هل يمكن، تبرير قيام الدولة الديمقراطية تبريرا عقلانيا حتى يمكن إثبات تفوقها على غيرها من أشكال الحكومات وفقا لهذه الأسس العقلانية..؟ إن جميع الحكومات سواء كانت تدعى اعتناق الديمقراطية، أو لا تدعى ذلك، تزعم انها شرعية، بمعنى انها تقنع نفسها بأنها تتمتع بولاء أولئك الخاضعين لسلطانها..! وبالطبع ليست الحكومات الديمقراطية مستثناة من هذا التعميم. وبناء عليه فكل الحكومات أيا كانت، فهى تطالب مواطنيها بدفع الضرائب والدفاع عنها فى وقت الضرورة حتى الموت، وتبرر الحكومات ذلك بأن وجودها وسياستها راجعان الى الفلسفة السياسية، وتزعم هذه الحكومات الديمقراطية أنها تتبع نهج هذه الفلسفة. ومن هنا ينبغى عدم الظن بوجود هوية بين فلسفة سياسية ديمقراطية وبين ممارسات ديمقراطية مألوفة، مثل حق التصويت العام، ونظام تعدد الأحزاب، ورئيس الجمهورية، ومجلس الشعب.. إلخ وتعتبر هذه الوسائل هى أنجح الصيغ والممارسات الحكومية الفعلية التى اخترعت حتى الآن، ويفترض أن الحكومات الديمقراطية هى التجسيم العملى للفلسفة السياسية الديمقراطية. ومما لاشك فيه أن بعض أنصار الديمقراطية، قد ذكروا أن الديمقراطية تستند الى الأديان السماوية، وإلى قوى خارقة فوق الطبيعة، وأنها فى الواقع تجسيم لإرادة الله، ولقد اتفق بعض نقاد الديمقراطية والمدافعين عنها، على أن لها أصلا إلهيا، ووصفوها بأنها جزء من الأخلاقيات العقائدية التى ترجمت إلى لغة الأرض بعد هبوطها من السماء، لكن وفقا للنظرة العلمية السائدة اليوم، فإن بعض هذه العقائد لم تعد تبدو كحقيقة، ولكنها أصبحت تظهر بمظهر الحلم، وتبعا لذلك لم تعد. الديمقراطية تبدو فى نظرهم أكثر من حلم، بغض النظر عن مدى استهواء هذا الحلم لها، ومع ذلك يقف أنصار الديمقراطية بقوة أمام القائلين بهذا الرأى والرد عليهم، بأنه لو أريد للديمقراطية البقاء والانتعاش، فيتعين على كل إنسان أن يكون متدينا، (ليس من الغريب أن نسمع من شخص مثل «بوش» يدعى انه مرسل من قبل الله لنشر العدالة والحرية على الأرض لكونه مخولاً لإرساء الديمقراطية فى العالم) ولذلك نجد فى المجتمعات المتعددة الأديان، يشجع أولى الأمر فيها الناس بالدفاع عن القاعدة الدينية الديمقراطية، وحثهم على توسيعها بحيث لا تقتصر على دين واحد، بل تنتشر لتشمل كل الأديان، وإلا كيف يمكن التوفيق بين القصة التى ترى أن لكل فرد قيمة فى ذاته، ومبدأ خلق جميع البشر متساويين..؟ القضيتان متناقضتان..! فما المقصود بالمساواة فى نظر هؤلاء القائلين بذلك؟ هل هى المساواة فى المواهب؟ أم المساواة فى الدخل؟ أم المساواة فى القانون أم هى المساواة فى الفرص..؟ إن كل مواطن بالغ لا يتصف بالجنون أو التخلف بوسعه أن يلتحق بأى وظيفة بالانتخاب، فهل تعنى كلمة مساواة كل هذه المعانى، أم بعضها..؟؟ أو ربما لاتعنى أى معنى منها .؟ أى أنها فارغة المعنى..! فاذا سلمنا جدلا بعبارة أن جميع الناس خلقوا متساوين، فهل هذه القضية صحيحة أم باطلة ..؟ هل تعد هذه القضية تعميما تجريبيا مثل قولنا (إن الماء يتجمد فى درجة الصفر المئوى). فلو صح ذلك فإن ظهور انسان واحد لا يتساوى فى خلقه مع الآخرين، قد يثبت بطلان هذه القضية، بل وهذا التعميم..! أو ربما تكون هذه القضية.. قضية ايعازية، أكثر منها قضية... أى بمعنى الرغبة القوية فى خلق الجميع متساوين، فإذا كان ذلك كذلك فإن القضية لن تصبح صحيحة أو باطلة، لأن الرغبة لا توصف بالصحة أو البطلان..! وبناء عليه، نريد أن نتساءل عن ماهية الأسس العقلانية المقنعة التى يمكن الاهتداء اليها في الفلسفة السياسية الديمقراطية.. والتى تفسر لماذا تخضع الأقلية المعارضة لمشيئة الأغلبية..؟ وهل يعكس صوت الأغلبية حقا إرادة أغلبية المواطنين..؟ ليس هناك اجابة سهلة يمكن التوصل اليها لهذه الأسئلة، ولكن من المعروف أن القوانين تقترح ويصدق عليها من قبل ممثلين منتخبين، وليس عن طريق الصوت المباشر للشعب، بل تقوم جماعة معينة (لوبى – أو فهلوية) عادة لاتمثل الشعب، وانما يمثلون نخباً من الأثرياء والوجهاء من أصحاب المصالح الكبرى فى الدولة، هؤلاء يقومون بترويض ممثلى الحكومة لصالح تلك النخب. وقبل أن يصوت المجلس التشريعى على القوانين فى جملتها، يتعين مرورها على احدى لجان المجلس التى تتألف من عدد صغير من المشرعين وهم عادة ما يكونون قلة، يعاد انتخابهم المرة تلو الأخرى من قبل فئة صغيرة من الشعب، هذه الفئة تمثل المدن والأقاليم بحيث لا يواجه المرشح أية معارضة سياسية ذات بال..!! وهذا يعتبر مثلا واضحا يعمل به فى كل من واشنطون ودول أوروبا والقاهرة ودول عربية أخرى. فى مثل هذه الأنظمة لا ينتخب رئيس الجمهورية الذى يمثل جميع فئات الشعب (ظاهريا) انتخابا مباشرا من الشعب، ولا يهم اذا لم يحصل الرئيس فى مثل هذه الأنظمة على العدد الضرورى من الأصوات، حيث إن فى مقدوره أن يصبح رئيسا للدولة حتى اذا لم يحصل على أغلبية الأصوات، وذلك واضح وجلي فى الانتخابات الرئاسية للبيت الأبيض، ومع أغلب الرؤساء وعلى وجه الخصوص مع «بوش» وفى بريطانيا مع «بلير» وفى كل الدول العربية، وينطبق ذلك على أعضاء مجلس الشعب، والبلديات وأى مجالس انتخابية فى دول ديمقراطية ، وذلك لأن كل الذين يتمتعون بحق التصويت، كثيرا ما يعزفون عن ممارسة حقهم المشروع ،ويعنى هذا أنه فى جميع الأوقات يوجد هناك عدد لا بأس به من الشعب يعارضون من يحكمونهم، ولا يعتبرون حكامهم ممثلين شرعيين لإرادتهم على الإطلاق، فلا جدال أن الأغلبية بأعدادها الهائلة قادرة على إرغام الأقلية المعارضة على مسايرتها لإرادتها، ومهما كان مقدار ذلك الاعتراض الصامت للأقلية..!! ولدينا هنا فى أنظمتنا العربية مثل عظيم على ذلك، إلا أننا نؤكد أن هذا التفوق لا يتعدى غير انه تفوق فى العدد والقوة فقط ، وليس تفوقا فى العلم والأخلاق والفضيلة، لذلك يصبح لأى ديكتاتور فى العالم عندما يطمئن لسلطانه، أن يحقق قدرته على اتخاذ القرار بطريقة بعيدة عن التناقض والتذبذب، ذلك لأن الأغلبية المؤلفة من الأغبياء، من المقدر لها أن تهتدى لقرارات حمقاء أكثر من أغلبية أصحاب الرشد..!!