إن الحرية المطلقة التي تمارسها الأديبة المصرية سلوي بكر في مجمل أعمالها القصصية والروائية تجعلنا نقرأ تلك النصوص بعين الناقد لا القارئ العادي لأنها تقدم معطيات وثائقية تظهر المدي الواسع الذي يجب أن تتحرك فيه الموجة الأدبية، دون التخفي وراء أقنعة وهمية في عملية الكتابة وقد ارتأينا في هذه المقالة أن نقف عند روايتها الموسومة ليل ونهار التي دفعتنا منذ أولي صفحاتها لنتساءل كالآتي هل كتبت المبدعة سلوي بكر هذا العمل الروائي لكشف خبايا مهنة الصحافة إجمالا، وهذا جاء بناء علي جملة في الصفحة الأولي تشد الانتباه أين نقرأ ما يلي: لا حماس في روحي ولا شعور بأي أمل، لا شجر أستظل به في الطريق غير شجرة اليأس المورقة، المزدهرة دوما في داخلي، علي رغم ما تطالعني به الصحف كل يوم كل شيء في تمام التمام وطن حر وشعب سعيد. (ص 50) من سيقبل علي قراءة ليل ونهار سيكتشف أن البطلة سوسن أبو الفضل تعمل كصحفية في مجلة تحمل نفس عنوان الرواية (ليل ونهار) وهذه الأخيرة لا تهتم إلا بنجوم السينما والمجتمع، وتفاصيل الحياة الشخصية الفارغة لكل منهم كما نقرأ علي لسان الساردة: مجلة ليل ونهار مطبوعة تصدر يوم الخميس من كل أسبوع، وهي تتشابه وعشرات المطبوعات الأخري المعروضة في سوق الصحافة، طباعة فاخرة علي ورق لامع مصقول، إخراج جذاب مبهر، ومادة رخيصة تافهة تعتمد علي أخبار نجوم السينما والمجتمع في الأساس وتلهث وراء تفاصيل الحياة الشخصية واليومية لهم بكل ما فيها من خفايا وأسرار، وتروج المجلة لكل ما هو بذيء ورخيص في حدود ما يسمح به القانون. (ص 33). إذن تفتتح رواية ليل ونهار حديثها عن شخصية رئيس المجلة حسن عبد الفتاح الذي وصفته المبدعة سلوي بكر بالسمسار الجبار وكأنها تستنطق عينة لا تزال موجودة للأسف الشديد في وطننا العربي المعروفة بنواياها الخبيثة بشكل عام: ...حسن عبد الفتاح أراد توريطي في عمل قذر، وحتي إذا لم يكن حسن علي علم بكل هذه التفاصيل، والهدف من ورائها، فهو في النهاية متواطئ مع هذا المنجز أبو السريع، ورئيس التحرير من المحتمل أن يكون قد طبخها معه في الكواليس أيضا. (ص 11). و من تم تنطلق الصحفية سوسن في سرد أحداث ثيمة الرواية التي تتمثل في موضوع مسابقة، حيث أطلقت العنان لأفكارها محاولة معرفة سر خفي سيجعل كل مشترك يتقدم بفكرة جديدة قابلة للتطبيق الفوري إلي الحصول علي مبلغ مالي قدره مليون جنيه، وهذا لأن فكرته ستعود حتما بفائدة كبيرة للمجتمع والناس. وكلنا يعلم أن الوصف عنصر جمالي يتصل بالبنية الروائية، وهذا ما وظفته بكر ببراعة في أول مقابلة جمعت بطلتها الصحفية بصاحب مشروع المسابقة زاهر كريم كونها المسئولة عن بريد القراء: ..أتخيل الرجل القادم للقائي كمعظم رجال الأعمال، والوزراء، والرؤساء، وكل الشخصيات الأخري المتسلطة في البلد، والتي تظهر صورها دوما علي صفحات الجرائد وقنوات التليفزيون قبيح، أصلع، بكرش منفوخ، وشفاه رقيقة، ونظرات عنيفة متوعدة. تنهدت مرة أخري في محاولة مني للاستعداد لابتلاع جرعة إضافية من القرف المزمن في حياتي. (ص70). إن لغة الوصف ترسم ملامح الشخصية وتستنبط دواخلها، كما أنها تجسد المكان أيضا وتصف بدورها الزمان. وعلي سبيل المثال نذكر ما جاء في تجسيد المكان ما يلي: أدخلتني السكرتيرة إياها هذه المرة إلي حجرة مكتبه، حجرة فسيحة أنيقة، تحتوي علي مجموعة أثاث مكتبي قديم، خشب محفور علي الطراز الهندي، حيث غلبت التوريقات النباتية والأشكال الحيوانية، لوحات فنية علي الحوائط. في مواجهة مكتبه علي الحائط خريطة قديمة لمصر داخل إطار خشبي قديم مشغول بالصدف والفضة، وعندما فتح الباب ودخل، كنت أحاول قراءة حروف مواقعها الباهتة الدقيقة، وأخمن الزمن الذي رسمت فيه. (ص 26). فضلت سوسن أبو الفضل الهروب من مسئولية المسابقة متحججة بتحضيرها لرسالة ماجستير تتطرق فيها لجملة المشاكل الاجتماعية المعاصرة من خلال بريد القراء في الصحف والمجلات لكن زاهر كريم استعمل لعبة المكافأة لإيقاعها في شباك الاستسلام لفرصة العمر حيث نقرأ مايلي: - أنا قررت للصحفي الذي سيقوم بهذا العمل مكافأة من عندي، رصدت عشرة آلاف جنيه كمكافأة لعملية الفرز والتصنيف. (ص 13). حاولت المبدعة سلوي بكر إبراز ملامح الوعي لدي البطلة في مرحلة يسميها النقاد بمرحلة "ما قبل الكلام، وكأنها تحاول بطريقة أخري الكشف عن الكيان النفسي للشخصية ونذكر المثال الآتي علي لسان الساردة: يبدو لي وكأنه مطب كبير، وأنا لا أحب المطبات ولست بقادرة عليها.. لا. علي التوقف بسرعة وإلا سأدخل في حكاية لا يعلمها إلا الله." (ص 31). وظفت بكر الرمز كتكنيك تعبيري غير مباشر عن الخبايا النفسية، ورواية "ليل ونهار" تأسست حسبما نستخلصه من تكرار قراءتها من هذا الجانب، حيث نذكر المثال الآتي عن سر مسابقة "زاهر كريم" : "...كنت أتعامل مع الناس والأشياء هنا كسائح يستمتع بقضاء وقت في بلد له نكهته الخاصة، لكني بعدما انخرطت في دنيا الأعمال، اكتشفت أنني أعرف بالكاد شيئا قليلا عن هذا البلد، الذي أحاول الانتماء إليه، لذلك بدأت أختلط بالناس في مجالات ومستويات اجتماعية مختلفة، لكني فوجئت بأنني كلما توغلت في معرفة الناس أكثر، زاد جهلي بهم، وبدت لي هذه المدينة متعددة الأقنعة، بالأحري، هي مدينة تمتلك عددا هائلا من الأقنعة التي كلما خلعت قناعا منها عن وجهها فوجئت بقناع سري جديد يختبئ تحت القناع المخلوع، لقد صاحبت حشاشين، وأناسا نصابين، وعاهرات في ملاهي الدرجة العاشرة، وعرفت متسولين، وباعة جائلين، وأناسا من الطبقة الوسطي، كما عشت لشهور في الريف بين الفلاحين، وصعدت شمالا حتي أتعرف علي حياة الصيادين، لكني ما تمكنت من معرفة الناس هنا أبدا، حقيقتهم التي يمكن أن تقودني إلي حقيقتي." (ص 44). ومن هنا نستخلص أن لغز المسابقة هو سعي صاحبها لمعرفة كيف يفكر الناس في يومياتهم، محاولا اكتشاف مشاكلهم وهمومهم وآمالهم وأمنياتهم، وهذا ما تركز عليه "كاتبة المهمشين" سلوي بكر في مجمل أعمالها الأدبية بشكل عام. والواضح في الرواية أن بكر تريد رفع النقاب عن بعض الأمور الخفية في المجتمع عموما وفي مهنة المتاعب علي وجه الخصوص حيث نقرأ علي لسان "سوسن" مايلي: "- حسن عبد الفتاح كذاب كبير، ونموذج للصحفي الوقح، كل مهنة فيها أناس أمثاله لا يتورعون عن عمل أي شيء. مستحيل أن تتدخل أية جهة مهما كان وضعها في المسابقة. أنا واثقة أن حسنا يعمل لحسابه وكل الخطابات التي جاءني بها، لا يعقل أن تكون صادرة عن جهات عليا أو جهات سفلي. في تقديري أن حسنا هو الذي ألف هذهالخطابات