإخوان لتجديد هيكل أورشليم. إن عددنا يبلغ ملايين متعددة منتشرين فى جميع أقطار العالم. وفى حوزتنا ثروات طائلة واسعة، وممتلكات عظيمة شاسعة، فيجب أن نتذرع بكل ما لدينا من الوسائل، لاستعادة بلادنا. إن الفرصة سانحة، ومن واجبنا أن نغتنمها. إنه يجب العمل بالوسائل التالية لتحقيق هذا المشروع المقدس، وهى إقامة مجلس ينتخبه اليهود المقيمون فى الأربعة عشر بلدا التالية، وهى: إيطاليا، وسويسرا، والمجر، وبولونيا، وروسيا، وبلاد الشمال، وبريطانيا العظمى، وإسبانيا، وبلاد ولس، والسويد، وألمانيا، وتركيا، وآسيا، وأفريقيا. فاللجنة الممثلة لليهود المقيمين فى هذه البلدان كلها يمكنها أن تبحث فى مهمتها، وتتخذ ما تراه من القرارات فى صددها، ويكون من الواجب على جميع اليهود أن يقبلوا هذه القرارات، ويجعلوها بمثابة قانون لا مندوحة لهم من الخضوع له. أما البلاد التى تنوى قبولها باتفاق مع فرنسا، فهى إقليم الوجه البحرى من مصر، مع حفظ منطقة واسعة المدى يمتد خطها من مدينة عكا إلى البحر الميت، ومن جنوب هذا البحر إلى البحر الأحمر. فهذا المركز الملائم أكثر من أى مركز آخر فى العالم يجعلنا بواسطة سير الملاحة الآتية من البحر الأحمر، قابضين على ناصية تجارة الهند، وبلاد العرب، وأفريقيا الشمالية والجنوبية. ولا شك فى أن بلاد إثيوبيا والحبشة لا تتأخر عن إقامة علاقتها التجارية معنا، بملء الرضا والارتياح، وهى البلاد التى كانت تقدم للملك سليمان الذهب والعاج والحجارة الكريمة. ثم إن مجاورة حلب ودمشق لنا تسهل تجارتنا، وموقع بلادنا على البحر المتوسط يمكننا من إقامة المواصلات بسهولة، مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من بلدان أوروبا. ولما كانت بلادنا فى موقع متوسط من العالم فإنها ستصبح كمستودع لجميع الحاصلات التى تنتجها الأراضى الغنية. أما الاتفاقات والترتيبات الأخرى الخاصة باقتراحاتنا على الباب العالى فلا يجوز نشرها علنا، وعلى رءوس الأشهاد، وسنكون مضطرين لإبقاء هذه المسألة منوطة بحسن إدارة الأمة الفرنسية. أيها الإخوان: يجب ألا تدخروا وسيلة تضحية فى سبيل الوصول إلى هذه الغاية، أى: الرجوع إلى بلادنا، حيث يمكن أن نعيش فى ظل شرائعنا الخاصة، وأن نجدد البلاد المقدسة، التى اشتهر أجدادنا بما بذلوه فى سبيلها من التضحية. وما أظهروه من الشجاعة والشهامة، فكأنى أراكم الآن ونار الإيمان تضطرم فى صدوركم. فيأيها الإسرائيليون لقد قربت الساعة، التى ينتهى فيها أجل حالتكم التعسة، إن الفرصة الآن سانحة، فحاذروا أن تفلت من أيديكم». هذا هو الخطاب الذى ألقاه أحد حاخامات اليهود، قبل قرن ونصف القرن من قيام دولة إسرائيل، وفيه تتجلى مطامع اليهود فى ضم الوجه البحرى من مصر إلى دولتهم، التى رسمتها لهم خيالاتهم وأحلامهم. 