التاريخ اليهودى يحمل فى طياته كثيرا من الجدل والتأويلات. يحتاج إلىفى التاريخ اليهودى ما هو إنسانى، وما هو دينى، ومن ثم يبدو مربكا وشديد التعقيد فى نظر غير الدارسين. ولا شك أن تناول قضية اليهود بالدراسة يثير عدة إشكاليات من أهمها صعوبة الفصل بين المصطلحات، وتقديم تعريف علمى لكل منها. حيث إن الخلط بينها يؤدى مجلدات لشرحه وفهمه، وإلى علماء ومفكرين لفك شفراته وتتبع أحداثه، إذ يتداخلإلى تشويه قد يجرفنا بعيدا عن التفكير العلمى الدقيق. فكيف تستقيم التفرقة بين اليهودى والإسرائيلى، وكيف نفصل الدين اليهودى عن السياسة؟!، وكيف نستطيع أن نفسر ما تقرره اليهودية بالخطأ أن عهد الله مع «إسرائيل» المقصود اليهود، وليس الدولة الإسرائيلية الصهيونية هو عهد دائم وحصرى ولن يبطل، بحسب ما جاء فى سفر التكوين 12: 1 7؛ 15: 4 7؛ 17: 1 8، وسفر اللاويين 26: 44 45، وسفر التثنية 7: 7 8. لذلك حاول الشيخ الكبير الراحل محمد سيد طنطاوى أن يتناول ذلك التاريخ فى دراسة بحثية، وليس مجرد كلام إنشائى دعائى، فخصص رسالته للدكتوراه عام 1969، لتتبع تاريخ بنى إسرائيل وأحوالهم منذ هجرتهم إلى مصر، وشرح منهاج القرآن فى دعوة أهل الكتاب، ووصف مسالك اليهود لكيد المسلمين، وقد ساق طنطاوى عشر وسائل من وسائلهم الخبيثة التى اتبعوها لكيد الإسلام والمسلمين، ثم ختم هذا الفصل ببيان موقف الرسول (ص) منهم، وبحث فيما حدث فى الغزوات بين المسلمين واليهود، مع التعرض لنعم الله على بنى إسرائيل. وقراءة رسالة الشيخ طنطاوى الإمام الأكبر، الصادرة حديثا عن دار الشروق تحت عنوان «بنو إسرائيل فى القرآن والسنة»، تؤكد أن التاريخ اليهودى تاريخ شاق، صعب إمساكه والاهتداء إلى حقيقته، ولكننا سنحاول هنا تقديم خلاصة ما كتبه الشيخ طنطاوى فى دراسته. ولكن يجب الإشارة إلى ما جاء فى الغلاف الخلفى للكتاب، والتى تؤكد أنه «كتب الكاتبون مئات الكتب والبحوث والمقالات عن اليهود وعن فلسطين إلا أن معظم ما كتبوه ينصب على الجوانب السياسية والتاريخية والاقتصادية والعسكرية... أما الجانب الدينى فمازال فى حاجة إلى الكتابة العلمية الرصينة التى تستمد حديثها عن اليهود من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله». فى مبحثه الثانى الذى حمل عنوان: «نظرة مجملة فى تاريخ بنى إسرائيل»، تناول طنطاوى «تاريخهم منذ نزوحهم إلى مصر حتى خروجهم منها خلال القرن الثالث عشر ق.م»، قال فيه: «يرى بعض المؤرخين أن يعقوب عليه السلام هاجر بأهله من فلسطين إلى مصر حوالى القرن التاسع عشر ق.م على أثر ما حاق بفلسطين من مجاعة. والسبب فى ذلك أن أبناء يعقوب كانوا يترددون على مصر بقصد التجارة فتعرفوا على أخيهم يوسف الذى كان فى ذلك الوقت أمينا على خزائن مصر فأكرمهم وطلب منهم أن يحضروا جميعا ومعهم أبوهم يعقوب ليعيشوا فى مصر وقد لبى يعقوب طلب يوسف وحضروا جميعا إلى مصر وكانوا ستا وستين نفسا سوى نسوة أولاده. وقد ذكرت سورة يوسف قصة يوسف مع إخوته». ويكمل الشيخ: عاش بنو إسرائيل فى مصر وطلبوا من ملك مصر أن يسكنهم فى أرض حاسان وهى الآن بلدة صفط الحنة بمحافظة الشرقية فاستجاب لهم ملك مصر وقال ليوسف: أبوك وإخوتك جاءوا إليك أرض مصر ففى أفضل أرضها أسكن أباك وإخوتك. عاش بنو إسرائيل فى مصر ومكثوا فيها والذى دعاهم لذلك ما اكتسبوه