فتح باب التظلمات للطلاب الغير ناجحين بإمتحانات القبول بمدارس التمريض بقنا    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أسعار النفط تتجه لإنهاء موجة خسائر استمرت أسبوعين مع تعثر جهود السلام في أوكرانيا    جوتيريش: المجاعة في غزة فشل للإنسانية نفسها    كندا تلغي الرسوم الجمركية الانتقامية على منتجات أمريكية وتُبقي على الصلب والسيارات    باريس سان جيرمان يواصل انتصاراته في الدوري الفرنسي بفوز صعب على أنجيه    معلق مباراة برشلونة وليفانتي في الدوري الإسباني    تعرف على نتائج مباريات اليوم في افتتاح الجولة الأولى بدوري المحترفين    موعد إقامة قرعة بطولة كأس العالم 2026 لكرة القدم    حادث مروع أعلى الطريق الأوسطي بالشيخ زايد يسفر عن مصرع واصابة 13 شخصًا    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    القضاء يسدل الستار على قضية توربينى البحيرة.. تفاصيل حكم جنايات دمنهور بإعدام صاحب كشك بكفر الدوار بتهمة الاعتداء على 3 أطفال وتصويرهم بهدف الابتزاز.. رئيس المحكمة يطالب الأهالى برعاية أولادهم    رئيس نقابة السكة الحديد: يقظة خفير مزلقان بني سويف أنقذت شابًا من موت محقق    «ويجز» يضيء ليالى مهرجان العلمين الجديدة    شقيق شيرين عبد الوهاب يعلق على أنباء عودتها لحسام حبيب    مصدر أمني ينفي شائعات إخوانية بشأن وجود انتهاكات بمركز للإصلاح والتأهيل    رابطة الأندية تعلن تعديل مواعيد وملاعب 7 مباريات في الدوري    السفير حسام زكي: التحركات الإسرائيلية في غزة مرفوضة وتعيدنا إلى ما قبل 2005    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    مستقبل الدور الفرنسي في إفريقيا بين الشراكة والقطيعة    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    بادشاه لسعد القرش.. قصص فلسفية شاعرية تشتبك مع القضايا الكبرى    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    حماس: تصريحات كاتس «اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي»    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    ضبط ورشة بها 196 قطعة سلاح في الشرابية    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    ضبط 400 قضية مخدرات وتنفيذ 83 ألف حكم قضائي خلال يوم    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    ضبط المتهمين بالتسول واستغلال الأطفال أسفل كوبري بالجيزة    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية. التاريخ. السيرة: دراسات في السرد الروائي
نشر في صوت البلد يوم 07 - 07 - 2012

ننشر مقدمة كتاب للدكتور إبراهيم خليل بعنوان "الرواية. التاريخ. السيرة؛ دراسات في السرد الروائي" ؛ والذي سيصدر خلال أسابيع قليلة ..
استوقفتْني- ذاتَ يوْم- عبارةٌ لكاتبةٍ روائيّة تحتلُّ موقعًا مَرْموقًا، تقولُ فيها على لسان ِالبَطلة الساردَة: " لم أذق تلك الليلة طعم النوم. غفوتُ ثلاثَ ساعاتٍ فقط ". فأمّا الذي استوْقفني، فهو الجُمْلة الثانية، التي تناقضُ الأولى. فأنْ يغفو الإنسان ساعاتٍ ثلاثاً شيءٌ لا يتفق مع التعبير المبالغ بهِ عن الأرَق. وهذا الخطأ الصغير ينسحبُ على "الحبكة"، فهو نموذجٌ للخطأ الشائع، والإخفاق المُتواتِر، في كتبٍ تُكتبُ، وتنشرُ، وتصنَّف، في عِداد الروايات. وهذا يذكرني برواية لكاتب مصري كبير هو محمود تيمور بعنوان "سلوى في مهب الريح" ذكر فيها أن بطل الرواية تلقى رسالة من بيروت، عليها طابع بريد لبناني مزدان بشجرة الأرز، مع أن حوادث الرواية تقع في أيام كانت فيها بيروت مركز ولاية عثمانية.
