إلهام بلحاج تعتبر الرواية إحدى الأجناس الأدبية التى اهتم بها الباحثون بالدراسة والنقد، لأنها أخذت مكانة مهمة بين الفنون الأدبية الأخرى، وعرفت تطورا كبيرا وانتشارا واسعا نتيجة امتلاكها مقومات التأثير فى المجتمع والرواية من أهم الفنون النثرية الحديثة والمعاصرة التى ساهمت فى بناء العمل الفنى فقد اخترنا موضوع البنية السردية لرواية عقدة ستالين لعبد الوهاب عيساوى، ينبع من قناعة بأن الشكل السردى فى هذه الرواية ليس مجرد وعاء للأحداث، بل هو بنية دالة تكشف أبعاد نفسية وفكرية عميقة. رواية عقدة ستالين لعبد الوهاب عيساوى من الأعمال الروائية الجريئة التى تمزج بين الهم النفسى والاجتماعى، وتغوص فى الذات المهزومة تحت وطأة الفقد، القمع، الهوية المتشظية، فقد كتبها عبد الوهاب عيساوى بأسلوب يميل إلى الاعتراف المؤلم. تحكى الرواية قصة البطل عامر، الشاب الذى يعانى من اضطراب داخلى وقلق وجودى عميق، تدور أحداث الرواية بين الواقع والخيال، ويغوص فيها السارد فى أعماق الذات، محاولا فهم علاقته بالآخرين وبالمكان وبنفسه التى تنهار بصمت، من خلال العودة إلى الماضى لاسترجاع تفاصيل الجرح، ومحاولة تجاوزه أو التعايش معه. عتبة الغلاف: يشكل الغلاف الخارجى لأى عمل روائى عتبة أولى للقراءة. من خلال غلاف رواية عقدة ستالين يظهر لنا شخص مشتت أو ربما توحى الصورة إلى الاغتراب عن الذات، أو تكون ملامح الوجه على حالة الانكسار الداخلى والانفصال بين البطل وجسده. عتبة العنوان: العنوان جاء مركبا من كلمتين، عقدة: وهى كلمة ذات حمولة نفسية تحيل إلى اللاشعور، المكبوت، أو اضطراب داخلي. ستالين: وهو شخصية تاريخية سياسية معروفة فى الاتحاد السوفياتى، وهو رمز للقمع، التسلط، القسوة، فهو منظومة قمعية مسيطرة متكاملة. عنوان يزاوج بين ألم الذات وجبروت السلطة. بنية الشخصيات فى رواية عقدة ستالين: تعد الشخصية فى الرواية مكونا من مكونات النص السردى، فهى مكون أساسى لكونها الوحيدة التى يعتمد عليها الكاتب لنقل أفكاره ومواقفه وابراز توجهه. الشخصيات الرئيسية: الراوى: الراوى هو المتحدث وقد تمثل فى شخصية «عامر»، وهو شخصية رئيسية احتلت حيزا كبيرا فى الرواية من بدايتها إلى نهايتها، فعامر ليس بطلاً تقليدياً، بل هو شخصية مأزومة، تمثل نموذجا للذات المنكسرة فى ظل سلطة الجسد والمجتمع والذاكرة. وظيفته فى النص راو داخلى، يسرد حكايته بصيغة المتكلم، مما يجعل القارئ قريبا من وعيه وتوتراته النفسية، فهو يعيش فى صراع داخلى دائم. يقول فى النص: «لا يعرف الطبيب أننى أصبحت وحيدا». ويقول أيضا: «اجتاحنى شعور غريب، رغبة معقدة لم أفهمها، غصة ملأت قلبى، أول مرة أنتبه لذلك الفراغ، أوشكت أن أصرخ عاليا، احتقن وجهى، امتلأت عيناى بالدموع، وشرعت أبكى». فعامر شخصية معقدة، وهو مرآة لواقع نفسى واجتماعى مختل، يعيش فيه الإنسان مأزق الخذلان، وهشاشته فى مواجهة الجسد، المجتمع، السلطة. الشخصيات الثانوية: شخصية الأم: تمثل الأم الضاوية