على أبواب اللجان لا يقف المصريون ليختاروا نائبا فحسب بل ليكتبوا سطرا جديدا فى حكاية وطن لم يتعب من اختبار نفسه ولم يملّ من إثبات أنه يعرف طريقه حتى وسط العواصف. فكل مرة يصطف فيها الناس أمام الصناديق لا تكون مجرد جولة انتخابية ، بل لحظة صدق بين الوطن وأبنائه.. لحظة يسأل فيها التاريخ: من الذى ما زال يراهن على المستقبل؟ لم تكن الانتخابات فى مصر يوما مشهدا بروتوكوليا بل مرآة تعكس ما بداخلنا: مدى وعينا قدرتنا على التمييز بين الصوت الذى يُباع والصوت الذى يُبنى عليه وطن. ولهذا تبدو الصورة أمام اللجان أصدق من كل الخطب وجوه تحمل تعب الأيام لكنها تحمل أيضا الإصرار على الحضور وكأنها تقول: لسنا جمهورا فى مسرح السياسة، نحن الممثلون الحقيقيون على الخشبة.
فى كل خطوة نحو اللجنة حكاية. شاب يدخل لأول مرة وهو يكتشف معنى أن يكون صوته له وزن وعجوز تمسك بعصاها كمن تحرس ذاكرة طويلة من الانتخابات والعهود ، وامرأة تحمل طفلها فى يد وبطاقتها فى الأخرى وكأنها تقول: "هذا الصغير لن يورث اللامبالاة". تلك المشاهد البسيطة هى التى تصنع المعنى الكبير.
الانتخابات ليست مجرد تنافس على المقاعد بل امتحان لدرجة نضج المجتمع. فالمصريون الذين عاشوا تحولات كبرى من زمن الشعارات إلى زمن الأفعال باتوا يعرفون أن الورقة الصغيرة التى يضعونها فى الصندوق أخطر من أى بيان سياسى أو هتاف فى الشارع. الورقة التى تُكتب فى دقائق قد تُغيّر وجه البلاد لسنوات.
ولهذا لم يعد السؤال: من سينجح؟ بل: ماذا نريد أن ننجح فيه نحن؟ هل نختار من يعبّر عنا بصدق؟ من يمتلك رؤية لا شعارًا؟ من يرى الناس لا الكراسي؟ فالقضية لم تعد بين مرشح وآخر بل بين أسلوبين فى التفكير: وعى يريد أن يبنى وصوت يريد أن يعود إلى الوراء.
الذين يعتقدون أن الانتخابات مجرد أرقام يخطئون فهمها. فالقيمة ليست فى عدد الأصوات بل فى معناها. ما الذى يدفع إنسانا بسيطا لأن يقف فى طابور طويل تحت الشمس؟ ليس وعدا بخدمة ولا طموحا فى مصلحة بل رغبة دفينة فى أن يُسمع صوته أن يكون جزءا من القرار أن يقول — ولو مرة فى العام — أنا هنا.
إن الحكاية فى جوهرها ليست سياسية بل إنسانية. إنها عن المصرى الذى لم يفقد إيمانه بنفسه رغم كل ما مرّ به وعن الدولة التى تراهن على وعى مواطنيها لا على دعايتها. كل صندوق اقتراع فى مصر ليس مجرد وعاء للبطاقات ، بل خزان لذاكرة جماعية تقول: نحن نختلف نعم لكننا لا نختلف على الوطن.
على أبواب اللجان تتصافح الأجيال بلا ترتيب ولا فوارق. موظف بجوار فلاح شابة بجانب أمٍّ كبيرة طالب يقف بجوار جندي. مشهد بسيط لكنه يلخّص فكرة الوطن: أن نقف فى الصف نفسه مهما اختلفت أماكننا فى الحياة. هذه هى العدالة التى لا تُكتب فى الدساتير بل تُمارس فى الواقع حين يقف الجميع أمام الصندوق متساوين.
الانتخابات ليست نهاية الطريق لكنها بدايته. فبعد أن يُغلق الصندوق تبدأ مسؤولية أخرى: مسؤولية المتابعة، والمساءلة، والتصحيح. لأن الوعى لا يتوقف عند التصويت بل يستمر فى مراقبة من صوّتنا له وتشجيع من يعمل ومحاسبة من يخذل. فالديمقراطية ليست لحظة واحدة بل سلوكٌ متراكم يعلّمنا أن الوطن لا يُدار بالتمني، بل بالفعل.
إن أجمل ما فى هذا المشهد أن مصر — رغم كل التحديات — ما زالت قادرة على أن تُجرى انتخابات آمنة وشفافة ومنظمة فى محيط إقليمى مضطرب. وهذه وحدها رسالة إلى العالم بأن الدولة المصرية لا تنتظر من يمنحها شرعية لأن شرعيتها تُكتب فى الصندوق بأقلام أبنائها.
على أبواب اللجان تتلخّص الفكرة كلها فى مشهد بسيط: مصرى يضع ورقته فى الصندوق ثم يمضى مطمئنا. لا يعرف من سيفوز لكنه يعرف أنه قام بواجبه. هذا الإحساس بالواجب هو ما يحفظ الأوطان من الانزلاق وهو ما يجعل مصر تبدو دائما أكبر من اللحظة وأكبر من ورقة انتخاب.
لأنها ببساطة حكاية وعى قبل أن تكون معركة أصوات وحكاية وطن لا يزال يُراهن على أبنائه كل مرة ويفوز.