من خير وما نالوه من أمن، والذى كان يحكم مصر وقتها هم الهكسوس الذين كانوا فى بادئ الأمر جماعة من الرعاة فى آسيا ثم انحدروا إلى مصر على أثر المجاعات التى حلت ببلادهم وانتهزوا فرصة انحلال الأسرة الثالثة عشرة الفرعونية. ولما تمكن أحمس من الانتصار على الهكسوس وطردهم من مصر وأسس الأسرة الثامنة عشرة، فى القرن السادس عشر بدأت المخاوف تراود بنى إسرائيل ولما قامت الأسرة التاسعة عشرة التى من بين ملوكها رمسيس الثانى بدأ المصريون يجاهرون بعداوتهم لبنى إسرائيل وأخذوا يسومونهم سوء العذاب لأنهم كانوا مغرورين وكانوا يسلبون أموال المصريين بطريقة خبيثة كما أنهم تواطئوا مع الهكسوس ضد أبناء الأمة. وبالطبع حاول الشيخ طنطاوى توثيق كلامه فى تتبع التاريخ اليهودى، من الأفضل القول بأنه التاريخ العبرانى، من خلال آيات القرآن الكريم، حيث أشار طنطاوى إلى أن القرآن حكى فى كثير من آياته نماذج من العذاب الذى أنزله فرعون مصر وجنده ببنى إسرائيل، قال تعالى فى سورة إبراهيم، «وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وكذلك آيات فى سورتى البقرة والقصص. وخلال تلك البلايا التى نزلت ببنى إسرائيل أرسل الله عز وجل رسوله موسى عليه السلام لينقذهم مما هم فيه. وقد كان فرعون مصر قد صنع أصناما صغيرة وأمرهم بعبادتها وسمى نفسه الرب الأعلى ثم بين القرآن ما طلبه موسى من قومه حيث قال «واستعينوا بالصبر والصلاة»، وقال استعينوا بالله واصبروا فما كان من بنى إسرائيل إلا أن استهزءوا بهذه الوصية وقالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. خروج بنو إسرائيل من مصر خرج بنو إسرائيل من مصر بقيادة موسى عليه السلام فى عهد منفتاح بن رمسيس الثانى، وأحصى موسى بنى إسرائيل عند الخروج فوجد عدد الذكور ابتداء من سن العشرين يعنى أن تعدادهم العام كان يزيد على المليون. وقسم الشيخ طنطاوى تاريخ اليهود إلى أجزاء عديدة منها: تاريخهم من خروجهم من مصر إلى تأسيس مملكتهم، وتاريخهم منذ وفاة سليمان عليه السلام إلى خراب أورشليم الأول، وتاريخ اليهود منذ سيطرة الرومان على فلسطين. لكننا سنتوقف عند مبحثه حول «يهود جزيرة العرب وأحوالهم الدينية والاجتماعية»، ففيه قال إن اليهود جاءوا إلى جزيرة العرب بعد تنكيل الرومان بهم، وهذا لا يمنع أنه كان هناك يهود قلة فى جزيرة العرب. وبالتالى فإن يهود جزيرة العرب من أصل يهودى. وعن مساكن اليهود فى المدينة ذكر طنطاوى أن «بنو قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة. وبنو النضير كانت مساكنهم بالعالية بوادى بطمان التى تبعد ميلين أو ثلاثة من المدينة. وبنو قريظة كانوا يسكنون فى منطقة مهزور وتقع على بعد أميال من جنوبالمدينة. ومن بين اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة وضواحيها بطون صغيرة أخرى كبنى عكرمة وبنى ثعلبة وبنى محمر وبنى زعورا وبنى عوف وبنى بهدل وبنى القصيص وغيرهم. ويهود خيبر وكانوا يسكنون على بعد ثمانى برد من المدينة إلى جهة الشام وعلى مقربة منهم كان يسكن قسم آخر من اليهود كيهود وادى القرى وتيماء وفدك». ويختم طنطاوى هذا المبحث الشيق المكتوب بلغة بسيطة: «وكان اليهود أصحاب حرف فكانوا يزاولون الصناعة والصياغة والنسيج وصناعة الآلات الحربية. وكانت لهم مدارس يتدارسون فيها أمور دينهم