نسمات باردة من الهواء تسربت إلي داخل الشقة الفارغة. هواء ليل الشتاء ليس بالتأكيد مجرد هواء؛ إنه إشارات من عالم آخر.. إشارات تحمل بقايا أصوات عاشت سابقا؛ أصوات من ألف حياة مرت علي هذا العالم؛ أصوات لا نسمعها لكن ندرك وجودها ونشعر به. لم أدرك حقيقة مشاعري بالضبط وأنا أتنقل داخل حيز الشقة الواسع من جهة إلي أخري. لا أعرف أكانت بهذا الاتساع من قبل؟ أم إنني أشعر بهذا الآن لأنها فارغة. في الماضي كان هذا المكان أضيق كثيرا، لدرجة أنني كنت أتخبط وأتعثر في الكثير من الأشياء أثناء تحركي داخله. كانت أمي تعشق كل ما هو كبير وثقيل. هذه الردهة الواسعة كانت تحوي غرفة استقبال كبيرة، مكتبة ضخمة، مائدة طعام أنيقة رغم أنها عملاقة بالنسبة لوجودها في شقة. فتحت ذراعيّ علي اتساعهما ودرت حول نفسي عدة مرات مستمتعا بهذا الفعل لأول مرة. أخذت أدور وأدور في الفراغ. لا أعرف كيف حدث هذا لكني فجأة تعثرت. اصطدمت بالحائط ووجدت نفسي أسقط علي الأرض. لم أشعر بألم بالغ من السقطة. نهضت مستندا بكفي علي الحائط. وعندما استقمت في وقفتي، رفعت كفي عن الحائط الشاحب. انطبع كفي عليه وكأنه يترك آخر أثر لي في المكان. شعرت فجأة بضيق في نفسي، وكأن هناك ما يستنفد الهواء أو كأن صدري ضاق بكل شيء. نظرت إلي كفي بدهشة: "منذ متي كان منزلنا مغطي بالغبار؟!" خطوت خطوة أخري فتعثرت من جديد. في نفس مكان الفوتيه القديم الذي اصطدمت به ألف مرة في طفولتي. لم أسقط هذه المرة لكني تألمت. كل شيء مغطي بالغبار. نفضت كفيَّ وأنا أتحرك إلي الداخل. الشقة مظلمة جزئيا. حتي إضاءة المنزل أوشكت علي التلاشي. في الماضي لم أكن أدرك معني انتهاء شيء ما. بالنسبة لي كان من الممكن لأي شيء أن يبدأ من جديد. كان مفهوم النهاية عندي مرتبط بانتهاء قطعة من الحلوي وقدرتي علي الحصول علي قطعة أخري في الحال. كم عاماً مضي؟ وكيف تغيرت أفكاري؟ تحديد النهايات أبسط كثيرا من معرفة متي بدأ التغيير! هناك ممر طويل وواسع يفصل بين الردهة والغرف الداخلية، في آخره تقع الغرفة الكبري.. غرفة أمي. اقتربت منها مباشرة. وعلي الرغم من عراء المكان ومن ارتدائي لحذاء، شعرت قدماي بملمس السجاد السميك الناعم الذي كان يغطي المكان في يوم ما. لم ترَ عيناي الغبار ولم تتأثر بضعف الإضاءة، بل رأت إطار الكانَڤا القديم معلقا علي الجدار، ودمية أختي القديمة موضوعة علي الكونسول. رأيت من جديد كل التفاصيل الصغيرة التي تخيلت في وقت ما أنني نسيتها. للحظة ما فقدت شعوري بالزمن فلم أعد أدري أأنا هنا بالفعل؟! أم أتخيل الأمر؟ وصلت إلي غرفة أمي. وكما كنت أفعل في أيامها الأخيرة، اكتفيت بالوقوف عند الباب. ترددت بالفعل كما كنت أفعل في السابق. مددت عنقي قليلا لأطل برأسي من الباب. الغرفة فارغة تماما. فقط الجدار يحمل الكثير من الآثار الداكنة التي تميز أماكن الصور التي لا أعلم فعلا أين هي الآن. هنا أعلي الفراش كانت توجد ستائر حريرية بيضاء يعلوها تاج ذهبي أنيق. وفي الجدار المواجه للفراش تماما كانت صورة زفاف أبي وأمي تستقر في سكون. صورة قديمة بالأبيض والأسود تحمل الكثير من المعاني وتأسر العديد من الذكريات. اللون الذهبي كان يغلب علي الغرفة كلها. أذكر أنها كانت تتألق حتي في الظلام. عجيب أن يتلاشي كل هذا البريق! فجأة وجدت نفسي أتذكر تفاصيل غريبة.. تفاصيل كنت أحسبها تاهت مع الزمن وتلاشت مع الأيام. تذكرت أغطية الفراش التي كانت أمي تنهمك لأيام في تطريزها بخيوط ذهبية. تذكرت يوم سقطت صورة زفافها بلا سبب وأصرت علي تثبيتها في نفس المكان. يومها قالت إن هذا فأل سيء وضحكنا كلنا لأن أحدنا لم يكن يؤمن بهذه الأشياء. جهاز التلفزيون الصغير الذي كانت تضعه علي الشوفنيره الموجودة في ركن الغرفة. في أيام الشتاء كنت أجلس إلي جوارها في الفراش متدثرا بأغطيتها ومغمورا برائحتها. لم أكن أتابع ما تراه هي علي الشاشة بقدر استمتاعي بالدفء لوجودي إلي جوارها. زجاجة عطرها المفتوحة دوما. رائحتها الهادئة التي تسيطر بقوة علي المكان. ألف تفصيلة وتفصيلة اخترقت عقلي في هذه اللحظة. أغمضت عيني في محاولة لاستحضار صورة واحدة من تلك اللحظات. حاولت أن أخطو إلي الداخل. فتحت عيني علي أمل أن أري طيف لحظة من هذه اللحظات، لكن عقلي وذاكرتي اصطدما بتلك الصورة البائسة لها في أيامها الأخيرة، وهي بالكاد تظهر من بين أغطية الفراش.. بشرتها بيضاء إلي حد الشفافية ورأسها مغطي بإيشارب من القطن ليخفي أرضية رأسها التي خلت تماما من الشعر. رائحة الأدوية تغمر المكان لدرجة أنها تكتسح أمامها رائحة أي عطر. انتفضت في عنف. رفعت يدي بحركة هيستيرية إلي أنفي. تذكرت آخر مرة ضمتني فيها إليها. يومها دفنت وجهي علي كتفيها وفي شعرها وعندما رفعت وجهي كان أنفي مغطي بخصلات من شعرها الناعم. يومها انتفضت في رعب، وصرخت في ذعر. أخذت أنثر شعرها عن وجهي وأنفي كالمجنون، لكنه التصق أكثر بأصابعي ووجهي اللذين ابتلا تماما بفعل العرق والدموع. يومها خرجت من الغرفة راكضا باكيا، ولم ألمسها أو أدخل إلي الغرفة حتي بعد وفاتها. ظللت لسنوات أستيقظ من نومي مرتاعا مذعورا منتظرا رؤية الخصلات الناعمة متساقطة علي الأرض أسفل الفراش أو علي الوسادة. كانت الصورة بشعة كفاية لجعلي أكره المرض والذبول والموت. لكني الآن كنت أتمني بالفعل أن أري صورة أخيرة لها من جديد. ربما لآخر مرة قبل أن أتخلص من هذا المكان إلي الأبد. أصابني الإحباط لاستحضاري للصورة الوحيدة التي عذبتني طوال حياتي. وجدت نفسي أبكي وأبكي وأبكي.. لا أعرف كيف خرجت من الغرفة مسرعا، متجاهلا إلقاء نظرة واحدة علي الغرفة التي