بنفسه أو ربما بالاتفاق مع رئيس التحرير." (ص 73). وفي مثال آخر علي لسان "زاهر" نقرأ كذلك: "- تصوري؟!. مستشفي حكومي كبير ومشهور دون أدني استعدادات. اضطررنا إلي شراء كل شيء من خارج المستشفي، والولد دمه نازف في غرفة العمليات حتي القطن الطبي والشاش، والمطهر وخيوط العملية والحقن، اشترينا كل ذلك من خارج المستشفي، والمصيبة أنه لا يوجد دم في المستشفي، لكن ربنا ستر، وظهر أن فصيلة دمي مناسبة له..." (ص 71). استعانت المبدعة سلوي بكر بتكنيك الكتابة السينمائية حيث نجد مقاطع تصويرية تتوزع علي مشاهد ولقطات واسعة ونذكر في هذا المضمار الآتي: "- العم حسين نموذج ينتمي إلي زمن راح وانقضي، كان كل شيء فيه ثابتا، راسخا، هذا الزمن انتهي تماما. كمية التغيرات واللخبطة في كل نواحي الحياة الآن، مذهلة جدا، كأنها طوفان قلب الدنيا وجاء بنماذج من نوع حسن عبد الفتاح لتهيمن وتكون علي السطح، العم حسين من زمن قديم، أثر من زمن كان وتبدد." (ص 77). ما يشد الانتباه خلال تتبع الأحداث وتواليها هو وقوع البطلة "سوسن" في غرام "زاهر" فهي تراه فارس أحلامها بلا منازع حيث نقرأ علي لسان الساردة ما يلي: "أريد أن أطير، أن أركب الريح، أن أغمض عيني وأفتحهما فأجده أمامي لأكون معه بعيدا عن حسن عبد الفتاح والسجل المدني، وضجيج الشارع، والحر، والتراب، ووساخة الطريق. أنا بالفعل أحتاج إلي إنسان، أحتاج إلي هذا الرجل علي وجه التحديد، إني مغرمة به تماما، علي رغم كل جنونه، وشخصيته الغريبة ومزاحه غير المفهوم بالنسبة إليَّ." (ص 68-69). تجدر الإشارة إلي مسألة حساسة وهي موضوع الجنس الذي أرادت المبدعة سلوي بكر التطرق إليه بشكل غير مباشر لأنه لا يزال من مواضيع التابوهات الممنوعة في الوسط العربي وقد جاء في خطاب لأحد المتسابقين كما يلي: "والغريب أن الجميع في المجتمع يحاولون الظهور بمظهر غير المكترث بالجنس، بينما هم غارقون في المشكلة حتي آذانهم، فأنت إذا ما جبت بسيارتك شوارع المدينة قرب منتصف الليل، فلسوف تكتشف أن معظم سكانها غائبون داخل غرف النوم، ولو عرفت حجم المشاهدين لأفلام الجنس يوميا، بعد أن ينام الأطفال، فسوف تذهل حقا، إن الليل هو الوجه الآخر لأولئك الوقورين والمحتشمين، الذين تراهم في المدينة خلال النهار." (ص 57). وأما في آخر صفحات رواية "ليل ونهار" سيكتشف القارئ الملاحظ مسألة التزوير التي وقعت في شأن الفائز بالمسابقة وهي مجرد صورة من مجمل الصور التي نعيشها في وطننا العربي حاليا كما تقول الساردة: "أعلن رئيس مجلس إدارة المؤسسة اسم الفائزة بعد أن أمسك بالميكروفون، كان اسمه إبراهيم حفني عبد السلام، عن رسالته التي تطالب بإنشاء جمعية تهتم بضحايا الزلازل والسيول. بهت، إذن فقد تلاعب حسن عبد الفتاح ورئيس التحرير في نتيجة المسابقة، وخدعا زاهر كريم." (ص 101). وفي الختام، يمكن إن نقول أن هذا العمل الروائي للمصرية سلوي بكر يدخل ضمن إطار سوسيولوجيا الأدب لما يعكسه من تيار الوعي من منطلق اللاوعي الاجتماعي داخل المتخيل السردي، خصوصا أننا وقفنا أمام وثيقة اجتماعية صادقة استجلت العديد من الوقائع والأحداث التي بات يعيشها الوطن العربي، وقد عبرت عنها "كاتبة المهمشين" بأسلوب فني وبلاغي جميل يستحق أكثر من وقفة.