نموذج الأم الريفية التقليدية، فهى الحنونة، القلقة، فهى السلطة الاجتماعية المحافظة، التى تمارس رقابة على الذكر والأنثى على حد سواء. ما جاء فى النص: «بعد سنوات، حدثتنا أمى عن الصباح الذى تلا ليلة صباغة الصوف كأنه يوم أسطورى. باتت ليلة كاملة تخلط مواد الصباغة؛ قشور الرمان المطحونة، الحناء، ومواد أخرى، إلى أن تشكل أماها لون جديد، جمعت الخيوط فى قدر معدنية كبيرة، صبت عليها الماء والصبغة، ووضعتها على نار هادئة. انتظرت إلى أن غلى الماء وامتصت خيوط الصوف اللون...». شخصية الأب: فهو نموذج السلطة الذكورية التقليدية، فصمته لا يترجم دعما، بل يفسر كنوع من الرفض أو الخذلان. ما جاء فى النص: «لم يتوقف أبى عن انتعال الأحذية العسكرية رغم اصابته بالزهايمر، حتى حين بترت رجله بسببها، لم يقتنع، تكلم طويلا عن المكتوب، وعيناه تطالعان الأفق حينا، ثم ينظر إلى رجله المقطوعة...كومت معها الأحذية العسكرية التى كان يحتفظ بها، فصب عليها البنزين بنفسه وأحرقها، وجلس أمام النار مادا رجله المقطوعة إلى أن صارت رمادا، ثم مات بعد أيام قليلة». شخصية الزهرة: تمثل شخصية الزهرة كرمز للجمال، والأنثى المقموعة فهى تعيش تحت سطوة المجتمع والتقاليد، فهى عنصر رمزى قوى فى السرد، لأنها تسلط الضوء على التوازى بين معاناة الذكور والإناث داخل نفس المنظومة الاجتماعية المغلقة. ما جاء فى النص: «تفكر الزهرة بطريقة واضحة ومباشرة، ليس مثلى، لا أستطيع أن ألزم الحياد، تعرف ما تريد، حددت أهدافها مسبقا، وتحدت الجميع لتحققها». شخصية الخال عمر: ينتمى إلى الجيل المحافظ، يتصف بنوع من الهدوء، يمثل نموذجا كثير التكرار فى المجتمعات المغلقة، لكنه يخشى الاعتراف والبوح، فقد يعانى من الحب ومن فقد حبيبته. ما جاء فى النص: «لم أعرف لخالى عمر بيتا، مثلما تقول الضاوية: مرفود على الألواح، من بيت إلى بيت، ومن قرية إلى قرية. يختفى أياما ثم يعود، كل مرة فى حال جديدة، قد يغادر فى اليوم الموالى، وقد يبقى أياما.... شخصية الكلب ستالين: الكلب ستالين ليس كلبا عاديا فى السرد، بل يحمل رمزا ثقيلا تاريخيا، ويؤدى وظيفة رمزية وفكرية نفسية مركبة، فهو الأنيس الوحيد لعامر فى عزلته المدنية والقلق النفسى، فكلاهما يعيشان على الهامش، جسديا ونفسيا، وهكذا يصبح ستالين صورة عاكسة لحالة البطل لا مجرد كلب. ما جاء فى النص: «طالعت وجهى على شاشة الكاميرا...فرأيت ستالين على الشاشة، وجهت كل الكاميرات نحوه وقف، وانتفض فى مكانه ثم سار خطوات نحو المنصة، ولم يوقفه أحد أو يعترض طريقه هممت بالوقوف ثم تراجعت بإشارة من الحراس. توقعت الكارثة ويدى على قلبى، ولكن ستالين كان أكثر ثقة منى، ارتقى الدرجات تحت نظرات الجميع، واقترب أكثر من الكولونيل الذى ربت على رأسه، ثم بإشارة منه حملت الوسادة إليه، ووضعت عند قدميه». شخصية صونيا: هى زوجة عامر ارتبط بها ضمن إطار داخلى، لأنه أنقذ كلبها ستالين من الغرق، فهى تجسد جانبا من الصراع النفسى السلطوى داخل علاقته