كنت في طريقي لأعود أمي المريضة، الشارع مكتظ وعيد الأضحي علي الأبواب، غصة في حلقي وحزن يغزو بدني، أمي.. من لي بعد أمي؟ عربات وبشر ودواب ولافتات تقطع هواء الشارع الملوث: أحزاب وأسماء وعراك ودعوات واتهامات ونصائح وصراخ وإعلانات.. كيف لا تمرض أمي؟ سألتُ نفسي وأنا أصحح وضع النظارة علي عيني، وألتزم قدر المستطاع جانب الطريق حتي لا تدهمني سيارة متهورة بكتف غير قانوني فأسقط أرضا.. هل هذا هو طريق المستشفي الأميري؟ كيف أسأل وأنا ابن البلد؟.. ناوشتني الأسئلة. "سلام عليكم" جاءتني صيحة صديقي الذي قابلني مصادفة من جوف الضجيج المتعاظم، مادًا كفّه العريضة لكفّي يهزها ويشد عليها.. "سلامات يا رجل.. كل سنة وأنت طيب" تذكرت العيد ونظرت حولي أبحث عنه، وراتبي وتحسست جيبي، وأسعار اللحوم المرتفعة علي حيوانات هزيلة مكتملة أو مشطورة مغطاة بالدهن، معلقة بخطافات أمام محلات الجزارة، وأولادي الذين تركتهم خلفي، وأمي طريحة الفراش.. منذ متي وهي تعاني؟ كيف نعيّد من غيرها؟ لن يكون لصينية الفت طعم.. لن يكون للشوربة طعم.. لن يكون للعيد بهجة.. أمي مريضة ولن تشاركنا العيد. حوائط البنايات القديمة جانبي ملوثة بإعلانات رديئة، هل رأيت اسم أمي علي الإعلانات واللافتات الكثيرة في كل مكان؟ من هؤلاء الذين أباحوا لأنفسهم ذكر اسم أمي مجردا في دعاياتهم؟ لم أتيقن، وتجاهلت الأمر عامدًا حتي لا أتيقن.. ولم أتيقن. متسولة بجلباب قذر ملوث وممزق تفترش الأرض، تمد يدها نحوي بإلحاح وتسند ظهرها للحائط، أشحتُ بوجهي منقبض الصدر، لقد كانت ملامحها الملوثة بالسواد قريبة من ملامح أمي، أشحت ببصري نافرًا، لا.. لا يمكن، هذه مجرد شحاذة مغطاة بطبقة من الأقذار. كلب ضال يرفع قائمته ويبول علي سور الكورنيش المهمل علي الجانب الآخر ويشم الأرض المتربة بحثًا عن طعام. مددتُ إصبعي تحت النظارة أمسح دمعة أفلتت رغم أنفي. "مالك يا رجل.. خير؟" صاح صديقي منزعجًا. قلت بلوعة: "أمي يا صاحبي.. أمي" وكدتُ أتعثر بكومة قمامة تقطع الطريق، وهيجت أنفي رائحة عفونة، ما أكثر أكوام القمامة التي تملأ الطرق والساحات هذه الأيام. أمسك ساعدي يقيل عثرتي: "خد بالك يا رجل" وأردف يطمئنني بكلمات مجاملة مستهلكة: "سلامتها ألف سلامة عليها.. إيه اللي تعبها؟" قلت له وأنا أمد يدي في الهواء راسمًا سهمًا ممتدًا بلا نهاية مع طول الشارع: "حاجات كتيرة" وتمتمتُ أحدث نفسي: "إحنا السبب.. جبنا لها الأمراض التايهة" اعترضني صاحبي بنظرة لوّامة وهز كتفي وقال : "يا راجل ما تقولشي كدا.. سيبك من الحساسية الزيادة دي". كدتُ أسأله: هو ده طريق المستشفي؟ خجلت أن يرد عليّ: وهي مستشفيات الحكومة فيها علاج يا عم؟ وتجمدت في مكاني للحظة، كانت هناك فلاحة صبية بطرحة سوداء وجلباب طويل منقوش بورود حمراء، تحمل قفّة مليئة بخضراوات طازجة متجهة للسوق، يا الله!.. إنها تشبه أمي تمامًا.. تشبه أمي زمان.. تشبه أمي وقت أن كانت بهيّة وصبيّة وعفيّة، وددتُ أن ألحق بها، وأتعلق بثوبها وأقول لها: عاوز حلاوة يا أماه. مرّتْ عربة نصف نقل بطيئة يعلوها مكبر صوت عال يتسيد ضجيج الشارع، تعلوها لافتة عليها صورة سيدة منقبة، لمحتُ حركة شفتيها خلف النقاب وعينيها اللتين تنظران لي بقوة وترمشان، هل تعرفني هذه السيدة؟ لم أعرها اهتمامًا، الصوت يعلن عن دورة تدريبية مجانية لإعداد الواعظ الرباني، الأماكن والمواعيد والفقهاء والمحاضرون. كان الصوت قويًا يخترق أذني اليمني خارجًا من أذني اليسري، مدعمًا بآيات قرآنية وأحاديث شريفة، ويقلقل الأمر جهلي بسؤالي له: "يعني إيه واعظ رباني يا صاحبي؟" أنا أعرف أنه عضو قديم في الجماعة، لابد أنه يعرف هؤلاء، لكني عدلت حتي لا يفهمني خطأ، لأنه أجاب دون سؤال: "كل حاجة تغيرت بعد الثورة.. الحمد لله رجعنا لربنا تاني". ثورة!.. كدتُ أسأله: أي ثورة تقصد؟ ومنذ متي ونحن مبتعدون عن الله؟ لكني صمت حتي لا يتهمني بالجنون، كل واحد في البلد يقول ثورة، كيف اندلعت ثورة وأنا ابن البلد لا أعرف! وإن كانت قد اندلعت فعلاً، لماذا تخبئ نفسها عني؟ وأين؟ وانحرفنا نعبر كوبري السوق للجانب الآخر، كانت العربات بنهر الطريق تتسابق وتتسارع وتكبح فراملها وتطلق أبواقها المزعجة في الهواء وتتزاحم بفوضوية، وركابها الحانقون يطلون بأعناقهم من النوافذ المفتوحة يصيحون، ويلعنون الزمن والدنيا والثورة.. "ثورة!.. ثورة تاني!" انبثقت في مخيلتي مظاهرة تمر تحت شرفة شقتي، وابني أحمد مهرولاً علي السلم يلحق بها، وزوجتي القلقة تناديه أن ينتظر، وإخوته الصغار يشاورون عقولهم خوفا منا للحاق به. كان الأولاد الغاضبون المندفعون يصيحون وهم يرفعون قبضات أيديهم: " عاوزين حكومة جديدة.. بقينا ع الحديدة" أكلني القلق علي أحمد عندما سمعت أصوات فرقعة، ورأيت دخانًا يعلو أسطح البنايات المقابلة، نزلت مسرعًا. بالقرب من ميدان الجامع رأيت حشدًا آخر من الناس يهتفون بغضب: حرية.. حرية، وعساكر للأمن مستنفرة، ومدرعات علي أهبة الاستعداد تزأر، ورجل قوي بملابس مدنية يهوي بعصا غليظة علي ولد نحيف سقط أرضًا وهو يشتمه: يا ابن الكلب، وجريت نحوه: أحمد ابني.. أحمد..، وملت عليه أحميه، كان مصابًا بعنف وقسوة، ودفعني جندي، وضربني الرجل، لم يكن هو أحمد، ولد يشبهه، سالت دموعي وضاق تنفسي بالغاز الخانق، أقسمت: والله حرام .. وشملني الغضب، وأحسست بالقهر، واندفعت أهتف بدم حار مع الحشد المتعاظم.. تشككتُ في ذاكرتي وأنا أعبر مع صاحبي الذي حذرني: "بص.. بص كويس.. العربيات الأيام دي ما لهاش عينين" عندما عبرنا أشار للافتة بلاستيكية عريضة تسد عين الشمس، تقطع ممشي الكوبري المزدحم تماما وصاح مهللاً: "الحزب.. شفت الحزب؟". تطلعت لأعلي وشفت صورة أمي محاصرة بين كلام كبير مكتوب علي اللافتة، نعم هي أمي، لكنها شاحبة الوجه ومعتلة ومقيدة الدمع، صحت بغضب: "أمي يا صاحبي.. أمي" يبدو أنه لم يسمعني، أو ربما أصم أذنيه في وجه كلامي، لم أتيقن، كان منهمكا في حديث عن أشياء كثيرة دفعة واحدة، ويشيح بيديه الاثنتين يشرح ويفصل، وأنا غاضب جدًا، ومشغول بأمي المحاصرة علي اللافتة علي رؤوس الأشهاد: الحزب الجديد والجماعات القديمة وعبد الناصر والسادات والمخلوع والمعتقلات والسجون والعدالة والفلول والحرية والبلطجية والسلفيون والعلمانيون والليبراليون .. فلم أفهم منه شيئًا. يبدو أنه لاحظ عدم استيعابي لأنه لكزني في كتفي وهو يشير متباهيًا إلي اللافتة: " بص.. شايف أمي .. شايف جمالها وضحكتها" اندهشت لكلامه، وقلت لنفسي صاحبي مجنون، كيف يقول هذا؟ ألا يري ما أري؟ وسددت إصبعي صوب اللافتة أنبهه: "أمي يا صاحبي.. أمي" رد بنفاد صبر، وعصبية حاول إخفاءها: "يوه.. يا عم ما تقلقشي علي أمك.. ح تروح تزورها تلاقيها إن شاء الله ميت فل واربعتاشر". متي عاد أحمد؟ هل كان مصابًا ووجهه متورمًا علي سرير بالمستشفي؟ عندما هرولت أنا وأمه إلي هناك لم أجده علي سريره بين المصابين، الشاب الذي رأيته يُضرب بالميدان كان راقدًا مكانه، قال بصوت واهن من بين الضمادات التي تخفي وجهه: "أحمد.. أخذوه" "مين هم؟" أومأ بعينيه ناحية الباب ولم ينبس.. سمعت صوتها، نعم هو صوتها، صوت أمي الذي أعرفه، هل كانت أمي لحظتها تناديني، نظرت للافتة، نظرت في عينيها الدامعتين، أصغت السمع، هل ضاع صوتها في زحام الباعة الجائلين الذين يسدُّون كل منافذ الكوبري فلا نعرف كيف نمر بينهم؟ وددت أن أمد يديّ لها وآخذها في حضني وأهرب بها بعيدًا عن هذه الفوضي العارمة. نوسع الطريق بصعوبة بين عربات اليد وفرشات البضائع المستوردة والملابس الرخيصة والأحذية والشباشب والزبائن القلائل. الباعة الحانقون الذين يتشاحنون علي أرضية الكوبري يتشاتمون بألفاظ قبيحة خفتُ أن تصل لمسامعها، ورفعتُ رأسي ناحيتها مرة أخري، واعترضنا بائع نحيف الجسم بجلباب قصير وطاقية شبيكة صغيرة فوق رأسه الحليق، يضيع وجهه البرونزي بين لحية طويلة غزيرة مهوشة، وهو يصيح ويرفع ساعديه في مواجهتنا، خفت وتراجعت قليلاً، لكن ساعديه احتويا صاحبي نحو صدره، وراح يطبطب علي كتفيه بقوة وعرفان المعرفة القديمة، ويتبادلان قبلات اللحي بين الكلمات الحميمة. اطمأننت قليلاً، وأنا أرقبهما بفضول، والمارة المسرعون يتصادمون بي. عندما التفت صاحبي ناحيتي قال للرجل: "صاحبي" مد الرجل النحيف كفَّه نحوي، وشد علي كفّي بقوة لا تناسبه. قال صاحبي مشيرًا له: "أخونا في الله صالح .. خير خلف لخير سلف حقا.. ودي فرشته وبضاعته.. لو عاوز أي حاجة منها خدها وبأرخص الأسعار" قلت: "أهلا وسهلا.. فرصة سعيدة" وعادا للكلام مع بعضهما، يبدو أنهما لم يلتقيا منذ فترة، كان صاحبي يعيد علي مسامعه نفس الكلام الذي سمعته منه من قبل. رحت أتأمل بضاعة صالح بن السلف الصالح؛ أنواع كثيرة من الصناعات الصينية الصغيرة التي لا تستغني عنها أي أسرة؛ ولاعات ومفكات وأقلام وأمشاط ولمبات صغيرة وحجارة بطاريات وساعات يد وأغلفة هواتف وكشافات وماكينات حلاقة وريموتات الكترونية وألعاب أطفال وصور.. صورة أمي ترتدي النقاب، هل صور الصينيون أمي؟ نفس الصورة التي رأيتها من قبل علي العربة نصف النقل ولم انتبه لها، مددتُ يدي نحو الصورة وصحتُ: أمي. انتبها لي، ولم يفهم صالح وقلب كفَّه أمام صاحبي متسائلاً، ومال صاحبي نحوه وأدار إصبعه بجانب رأسه عدة دورات بما يعني أنني مشغول أو ربما مجنون.. لم أتيقن من مقصده. أهملاني وعلا صوتاهما وهما يتناقشان في قضايا شائكة، يتفقان أحيانًا ويختلفان أحيانًا، ويشيحان بأيديهما، حتي ظننت أنهما سيتعاركان بعد قليل، وأن عليّ أن أستعد لفض الاشتباك. حانتْ مني التفاتة صوب اللافتة الكبيرة، كانت أمي تناديني، نعم هي تناديني بالفعل، سمعت صوتها واضحا هذه المرة، تركتهما وتسللت إليها، مددت لها ذراعيّ، حملتها، كانت خفيفة، أخذتها في حضني، فبرأ صدري بالأمان، أغرقتُ وجهها بالقبلات، اختلطت دموعي بدموعها، وقبل أن ينتبه أحد أخذتها وفررت بها.. أشق طريقي بين الزحام، أتفادي المارة والعربات والدواب والكلاب الضالة واللافتات التي تحمل صورها الغريبة.. صورة مبتذلة بملابس فاضحة.. صورة بكاب وملابس عسكرية.. صورة بجلباب أسود وحزام وعقال بدوي بجوار خيمة.. صور وصور وصور.. وأنا أشيح بوجهي.. وبصدر عار في مواجهة العالم كله، كنت أعطي قدميّ لكل الطرق التي تأخذني وإيّاها صوب قريتنا البعيدة.