كانت لي. وجدت نفسي أتجه مندفعا إلي غرفة مكتب أبي؛ الغرفة الوحيدة التي لا تزال محتفظة بأثاثها. لا أعرف.. ربما اتجهت إليها لأنني كنت بحاجة إلي أن أرتاح ولو جسديا. وجدت نفسي أغوص في المقعد الضخم مستمتعا بكل ذرة غبار اختزنت علي مدي سنوات بقايا أثر أبي علي المقعد. مددت يدي أتحسس أركان المكتب في شوق.. هنا كنت أجلس.. وهنا كنت أبعثر الأوراق وأسكب الحبر.. علي هذا المقعد تقمصت شخصية أبي عشرات المرات، وأمسكت أقلامه وعبثت بأوراقه وارتديت منظاره.. هنا في الماضي، كان بالنسبة لي عالما آخر. غمرني الحنين. فتحت أحد الأدراج. اندهشت لرؤية رزمة من الورق ومجموعة قديمة من الأقلام.. أخرجتهم وأنا لا أعلم ما الذي أنويه. مسحت دموعي بيدي الملوثة تماما بالغبار. لا أعرف كيف أبدو الآن؟ تنهدت وأنا أمسك بقلم رصاص. أخذت أكتب الكثير من الأفكار والذكريات بدت أشبه برسالة إلي القدر. بعد فترة، وعندما كدت أصل إلي نهاية الورقة، وجدت نفسي أمسح كل ما كتبت. قضيت الكثير من الوقت في هذا العمل. أكتب الكثير، وعندما أقترب من النهاية أمسح كل شيء، وكأنني أستمتع بفعل الإزالة. استمررت في تلك الدائرة حتي هدني التعب وأوشك الفجر. نظرت مليا إلي الورقة التي اهترأت تماما. فكرت أن حياتي مثل هذه الورقة.. بيضاء ونظيفة، لكنها مهترئة تماما لدرجة ألا تحتمل جرة قلم. استسلمت للتعب وللقدر. أرحت رأسي علي ذراعي.. وغفوت.. لم أميز طبيعة الصوت بالضبط. لم أعرف إن كان خليطا من الحديث والضحك، أم من الصياح والحوار. الحقيقة لم أعرف إن كان شجارا أم مزاحا، ولكنه كان مزعجا كفاية لإيقاظي من النوم. تقلبت كثيرا في الفراش. فتحت عيني وأغلقتها. تأملت جدران غرفتي التي ضاقت بما عليها من صور بعضها من رسمي أنا. دفنت رأسي في الوسادة محاولا العودة إلي النوم. لكن الصوت كان يزداد ارتفاعا مصحوبا بالكثير من الضجيج هذه المرة. تنهدت وأنا أنهض من الفراش. نظرت من النافذة إلي الشمس التي تتوسط السماء. غادرت الغرفة بتكاسل لأجد كل شيء في الخارج مفعم بالحركة والحياة. صوت أمي قادم من المطبخ وهي تحكي لشخص ما عن موقف ما. تتكلم بحرارة كعادتها. المنزل نظيف رغم الفوضي. شعرت بدهشة غير مبررة. تحركت في اتجاه المطبخ لأري أمي عندما وجدت تلك المرأة -التي أنسي دوما اسمها- في وجهي. كانت تأتي علي فترات متباعدة لتساعد أمي في أعمال المنزل. ابتسمت في وجهي وهي تقول: - صباح الخير يا أستاذ احمد. أيوجد من يستيقظ متأخرا هكذا يوم زفاف أخته! رددت عليها بصباح الخير فقط وأنا أتجاوزها برأسي لأنظر إلي داخل المطبخ. رأيت أمي وأختي وكلتاهما في منتهي الإشراق والسعادة. أمي جميلة كالعادة. نشيطة جدا وهي تملأ علبا كثيرة من الكحك والبسكويت. رأتني فابتسمت في سعادة قائلة: - صباح الخير يا حبيبي..