ووقعتْ بين يدي رواية أخرى لكاتبة معروفة جدًا تشيرُ على غلاف الطبعة الثانية منها، وتنوه شاكرة، بمزيدٍ منَ العرْفان، لجلّ الذين أشادوا بها، ولما كتبوه عنها من مقالاتٍ في المجلاتِ، والصُّحُف. وفي أثناء قراءتي لها استوقفني موقفٌ عجيبٌ وغريبٌ، فإحدى الشخصيّات الرئيسة تعيشُ في اسْطمبول زمَن السلطان عبد الحميد الثاني، وتروي حدثاً عن مقابلتها لأحد الوزراء الإسرائيليّين. كأنّ الكاتبة لا تعلم أنّ "إسرائيل" لم تكنْ قد وجدتْ- بعدُ - في ذلك الزمان. وهذا الخطأ أكبرُ من السابق، كوْن المؤلفة تكتبُ رواية تاريخيّة، ومعلوماتُها في التاريخ ليست موْضع شكٍّ فحَسْب، بل يصعُب أنْ نتصوّر منْ تبلغ به السذاجة حدّ الجهل بهذهِ الحقيقةِ المَشْهورَة.
ولا أحْسبُ أنَّ فينا من يدّعي الحرْصَ على كتابة الروايَة كتابة صحيحة أكثر من الروائيّين، بيْدَ أنّ بعضهم يتعجَّلون. فهذه رواية فازتْ بجائزة المُبْدعات العربيات سنة 2000 عنوانها " أنثى العنكبوت" (1) فيها من التشتّت، والانفلات، في خيوط السرْد، ما يستطيع أنْ يلمحه كلّ من كان لديه حظٌّ قليلٌ من الدراية بهذا الفن. فالمؤلفة تروي على لسان البطلة أنّ حبيبها (سعدًا) أوصلها بسيارته إلى بيتها، وهي تكادُ تموتُ خوفاً من أنْ يراهما أحدٌ، ثم فوجئتْ، عند نزولها من السيارة، بأبيها القاسي يبصرُهما، وبدلا من أنْ تروي لنا الساردة ردودَ فعْل الأب، التي يتوقعها القارئ، وهي أنْ يقوم بضربها ضربًا مبرّحًا كعادته التي سَبَق التنويهُ إليها مرارًا، وتكرارًا، في الرواية، تتلقى خبرًا عن نقل شقيقها حَمَدَ من عمله نقلا تأديبيًا. فتنسى ردودَ فِعْل الأب، وتواصلُ الحديث عن أسباب نقل(حمَد) وعن رجوعه مصحوبًا بزوجته التي لم تنجبْ له أطفالاً، على الرغم من تردّدهما على الأطباء، مِراراً. ثم تنتقل- فجأة- للحديث عن الصفْع، والرّكلِ، واللكم، الذي تجلى في رُدودِ فعْل الأب على ما رآه. لتعود مرة أخرى لحكاية الزواج، والإنجاب. وبذلك ُتدخِل حكاية بأخرى، وإحداهما تكاد تكون أجنبية عن الثانية، لذا تظلّ (الحبْكة) مضطربة أشدّ الاضطراب، مفكّكة أكبر تفكك. فالأبُ يخاطب سعدًا الذي جاء خاطبًا(أحْلام) قائلا: ليس لديَّ فتيات للزواج، إنسَ الأمْرَ. ولا تعدْ إلى هنا مرَّة أخرى، وإلا طردْتك. " ثم يقولُ له، بُعيْدَ ذلك: " ابنتي زفافُها الشّهْر القادم، اعتبرْ نفسك مَدْعوّاً مُنذ ُالآن. "
تهديدٌ بالطّرْد، ودعْوةٌ، كيفَ يَسْتقيمُ هذا؟ .
