قرار الهيئة الوطنية للانتخابات رقم 67 لسنة 2025 بإعادة الانتخابات فى بعض دوائر النظام الفردى لم يكن حدثا عابرا أو تفصيلة إدارية يمكن أن تمر مرور الكرام، بل كان حدثا سياسيا فارقا يستحق التوقف والتحليل والقراءة العميقة. فهو يأتى فى توقيت دقيق وبعد بيان واضح من الرئيس عبد الفتاح السيسى ليقدم نموذجا مختلفا لإدارة الدولة فى لحظة حساسة تتطلب مصارحة قبل أن تطلب استقرارا. هذه الخطوة تبدو فى ظاهرها تصحيحا انتخابيا لكنها فى جوهرها إعلان جديد عن طبيعة النظام السياسى الذى تتشكل ملامحه يوما بعد يوم. نظام لا يتهرب من مراجعة نفسه ولا يتردد فى مواجهة أى شبهة أو خلل مهما صغر حجمه. إنها لحظة تقول فيها الدولة: نحن لا نُجمّل الواقع بل نعيد صياغته بما يتوافق مع قيم العدالة والشفافية وسيادة القانون. الرئيس السيسى الذى وضع منذ توليه المسؤولية منهجا واضحا يقوم على المكاشفة ومصارحة الشعب يثبت من جديد أن الشرعية ليست مجرد صندوق انتخابات بل منظومة قيم تبدأ بسلامة الطريق وتنتهى بسلامة النتائج. من هنا يفهم القرار لا باعتباره مجرد إعادة تصويت بل باعتباره تأكيدا أن الدولة أكبر من أى حسابات ضيقة وأن الثقة المنشودة بين الشعب ومؤسساته لا تُطلب بالكلام.. بل بالفعل. إعادة الانتخابات فى بعض الدوائر ليست دليل اضطراب كما يروج البعض بل دليل نضج. الدول العظيمة هى التى تعيد حساباتها حين يقتضى الأمر، والتى تتخذ قرارات صعبة إن اقتضتها مصلحة الوطن. أما الدول الهشة فهى التى تتهرب من مواجهة الأخطاء وتعيش على سياسة التثبيت والإنكار. وما جرى فى مصر يؤكد أن الدولة واثقة بما يكفى لتقف أمام مواطنيها وتقول: ليست هناك قضايا فوق المراجعة ولا قرارات فوق القانون ولا نتائج فوق تصحيح المسار. هذا القرار أيضا يعيد الاعتبار للناخب قبل المرشح. يعيد الاعتبار لفكرة أن صوت المواطن ليس مجرد رقم بل قيمة يجب أن تُحترم. فحين تعيد الدولة فتح صناديق الاقتراع بنفسها دون ضغط دولى أو فضيحة سياسية فهى تمارس أرقى درجات احترام الإرادة الشعبية. هى تقول للناس: صوتكم أمانة.. ولا نقبل أن يُمس حتى بالشك. وفى السياق ذاته يحمل القرار رسالة حاسمة للأحزاب السياسية والمرشحين بأن المرحلة القادمة لا تقبل بالأساليب القديمة، ولا بالتحالفات الهشة ولا بالاعتماد على الولاءات الشخصية أو العصبيات العائلية. فالعمل النيابى فى الجمهورية الجديدة ليس وجاهة اجتماعية بل مسؤولية وطنية والناخب المصرى أصبح أكثر وعيا من أن ينخدع بالشعارات. ومن لم يستوعب ذلك فى الجولة الأولى عليه أن يستوعبه فى الإعادة. كما أن القرار يحمل رسائل للخارج أيضا. فالعالم الذى اعتاد أن يراقب الانتخابات المصرية بنظرة ريبة أو تشكيك يجد نفسه اليوم أمام مشهد غير مألوف: دولة تصحح إجراءاتها بإرادتها وتعيد الانتخابات بمؤسساتها وتفتح الباب للناس ليقرروا من جديد. هذه ليست دولة خاضعة للضغوط بل دولة تصنع صورتها بنفسها وتفرض احترامها بالفعل لا بالدعاية. وبالرغم من كل ما سبق، فإن الأهم فى هذا المشهد ليس فقط الإجراء.. بل الفلسفة. الفلسفة التى تقوم على أن بناء الدولة لا يتحقق بقمع الأخطاء بل بفضحها ولا يتقدم بالمجاملات بل بالمساءلة. فما قيمة دولة تخاف من اختبار نفسها؟ وما قيمة ديمقراطية لا تراجع نتائجها ولا تحاسب مؤسساتها ولا تسمح بتجديد الثقة؟ إن ما جرى يؤسس لمرحلة جديدة يتراجع فيها منطق "المهم النتيجة"، ويحل محله منطق "المهم أن تكون النتيجة مستحقة". وهذا التحول الذى يقوده الرئيس السيسى يمثل انتقالا من الشكل السياسى إلى عمقه.. من الانتخابات كطقس سياسى إلى الانتخابات كجوهر شرعية. إن الدولة التى تراجع نفسها بإرادتها هى دولة قادرة على البقاء والمجتمع الذى يحترم إرادة الناس هو مجتمع قابل للتقدم. وقد أثبتت مصر – مرة أخرى – أنها لا تخشى النقد ولا تخاف من التصحيح. إنها تتصرف كدولة ناضجة تعرف أن قوتها ليست فى إخفاء أخطائها بل فى شجاعة مواجهتها. من هنا يمكن القول إن قرار إعادة الانتخابات ليس مجرد خبر سياسى بل حدث تأسيسى فى تاريخ الممارسة الديمقراطية المصرية. وفى ظل قيادة تؤمن بأن الشرعية تُبنى كل يوم وبأن ثقة الناس أغلى من أى مكسب سريع—نستطيع أن نفهم أن ما حدث ليس تصحيح انتخابات.. بل تثبيت دولة. هنا فقط يصبح المواطن شريكا وتصبح السياسة مسؤولية وتصبح الجمهورية الجديدة واقعا… لا شعارا.