أنا مواطن يعتقد أنه مصرى أصيل وأنتمى إلى قطاع البسطاء الكادحين من عائلة ريفية متوسطة الحال وأكرمنى ربى واستفدت من مجانية التعليم التى منحتها لنا ثورة يوليو وتخرجت من كلية طب المنصورة، واختارنى ربى لاعمل طبيب لا امتلك إلا سماعتى ومشرطى وشهادة ماجستير فى الجراحة محاولا أن أكون سببا فى شفاء مرضى وأساعد فى تخفيف آلامهم وأغلبهم من الفقراء والمساكين. حلمت أن أحافظ على انتمائى للطبقة المتوسطة وحاولت ونجحت والحمد لله مستور بفضل الله على وعلى الناس أجمعين. قبل الثورة كنت مفروس قوى من سياسات حكومات الحزب المنحل التى كادت أن تودى بنا جميعا إلى النزول تحت خط الفقر ومن سياسات وزارة الصحة الميمونة التى دمرت نصف مستشفيات مصر وألغتها، وتركت البقية الباقية مهملة بدون أى مقومات لتقديم خدمة طبية آمنة يرضى عنها أفقر خلق الله ومستوى أجور متدن ليس له مثيل فى أى دولة فى العالم الرابع، أيضا كنت مفروس جدا من انتشار ثقافة الرشوة والمحسوبية والواسطة التى جاءتنا بقيادات فاسدة تتميز ببجاحة تثير الغثيان وخاصة عندما تسمع أحدهم يقول علينا أن أدفع مبالغ شهرية لأبقى جالسا على هذا الكرسى يقصد كرسى الإدارة الذى لا يدوم لأحد ليبرر أفعاله المشينة التى تجلب العار لمهنتنا الإنسانية ورسالتنا السامية. أيضا كنت مفروس من ممارسات باشوات أمن الدولة الملغى وتزوير الانتخابات ومحاولات وإرهاصات تمرير العملية الساقطة لتوريث حكم مصر لمن لا يستحق لدرجة إننى أقسمت أمام زملائى ذات يوم أن ذلك لن يكون أبدا من فرط ثقتى بعدالة ربنا سبحانه وتعالى. قامت الثورة الشعبية السلمية كمنحة إلهية وكدرس عملى فى العدالة الإلهية، وكنت من أشد المؤيدين لها دون الاشتراك فيها وكنت أدعو الله ليلا ونهارا ليزيح الغمة ويفرج الكرب ويغفر للشهداء ويشفى المصابين ويحافظ على أمان مصر بلدنا التى تعيش فينا أينما وجدنا. وكانت ومازالت ثقتى بالله كبيرة ثم ثقتى بجيش مصر العظيم الذى تعلمنا فيه الشرف والوطنية فى شبابنا ومرت المرحلة الانتقالية الخطيرة ووفى الجيش بوعوده وانسحب إلى ثكناته وسلم الراية لرئيسنا الذى اختاره الشعب، ليكمل المشوار الطويل لاستكمال بناء مؤسسات الدولة المصرية الحديثة كما عرفتها وثيقة الأزهر الشرف مرجعية كل المصريين. مرت على ثورتنا قرابة عامين وأعلم تماما أن اكتمال ثورتنا يحتاج إلى وقت لإعادة هيكلة المجتمع وتأهيله سياسيا واجتماعيا وثقافيا ليكون قادرا على استيعاب مقومات ومبادئ حياتنا الجديدة وخاصة فى مجالات الحرية والديموقراطية والعدالة والعيش بكرامة. الحقيقة المرة أن ثقافة ثورتنا الشعبية السلمية مازالت لم تصل عقول قطاعات كثيرة من الشعب، خاصة أن أغلب أحزابنا وجماعاتنا الدينية والمدنية ظلت عقود تقول وتفعل فى السر عكس ما يقولونه ويفعلونه فى العلن لكى يستمر استئناس النظام المخلوع لهم. الحقيقة أننى مازلت مفروس وأشعر بالمرار وأحيانا بألياس بسبب ما نلاحظه جميعا من الانفلات الفكرى والثقافى الذى يتحفنا به الكثير من الطبقة النخبوية والسياسية التى اتخذت من الاستقطاب السياسى الحاد طريقا لنشر الفوضى وإحداث هرج ومرج، وربما لكسب شعبية زائفة بدون النزول من البرج العاجى إلى القاعدة الشعبية والعمل معها ومساعدتها على التغلب على مشاكلها بشكل عملى وربما بعدف إفشال الرئيس سياسيا وعرقلة التطور الاقتصادى المنشود وانتظار ثورة جوع تطيح بالجميع. مازلت مفروس من حكومة بطيئة ولا تمتلك خططا مستقبلية طموحة تطرحها على الشعب وتتعهد بتنفيذها فى مواعيد محددة، حكومة مازالت تمارس دور سيارة المطافئ التى دائما ما تظهر فى الوقت غير المناسب، حكومة لا تملك إلا