تروي الكاتبة قماشة العليان في الرواية المذكورة الكثيرَ من الحكايات، فثمة حكاية لبدْرية، وحكاية لندى، وحكاية للأمّ، ورابعة لصباح، وخامسة لصالح، الذي توفّي ابنه الصغير بالسرطان، وأخرى لِحَمَد، الذي يتمنّى أنْ يصبح أبًا، ولزوجته أنْ تكون ولودًا. وحيثما ذُكرتْ امرأة، فلا بدَّ أنْ يكون لديها خمسة أطفال، لا ستة، ولا أرْبَعة. ويجبُ على الساردة أنْ ترْوي مأساة المرأة حيثما ظهرتْ، ولو عابرة سبيل في أفق الحكاية الرئيسة، حتى تتخمَ الرواية، وتتحوّل إلى ما يشبه الألبوم الذي تتكدَّسُ فيه صورٌ لنساء ظلمَهُنَّ الآباء، أو ظلمهن الأزواج، أو ظلمهنَّ المجتمع الذكوري بالطبْع. وذلك شيءٌ بولغ به كثيرًا، حدّ الوقوع في الإحالة الفِجّة، التي تنافي مبدأ الانطلاق من مَرْجعيّات تحيلُ إلى واقع.
شيء لا يصدق
ومما يُذكرُ أنَّ أحد النوابغ كتبَ في مُذكّراتِهِ، يقول: إنه قضى سنواتٍ عشرًا في قراءة كتاب" رأس المال" ولم يفهمه على وجه الدقة على الرغم من تخصصه في الاقتصاد السياسي، ولكنّ بطلة الرواية "خارج الجَسَد" لعفاف بطاينة، استطاعتْ في أسابيع، أو أشهر، على أكبر تقدير، أن تكون موسوعة متحرّكة تضمّ كلَّ المعارف، بما فيها " رأس المال " وغيرهِ، من مؤلفات ماركس، ألا يبدو هذا مُضْحكاً؟ تكتب على لسان البطلة، بعد وقت قصير من معرفتها بستيوارت، قائلة: " هذا الوجه أدْخَلني إلى رَحِم ِالمعرفة، وثّق علاقتي بنفسي، وبالعالم من حولي. عرفتُ على يديه أكوينس، وبيكون، ومِلْ، وديكارت، وكانتْ، وكونراد، وماركس، وموليير، وبلزاك، وسميث، وبيرغسون، والكتاب المقدس، وسيرفانتس، وتشيكوف، ودانتي، وسبينوزا، وفولتير، وولف، وفتزجرالد، وفرويد، وهيجل، وهايدجر، وكافكا، وتولستوي، عرفت منْ سَأعْشقُ كلماته فيما بعد؛ نيتشة، وعرفت معه سيد الغواية؛ زرادشت " (2). وفي ظننا أنّ ذاكرة المؤلفة لو أسْعفتها بأسماء أخرى لما توانت عن ذكرها قط. وإذا كان هذا ما عرفته البطلة عن طريق ستيوارت هذا في أشهر معدودات، فما الذي ستحيط به علمًا بعد أنْ تمرّ على علاقتهما سنة، أو سنوات؟.
وعلى الرغم من أنّ زينب حَفْني(3) كاتبة متمرّسة في كتابة القصة القصيرة، والرواية، إلا أنّها هي الأخرى تقع في المنزلق ذاته، ففي روايتها "ملامح"2006 تروي على لسان(حسين) زوج الساردَة (ثريّا) أنّ يمنيّاً قطن بجوارهم في جُدّة عندما كان في الخامسة عَشْرَة من عمْره، وهي تذكر في موقع سابق أنه - في ذلك الحين - كان في حيّ المنشية بمكة، وأنه كان يدير الدكانَ التي استولى عليها عمُّه بُعَيْد وفاة أبيه. وفي موقع تالٍ تذكر- على لسانه هو - أنه انتقل للإقامة في جدة بعد أن أتمَّ الدراسة الثانوية، ولضيق ذات يدهِ لم يتمكن من الالتحاق بالجامعة الخاصّة التي ظهرتْ فيها، وهي جامعة الملك عبد العزيز، وكانَ عمْرهُ - عند الانتقال إلى جدة - ثمانية عشرَ عامًا، فتقدّم بطلب لدائرة الجوازات، وَعُيّن في منصب مناسبٍ لمُؤهّلاته المحدودة.
