القارئ العجول لن يجد منطقاً لهذيان الراوي في رواية "سلك شائك" للروائي الراحل خيري عبد الجواد، والصادرة مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية. منطق الهذيان يتضح بعد مدة من القراءة. نحن نقرأ هذيان مريض، نزيل إحدي المستشفيات العسكرية. الرجل الذي لا يعرف نفسه، ولا يعرف ما جاء به إلي هنا، هو بطل الرواية. سيتضح أن هذا البطل شهد، دون أن يدري، علي عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات. المريض والبطل والراوي، سيتضح أن اسمه جمال، وهو هارب من أداء الخدمة الوطنية، يتم اعتقاله، وحبسه، فيقوم أحد الضباط الصغار بإخراجه من الحبس ليكون عسكري مراسلة له، هذا الضابط الصغير هو خالد الإسلامبولي.. هكذا يكشف السرد التقليدي لحكاية المريض أن بطلنا سيكون قريباً من شخصية الرجل العسكري الذي اغتال رئيس الجمهورية. يحاول صاحب "العاشق والمعشوق" أن يصوغ مبرراً للإغتيال، فلا يجد إلا الانتقام الشخصي من صانع الانفتاح الاقتصادي، واتفاقية السلام . مع الأسف لم يمنح عبد الجواد هذه الشخصية المساحة الكافية للحديث، لتبرير جريمتها، خيط خالد من أضعف خيوط الرواية.. يكتبه كأنه يسرد سيرة بطل، لا خلاف عليه. كان مقتنعاً بضرورة القتل، وتلقي مصيره كشهيد للحقيقة فقط.. لماذا يدخل الكاتب المشعول بالتراث عبر السلك الشائك؟ بالطبع يمكننا أن نصف هذا الخيط بأنه مفتعل، دون أن نشعر بتأنيب الضمير في حالة القراءة العجولة، لكن القراءة المتعمقة للعمل لن تنجذب لخيط خالد بمفرده، لكنه إذا تركناه كما أراد الكاتب بأن يكون مُتداخلا مع خيوط أخري سنجد أن حكاية الاغتيال الذي جري عام 1981 تلتقي مع القتل الدموي للنساء في ألف ليلة وليلة، أو حكاية سليمان الحلبي الذي اغتال كلييبر هكذا يمتزج هذا الخيط الضعيف مع خيوط أخري فتكون المعالجة الدرامية لحادث اغتيال السادات كما لو أنها معالجة بطريقة التراث..هكذا يتزامن التحقيق مع خالد الإسلامبولي مع ما قاله طالب الأزهر الحلبي قبل خوزقته. الخيط الذي قد نراه ضعيفاً يبرز القوة في جانب آخر وهو الجانب الخاص بالحكاية ككل، حيث يكون البطل الحقيقي، للعمل، هو الحكي أي قدرة خيري عبد الجواد علي جذب القارئ إلي الحكايات المكثفة البديعة عن "فرط الرمان"، و"حكاية ست تتر، أمها القمر، وأبوها الشمس، وأخوها علي ملك البحر" مثلا. تبرير أخير للسياسة الرواية، في مضمونها، ليست رواية عاطفية عن خالد الإسلامبولي، أو رواية تستغل الموضوع السياسي لتجذب القارئ، العنوان _ "سلك شائك"- يكشف تخوف المؤلف من دخول هذه المنطقة أساسا. نحن أمام رواية عن قصة حب، الراوي يبحث عن امرأة يحبها، ويجدها، لكنها تتركه للسفر إلي لندن. قصة حب عادية، صاغها خيري عبد الجواد كما عودنا في قالب تراثي، حيث يحكي لها البطل حكايات أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة. حكايات جميلة، لا تخلو من طرق الحكي المشهورة لشهرزاد، وإن كان خيري قد صاغها بطريقة مختلفة، فالحكاء هنا هو شهريار، وليست شهرزاد. شهرزاد تستمع الآن للحكايات.. في إحدي الحكايات، تتزوج امرأة جميلة كل فترة من رجل جديد، وتذبحه في ليلة العرس، لأنه لا يستطيع أن يلتقط كل حب الرمان الموضوع علي السرير.. هكذا يبدل خيري ثوابت الحكاية العربية. ما علاقة هذه الحكاية العاطفية بخالد؟ سؤال سيتبادر إلي ذهن القارئ، والإجابة عليه أن مفاتيح الرواية لا تحضر بسهولة في يد القارئ، فنحن نكتشف رويداً رويداً، أن مشكلة الحكاء ليست الذاكرة، رغم أن خيانة الذاكرة لحكاء قد تكون الخيانة القاتلة لشخص علي هذه الشاكلة، لكن أزمة جمال، الذي فقد ذاكرته، وتطارده الآن هذه الذكريات، والنساء علي امتداد صفحات الرواية، ليست أزمة ذاكرة، وإنما أزمة إرادة هكذا يكتشف القارئ أن آخر الأزمات التي صاغها عبد الجواد في رواية - (كتبها عام 2000) - كانت أزمة البطل دائم الهرب، وما كان اقترابه من شخصية خالد إلا دافعه للتوقف عن الهرب، ومحاولته الأخيرة للصمود، والمواجهة.. والسفر لحبيبته في لندن ليبدأ حياة جديدة..هكذا تنخرط- أخيرا- جميع خيوط حكاية خيري عبد الجواد في خيط واحد، ليخرج القارئ منها مستمتعاً بالحكاية، ومتفهماً أن الموضوع السياسي الساخن، لم يكن إلا عامل جذب ضعيف الوجود في الحكاية، لكنها استطاعت أن تهضمه جيداً،وتشذبه، ولا تتركه ناتئاً عنها. الرواية كتبت عام 2000، ولم تنشر إلا هذه العام عن الدار المصرية اللبنانية، بعد رحيل كاتبها.