وأحكام شريعتهم والذين يعلمونهم هم الأحبار وكانت لهم تشريعاتهم ونظمهم الخاصة بهم ولهم أعياد خاصة وأيام خاصة يصومونها». لا يجوز أن نختم عرضنا لدراسة الشيخ طنطاوى المهمة دون التعرض إلى لمكائد اليهود للمسلمين فى الجزيرة العربية، ومن هذه المكائد: مسلك المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، وتعنتهم فى الأسئلة لإحراج النبى، ومحاولتهم الدّس والوقيعة بين المسلمين، ومحاولتهم رد المسلمين عن دينهم، وتلاعبهم بأحكام الله تعالى ومحاولتهم فتنة الرسول، وتحالفهم مع المنافقين ضد المسلمين، وتحالفهم مع المشركين ضد المسلمين، وإيذاؤهم للرسول (ص) بالقول القبيح، واستهزاؤهم بالدين وشعائره، ومحاولتهم قتل الرسول. وعن هذه المكيدة الأخيرة قال الشيخ طنطاوى «لم يكتف اليهود بحروب الجدل، التى حاربوا بها النبى (ص) ولا بحروب الدس والوقيعة، ومحاولة إثارة الفتنة بين أصحابه، ولا بإظهارهم الإسلام فى أول النهار وكفرهم فى آخره، ولا بتحالفهم مع كل مبغض للإسلام والمسلمين، ولا باستهزائهم بالدين وشعائره، لم يكتفوا بكل ذلك من أجل القضاء على الدعوة الإسلامية، وإنما لجأوا إلى وسيلة أخرى، سولتها لهم أنفسهم الغادرة، وعقولهم الحاقدة.. وهذه الوسيلة هى محاولتهم قتل النبى (ص). ولقد ذكر القرآن الكريم المؤمنين بنعم الله تعالى عليهم، وكيف أنه سبحانه نجّى نبيهم محمدا (ص) من مكر اليهود وأذاهم». ويكمل طنطاوى: «فقد أخرج الإمام البخارى، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: «لما فتحت خيبر واطمأن رسول الله(ص) بعد فتحها أهديت إليه شاة فيها سم، فقال رسول الله بعد أن لاك مضغة ثم لفظها : «اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود»، فجمعوا له، فقال لهم حين اجتمعوا عنده: «إنى سائلكم عن شىء فهل أنتم صادقى فيه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان قال: «كذبتم أبوكم فلان» قال الحافظ ابن حجر: أى: إسرائيل يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم «عليه السلام» قالوا: صدقت وبررت، قال: «فهل أنتم صادقى عن شىء إن سألتكم عنه؟» قالوا نعم: يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته فى أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها زمانا يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم: «اخسئوا فيها»، أى: اسكنوا فيها سكون ذلة وهوان والله لن نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقى عن شىء إن سألتكم عنه؟» فقالوا نعم. قال: «أجعلتم فى هذه الشاه سما؟ نسب إليهم الجعل لأنهم لما علموا به لم ينكروه قالوا: نعم: «فما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك. وإن كنت نبيا لم يضرك». وبهذا نرى أن اليهود حاولوا قتل الرسول (ص) أكثر من مرة». وكتب طنطاوى فصلا شيقا بعنوان :»تأديبُ اليَهود»، قال فيه : «1 بينا أن اليهود قد حاولوا بكل وسيلة القضاء على الدعوة الإسلامية، ووضحنا أنهم قد سلكوا لبلوغ غايتهم مسالك متعددة، منها: طعنهم فى نبوة النبى واستهزاؤهم بالإسلام وشعائره، وإثارتهم للشبهات، لتشكيك المسلمين فى دينهم، وعملهم على تفريق كلمة المؤمنين، وتصديع وحدتهم.. إلى غير ذلك من المسالك الخبيثة، التى تحدثنا عنها بالتفصيل فى الفصل السابق. وقلنا: إن