وفي ص 85 تذكُر أنّ (حسين) طلبَ من زوجته (ثريّا) الاتصال الهاتفي بمديره لمساعدتها في استقدام خادمةٍ من مصر، ليكون ذلك وسيلة للتقرّبِ منَ المدير، مع أنَّ المؤلفة أفهَمَتنا على لسان (ثريّا) - في السابق - أنّها فُوجِئَتْ بزيارة المدير لمنزلهما بصحبة زوجها حسين. ومن المشكلات التي تطفو على سطح الحوادث في رواية "سَقر" لعائشة عبد العزيز الحشر – من السعودية- أنها، مع نجاحها في جعْل الحبكة الأساسية للقصة هي(حبّ مَها وعبد الله) ووقوف الأب الشيخ عبد الرحمن حاجزًا دون تحقيق الهدف، وعائقا دون تمْرير المُخطَّط السرْديّ الذي أراداهُ، وهو الانتهاء بالحوادث نهاية سعيدة، على طريقة الأفلام الرومانتيكية: الزواج- تارة بمعاقبة الفتاة، عقابا بدنيًا شديداً، أو عقابًا معنويًا بالحبْس، والمَنع منَ الطعام، والشّراب، لمُددٍ محدودة، وتارة بإكراهها على الزواج من آخر،لا تريدُهُ، وهو "محمد" فتلجأ تجنّبًا لهذا المصير للانتحار مرَّتين. وفي المرّتيْن يجري إنقاذها في اللحظة الأخيرة. نقولُ: على الرغم من ذلك كلهِ، نجدها تنسجُ مقابل هذه الحبكة، واحدة أخرى تخفق فيها تماماً، فقد حدثتنا في الفصل الثالث من الرواية عن " أسْماء" التي كان عبد الله قد خطبها، ثم انفصل عنها قبل الزواج، محتجّاً بأنها لا تناسبه، فهي متديّنة جداً، وهو ليس كذلك. وهذه إشارة - للأسف - أضحت النواة التي أقامت عليها عائشة عبد العزيز الحشر ذلك المخطط السّرْديّ المُوازي، ليظلَّ هذا المخطط ينتظر أنْ يتقاطع مع الحبكة الأساسيّة دون أنْ يتحقق من ذلك شيء.
فقد تكرّر الحديث عن تديّن أسْماء مِراراً، وعن الأصوات التي تسْمَعُها كلما خلتْ إلى نفسها في الحجْرة، وعنْ طرائق العلاج التي التجأ إليها ذوُوها؛ تارة إلى الطبيب النفسي، وطورًا إلى المُشعْوذين، والسحَرَة، والعشّابين. وبدلا من أنْ تتحسّن صحيًا، تتراجع من سيءٍ إلى أسْوأ. وتنعقد الحلقة السردية فيما يوهم أنه اكتمال للمخطط السردي الثاني، في لقاءٍ يضمُّ أمّ مها، وأمْ أسماء، في بيت أحد العطارين.
والواقع أنَّ الكاتبة لو حذفتْ ما جاءَ عن " أسماء " كلّه في الفصول: الثالث، والسادس، والثامن، والثالث عشر، والثامن عشر، واكتفت بالإشارة الواردة في الفصل الأول، لما تأثرت الرواية نقصًا، أو زيادة، مما يؤكد أن جلَّ ما جاء عن أسماء مُقْحمٌ على الحوادث إقحامًا، ولا لزوم له، ولا ضرورة. هذا إلى جانب المزالق الأخرى التي انزلقت إليها الكاتبة، ومن ذلك الاتصال الهاتفي الأول الذي جرى بعد تردُّدٍ طال أمَدُه، وانتظار ازداد شأوُه، بين مها وعبد الله، فقد استمر أربع ساعاتٍ ونصف الساعة، وهذا يتناقض مع الشعور بالخوف، والحَذَر، والتردُّد، الذي بالغت المؤلفة في تصويره. ثم إنَّ عبد الله يروي لها في تلك المكالمة سيرته الذاتية كاملة، وهذا لا يُتوقّع من رجل يُهاتف فتاة لأول مرة. علاوَة على أنه في ذلك الاتصال