بعض القرارات التافهة التى لاتثمن من جوع حكومة لا تمتلك آليات العمل الذى يتلائم مع طموحات شعب قام بثورة للتخلص من سياسات الفشل. مازلت مفروس من أحزاب كثيرة فى العدد ولكن العدد فى الليمون، أحزاب ورقية بدون قواعد شعبية مؤثرة أحزاب مازالت عاجزة عن عمل مقار حزبية نشطة كخلية نحل تدرس مشاكل المجتمع وتشارك فى حلها، أحزاب لأهم لها إلا المعارضة من أجل المعارضة تطبيقا لمبدأ خالف تعرف ومبدأ طالما أنا أعارض فأنا موجود، أحزاب لبرامج لها وإن وجدت تجدها برامج كلها متشابهة كان العقم أصاب الطبقة السياسية والحزبية. مازلت مفروس من إعلام يبيعنا الوهم وعناوبنه النثيرة لا تخلو من خبراء قالوا وخبير إسترتيجى يقول و50 حزبا يقررون و50 ائتلافا اجتمعوا والمفكر الكبير قال وفى النهاية لاشىء، إعلام لا هم له إلا بحشو رءوسنا بتحليلات سياسية غير مدروسة، ويكفينا فخرا أننا نصدق الإعلام الغربى والإسرائيلى، لأن مادته الإعلامية فى أغلب الأحيان صادقة وتحليلاته واقعية فى الكثير من الأحيان والسبب كلنا نعرفه وهو عدم قدرة إعلامنا على تغليب المهنية على الأيدولوجية. مازلت مفروس من بقايا التطرف الدينى فى رءوس بعض مشايخنا وبعض من يسمون أنفسهم إسلاميين فنشاهد اشتباكات بالأيدى فى ميدان الحرية ونسمع كلمات التكفير ووصف المعارضين بالنفاق وكأنهم مطلعون على القلوب والنيات ونرى البعض يهدد بالعنف واللجوء للقوة لحل مشاكل سياسية وخلافية، ونرى البعض لا يعترف بالديمقراطية ويصفها بورق الكلينكس الذى نستخدمه فى الحمامات. مازلت مفروس من جاحدين ينكرون أى عمل يقوم به الرئيس ويتحدون كل قرار يتخذه الرئيس وليس لهم هم إلا مهاجمة شخص الرئيس ووصفه بألفاظ نابية تخدش الحياء ولا ندل إلا على حقد سياسى دفين وكره غبر عادى، حتى أنصار الرئيس يحاولون القفز والتحدث باسمه وبالنيابة عنه لدرجة وصف أحد السياسيين لمؤسسة الرئاسة بأنها فرع تابع لمكتب الإرشاد. مازلت مفروس من محاولات كل من هم خارج الجمعية التاسيسية لعرقلة عمل الجمعية ويصرون على إفشالها لنعيش بدون دستور أطول مدة ممكنة أملا فى حدوث فوضى تساعدهم على القفز على مقاليد الحكم مع علمهم التام أن شرعية الجمعية أمام القضاء وآليات العمل بالجمعية واضحة تسمح لأى فرد تقديم مقترحاته، وأن الموافقة النهائية على الدستور عمل من أعمال الإرادة الشعبية الحرة. كل ذلك سببه أن مفاهيم الثورة المصرية التى قام بها الشعب لم تصل إلى رءوس الكثيرين منا ومازالت ثقافات السجون والمعتقلات والعمل السرى وثقافات النفاق والتهويل والمبالغة والتطرف والجحود التى عانينا منها قرون فى ظل نظام الاستبداد المخلوع موجودة ومتغلغلة بيننا، مازالت السياسات واحدة وأقولها صراحة فوضى وتخلف سياسى لدرجة اختلاط الحابل بالنابل، ولدرجة لا تستطيع فيها أن تفرق بين الفلول الضالة والمضللة والآخرين. اختلط الحابل بالنابل لدرجة أننا نجد صعوبة فى التفريق بين مؤيدى الثورة ومؤيدى الثورة المضادة لدرجة أننى أحس أحيانا أننا تماما نعيش فى نفس مستوى الفوضى التى تعيش فيه بلدنا بسبب سائقى التوتوك مع احترامى لهم. من على هذا المنبر الحر اطالب الجميع بالتخلص من ثقافات النظام السابق وثقافات الفلول وإعلاء مصلحة مصر فوق المصالح الشخصية أو الحزبية أو الأيدولوجية الضيقة ليتسنى لنا الخروج من مرحلة الدولة الرخوة بسبب غياب الدستور والبرلمان والحفاظ على وحدة أمتنا المصرية وتماسكها لنصل إلى بر الأمان، واستكمال مؤسسات مصر القوية وعندها فليتنافس المتنافسون والحكم النهائى دائما، للشعب الذى عاش وسيبقى واعيا يفرق بين الخبيث والطيب. عاشت مصر حرة متحدة قوية وثورتها مستمرة.