11 وفى خلال القرن التاسع عشر واصل اليهود مساعيهم الكبيرة، واستعملوا وسائلهم المتنوعة من أجل استيطان فلسطين. ففى سنة 1840م سعى يهود أوروبا الغربية للحصول على وعد حكومى من بريطانيا، لإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، فقد أرسل اللورد «شافنيرى» مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا أثناء انعقاد مؤتمر لندن سنة 1840 يطالبه فيها بأن تتعهد بريطانيا بإنشاء دولة لليهود فى فلسطين. وقد نتج عن هذه المساعى الحثيثة أن أعلنت إنجلترا حمايتها لليهود المقيمين فى فلسطين، وأرسل رئيس وزراء إنجلترا حينذاك خطابا بذلك إلى القنصل البريطانى بالقدس، وبعد سنة واحدة على هذا المؤتمر، عقد مؤتمر آخر فى دبلن كان من بين مقرراته «طلب التدخل البريطانى فى سبيل استيطان اليهود بفلسطين». 12 وفى سنة 1854م قام الحاخام الأكبر الإنجليزى، ومعه الوزير اليهودى السيد «موسى مونتفيورى» بحملة ضخمة لجمع التبرعات لشراء أرض فى فلسطين يستوطنها اليهود، وقد جمعوا كدفعة أولى لهذا الغرض أكثر من 30 ألف جنيه. وقد تم فعلا عن طريق هذا المبلغ وغيره شراء بعض الأراضى فى فلسطين، وكان ذلك بمثابة البذرة الأولى فى الأراضى المقدسة. 13 وفى سنة 1856م قام «موسى مونتفيورى» بزيارة لفلسطين، واشترى مزرعة ضخمة للحمضيات قرب مدينة يافا، واستخدم للإشراف عليها عمالا من اليهود فقط، ثم شرع فى بناء عشرات المساكن الخاصة باليهود فى مدينة القدس، وقد عرفت هذه المساكن باسم «ميشوريم» وكان ذلك فى سنة 1858م، وتبعته فى الطريق نفسه أسرة «روتشيلد» المشهورة بغناها، الذى لا يضارع فى العالم كله، فاشترت هذه الأسرة الأراضى الواسعة فى فلسطين، وقدمتها كهدايا إلى يهود أوروبا الشرقية، كى يستوطنوا فلسطين، وهناك كثير من أغنياء اليهود بذلوا الملايين من أموالهم من أجل توطين اليهود فى الأراضى المقدسة. 14 وفى سنة 1869م قامت فى فرنسا «منظمة الإليانس الإسرائيلية» التى كان هدفها نشر اللغة العبرية بين يهود العالم، حتى يشب أطفالهم مشبعين بها، ومتحمسين للعمل من أجل العودة إلى فلسطين، وقد نجحت هذه الجمعية نجاحا كبيرا فى نشر اللغة العبرية، واستطاعت أن تنشئ عدة مدارس، ومستعمرات لليهود فى فلسطين. 15 وفى سنة 1882 وبعد المذابح الكبيرة التى نزلت باليهود فى روسيا قاموا بإنشاء جمعية «عشاق صهيون» التى من أهم أهدافها ترحيل اليهود إلى فلسطين، ويقول «وايزمان» فى مذكراته عن هذه الجمعية: «إن الحركة الصهيونية فى حقيقتها وجوهرها نشأت فى روسيا، وأن يهود روسيا كانوا العمود الفقرى للكيان اليهودى فى فلسطين، منذ قيام الحركة». وعن طريق هذه الجمعية تسللت إلى فلسطين الدفعة الأولى من يهود روسيا، حيث أنشأوا أولى المستعمرات الزراعية بالقرب من يافا، وأطلقوا عليها اسم «ريشون ليزيون» أى: الأولون فى صهيون، ويسميها بن جوريون الهجرة الأولى. إلى هنا انتهى حديث الشيخ طنطاوى عن النقاط التى بذلتها الصهيونية للاستيلاء على فلسطين.