يحدثها عن الأغاني، وعن المُطْربين، وعن الشعَراء، فهَد العَسْكر، وغيره.. حتى ليحسب القارئ أنه أمام بائع أشرطة، لا أمامَ عاشق. وهذه المسألة بولغ بها حدّ الوقوع في الإحالة" الفجّة" التي تحول دون قبول القارئ بهذا، إلا إذا كان من نوع من لا يُفرّق بين ضمير المتكلم والمخاطب. وفي موْقع من الفصل التاسع يطلب عبد الله من مها أنْ تكتب مقالاتٍ، وتنشرها في الصحف ضد الواقع الفاسد الذي يتمثل في الذكور من الآباء، والإخوة.. مع أنها – أي المؤلفة- لم تخبرْنا في السابق أنّ لدى مها موْهبة، أو- على الأقل- ميلا للكتابة. وعبد الله يصطحبها بسيارته إلى منزله الذي يعيش فيه مع أبويه وإخوته، ولا يحسب حسابًا لأحد، وكأنه لا يعيشُ في "أبها" المحافِظةِ بلْ في لندن، أو باريس. ويقضي معها وقتًا غير قصير (ستّ ساعات) ولا يقرع بابهما أحد، وذلك شيء غير متاح في وسط عائلي كثيرًا ما يقتحمه زائرون، ولا سيما أريج - ابنة شقيق عبد الله- التي ذكرت المؤلفة عنها ما ذكرتْ من اقتحامها خلوته في أيّ وقت تشاء، وبلا استئذان. أما الحدث العكسيّ، الذي وقع لكلٍّ من مها، وعبد الله، فلم يكن متوقعًا، فالشيخ عبد الرحمن لم تقلْ لنا المؤلفة في البدايات أنه ينتمي إلى قبيلة باذخة النسب، مما يجعلُ من النسب حجّة كافية لرفض عبد الله زوجًا لابنته، وعلى العكس، يتبين أنها حجَّة مفتعلة، وغير مقنعة. كذلك انقلابُ الأب في نهاية الحكاية، وندمُه، شيءٌ غيْرُ مُتوقّع من رجلٍ بولغ في وصف قسوته، وتحجّر فؤادِهِ. كذلك الحادثُ المروِّعُ المفاجئ الذي جرى لعبد الله، في نهاية الرواية، لا يمثل إلا نهاية دراماتيكية، مُفْتعَلة، وغير ملائمة لتطوّر الحوادث، إلا إذا كنا لا نفرّق بين الرواية، وبعض المسلسلات، أو الأفلام السينمائية، التي تعتمد على نهاية مفاجئة تخالفُ توقُّعات المُشاهد.
ضحك على الذقون؟
ولا تفوتني الإشارة - ها هنا- لموقف النقد من مثل هذه الأخطاء، التي يقع فيها بعض الروائيين، أو المَحْسوبينَ زورًا على الرواية، ذلك لأن معظم من يكتبون نقدًا عن الروايات يكتفون بالتقريظ، إما من باب المجاملة والضحك على الذقون، أو ربما قعد بهم اقتدارهم عن تلمس مثل هاتيك العيوب، والاهتداء إليها، على الرغم من تكرار القراءة، وهذا يؤدي، بلا ريب، لشيوع الأحكام العشوائية، والمضللة عن هذا الفن. ولو كان الأمر مقتصرًا على هذا لهان، لكن الكتاب المحسوبين على الرواية لا يتقبلون النقد، بل يردون على النقاد مدافعين عن وقوعهم في ما يقعون فيه من اضطراب. وقد كنت كتبت ذات مرة عن رواية كتبها مؤلفها على نمط المسلسلات البدوية التي تعرض في التلفزيون، فما كان منه إلا أن ردّ ردًا اتهمني فيه بتفيذ أجندات خارجية!، ومع ذلك لم يخبرنا في رده على الرغم من اتساع الرقعة وكثرة( الحكي) من هي الجهات الخارجية التي يؤلمها أن يكون ذلك الكاتب ماركيز الأردن، أو دستويفسكي العرب.