النبى تحمَّل سفههم، وصبر على أذاهم ومكرهم، وجادلهم بالتى هى أحسن، رغم تطاولهم، وسوء أدبهم، ولم يوجف عليهم بخيل ولا ركاب، أملا فى هدايتهم، واستجابتهم للحق، الذى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ولكن اليهود لم يقابلوا الجميل بالجميل، بل قابلوا حلم رسول الله بالإمعان فى التمرد، والغدر والإساءة، فقد انتقلوا من نطاق جحود النبوة، وتشكيك المسلمين فى صحة دين الإسلام إلى نطاق الغدر، ونقض العهود، والمجاهرة بالكراهية، والاستنكار لما يصيب المسلمين من خير. فعندما حصلت غزوة بدر، وخرج المسلمون منها منتصرين ظافرين، ظنوا أن هذا النصر سيقابل بالسرور والارتياح من جانب اليهود، لأنهم أهل كتاب وجيرانهم فى الدار، وحلفاؤهم بمقتضى المعاهدة التى تنص على أن يقفوا بجانب المسلمين فى الدفاع عن المدينة. ولكن اليهود كُبتوا لهذا النصر، وشككوا فى صحته، وذلك أن الرسول قبل أن يعود بجيشه إلى المدينة بعد الانتهاء من غزوة بدر، أرسل «زيد بن حارثة، وعبدالله ابن رواحة» رضى الله عنهما ليبشرا أهل المدينة بنصر المسلمين، وعندما وصلاها أخذ «عبدالله بن رواحة» ينادى فى الناس، ويعلن فوز المسلمين، ويذكر أسماء قتلى المشركين، وصدّقه «زيد بن حارثة» فيما قاله، وكان ممتطيا «القصواء» ناقة الرسول، واستقبل أهل المدينة هذه الأخبار السارة بالتهليل والتكبير، إلا أن اليهود أفزعتهم هذه الأنباء السارة وأذهلتهم، فصاح بعضهم: أيها الناس إن محمدا قد قتل وأصحابه قد هزموا، وهذا ناقته نعرفها جميعا، ولو أنه انتصر لبقيت عنده، وإنما يقول هذان ما يقولان هذيانا من الفزع والرعب، ولئن كان ما يقولانه حقا لبطن الأرض خير من ظهرها، بعد أن أصيب أشراف الناس وساداتهم، وملوك العرب، وأهل الحرم والأمن. ولم يكتفوا بهذا بل سافر بعضهم إلى مكة؛ لينشد الأشعار فى رثاء قتلى المشركين، وليحرض قريشا على أن تأخذ بثأرها من المسلمين.وهكذا كشف اليهود عن حقدهم الدفين، وعداوتهم الصريحة للمسلمين، بعد أن انتصر المسلمون فى بدر، وظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أول من كشف عن دفين غله وضغنه، واستهزأ بالإسلام وأهله، هم يهود بنى قينقاع الذين يقيمون داخل المدينة، وبيوتهم تلاصق بيوت المسلمين، فهم لم يكتفوا بالدسائس والمؤامرات يحيكونها ضد الإسلام وأتباعه، بل تطاولوا على عرض امرأة مسلمة، قدمت بجلب إلى سوقهم لتبيعه وجلست إلى صائغ منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ وكان يهوديا فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، ووقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع. أدرك الرسول أن اليهود بعملهم هذا لا يبتغون الفتنة فقط، بل يريدون بجانب ذلك محاربة سلطانه، ونفوذ كلمته، وتصديع دولته، وإظهاره هو ومن معه من المسلمين بمظهر العجزة عن أن يردوا اعتداء نزل بهم، أو شرا أصاب عرضهم وشرفهم، ولو تم لليهود ما يؤملون لهانت دولة المسلمين، ولطمع فيهم أعداؤهم، وهذا ما يأباه المسلمون كل الأباء». أما الجزء اللافت للنظر فى دراسة الشيخ طنطاوى بحثه عن الغزوات بين المسلمين واليهود، مع التعرض لنعم الله على بنى إسرائيل، فلسطين والغزو الصهيونى لها فى مراحله المختلفة، وبيان أهم الأسباب التى أدت إلى كارثة فلسطين، وهو ما سنعرضه فى الحلقة المقبلة.