قد تبدو الهنات، التي ذكرنا أمثلة منها، خفية على القارئ العاديّ، وغامِضة، وقليلة الخطر على نسيج ِالرواية، لكنّ القارئ الحصيفَ، المتمكّن، والناقد المجرّب، لا يغفلُ عنْ هذا، فدلالته واضحة، وهي أنّ المؤلف، أو المؤلفة، لا يُحْسن مُمارسة الحبْكة، وهي العمُود الفقريُّ لهذا الفنّ. من هنا تأتي هذه الدراسات، في هذا الكتاب، بهدف وضع النقاط على الحروف. ذلك لأنّ مؤلف هذا الكتاب يرى في الكثير مما يُنشرُ، من نقدٍ روائيّ، نقدًا قوامُه المُجاملات، أو الانبهار بالنصوص، من غير اهتمام كافٍ برصد العيوب، والأخطاء الكبيرة، أو الصغيرة، التي يقع فيها بعْض الروائيّين. وقد زاد الطينَ بِلّةً ميلُ كثير من الدارسين لتطبيق بعض طرائق النقد الغربي على الرواية العربية: كالتحليل البنيوي، أوالسيميائي، أو التفكيكي، أو التأويلي، أو النفسي، مما يصْرف الانتباه عن عيوب النصّ، إلى المغالاة في تضخيم العناصر التي تتيح للدارس ما يتوهمه نجاحًا في التطبيق، فإذا كانتْ غايته تتبُّع العلامة المكانية نراه يضخّم المكان، ويُعلي من شأن الجمالياتِ فيه، حتى ليذهب بَعْضُهُم للزعم بأنَّ المكانَ هوَ بطلُ الرواية، ولو صح هذا لوجدنا من كبار الكتاب من يكتفي في رواياته بتصوير الأمكنة بلا شخوص وبلا حوادث.
ولعلّ هذه الدراسة، بما تقترحُه من نقدٍ غير مُجامل، إذا ساغ التعبير، تشجّع النفر الحصيف من نقاد الأدب على توخي الحقيقة في النقد، والابتعاد، ما أمكن، عن الرياء الاجتماعي، والأدبي، والمُجاملات، التي تضرّ بالإبداع أكثر ممّا تنفع، وتحطّ من قدْر المبدع أكثر ممّا ترْفع.
بقيت إشارة ينبغي أن ألفت إليها نظر القارئ الكريم، تتعلق بالباب الرابع الذي جرت إضافته لمادة هذا الكتاب التي يغلب عليها التطبيق، فهو ترجمة لمقدمة كتاب صدر في لندن بعنوان A Readers' Guide to Great Twentieth Century English novels وقد نشر للمرة الأولى في العدد الثالث من المجلد 23 من المجلة البغدادية " أقلام " في الشهر الثالث من العام 1988 من ص 95- 108 وعند إعادة النظر فيه، قبيل صدور هذا الكتاب، وجدت معظم الأفكار التي وردت في أثنائه، واشتملت عليها فِصَلُهُ، وفقَرُه، مما هو متداول في أيامنا عن الرواية، ويحسنُ بكثير من المهتمين الذين لم تتح لهم فرصة الاطلاع عليه في حينه، أن يتوفر بين أيديهم، لما فيه من الإفادة.

هوامش
1. ثمة خطأ في عنوان هذه الرواية، فلا يقال في العربية: أنثى العنكبوت، مثلما لا يقال الرجل العنكبوت، لأن كلمة " عنكبوت " تدل على المؤنث من العناكب، بينما يسمى الذكر منها " عنْكبًا " غير أن د. حسين المناصرة يلتمس للمؤلفة العذر، مؤكدًا أنّ العنوان قصدَ بهِ تشبيه الزوج في الرواية بالعنكبوت، فهو أنثى، والزوجة أنثاهُ. انظر: وهج السرد ، عالم الكتب، إربد ، ط1، 2010 ص 55. أذكر ذلك مع أنني غير مقتنع بسلامة هذا التخريج. وللمزيد عن قماشة العليان راجع الفصل الثالث من الباب الثاني من هذا الكتاب.
2. عفاف بطاينة: خارج الجسد، دار الساقي، بيروت، ط1، 2004 ص 260
3. انظر الفصل الخاص بروايتها " سيقان ملتوية " في الفصل الثاني – من الباب الثاني من هذا الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.