مع المرأة والمجتمع. ما جاء فى النص: «بعد سنوات من زواجى بصونيا، اكتشفت أنها تروقنى، فتننى شيء فى قسوتها وعنفها، ظل حبيسا داخلى، ولم أستطع التعبير عنه، أو ربما تحول رضى ورغبة متواصلة فى تلبية طلباتها التى تتجدد كل يوم، وخاصة بعد زواجنا». البنية الزمانية فى رواية عقدة ستالين: يعد عنصر الزمن من العناصر الفاعلة فى الرواية، ولهذا فلابد من تحديده وتبيان مدى مساهمته فى تشكيل بنية النص السردى. من المفارقات الزمنية فى الرواية نجد: الاسترجاع: يعرفه جيرالد برنس: «مفارقة زمنية تعيدنا إلى الماضى بالنسبة للحظة الراهنة، وهو استعادة لواقعة أو وقائع حدثت قبل اللحظة الراهنة التى يتوقف فيها القص الزمنى لمساق الأحداث ليدع النطاق لعملية الاسترجاع". استرجاع خارجي: ويقصد به العودة إلى أحداث وقعت قبل بداية زمن الرواية أو ما قبل اللحظة التى ينطلق منها السارد. وتمثل هذا فى النص: «أحب ستالين، وبفضل علاقتى الطيبة به، دام زواجى بصونيا أربعة أعوام. نعم أربعة أعوام كاملة، لقد مر على عيد زواجنا ثلاثة أيام قضيتها راقدا بالمستشفى...». استرجاع داخلي: ويقصد به استعادة أحداث ماضية لاحقة لزمن بدأ الحاضر السردى وتقع فى محيطه ونتيجة لتزامن الأحداث يلجأ الراوى إلى التغطية المتناوبة حيث يترك شخصيته ويصاحب أخرى لتغطية حركتها. وتمثل هذا فى النص: «خيرة غريبة مثلى عن العاصمة، لكنها أكثر جرأة، تمنيت لو التقيتها قبل سنوات، لكنا صديقين حقيقيين. لم أفهم سبب تعاطفها معى، كان فى المستشفى كثير من المرضى، وآثرت العناية بى أكثر، ربما لأن جرحى كان غائرا مثلما قالت...". الاستباق: تعرفه مها حسن القصراوى بأنه: « مفارقة زمنية سردية تتجه إلى الأمام بعكس الاسترجاع والاستباق تصوير مستقبلى لحدث سردى سيأتى مفصلا فيما بعد". تمثل هذا فى النص: «سأصبح رجلا مهما". البنية المكانية فى رواية عقدة ستالين: يعد المكان «الفضاء التى تجرى فيه أحداث الرواية، فهو يرتبط بقيمة الحماية التى يمتلكها المكان، والتى يمكن أن تكون قيمة إيجابية. قيم متخيلة سريعا ما تصبح هى القيم المسيطرة، وأن المكان الذى يتجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعى فقط، بل بكل ما فى الخيال من حيز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود فى حدود تتسم بالحماية". من الأماكن المغلقة فى الرواية: المستشفى: يقول فى النص: «قعدت على الأريكة بثقل وشرعت أراقب الحديقة الخلفية للمستشفى. قلت: من فوق تبان الجنينة مختلفة - بدا مترددا فى قول شىء، يهم مرة ثم يتراجع. وقال أخيرا: - ماتقلقش روحك، هم عشرة أيام... فات منهم أربعة. المدرسة: يقول فى النص: «لا تزال الصور الأولى للمدرسة عالقة بذهنى: حارس كهل عند الباب، أقسام قديمة توشك أن تتهاوى، طاولات خلفها الاستعمار، ساحة واسعة محاطة بأشجار الكاليتوس، صنوبرات ثلاث خلف الأقسام وخطوط الدود متدلية منها، سبورة خضراء كبيرة، وأصابع طباشير ملونة، وخزانة القسم، ومعرض خلف الطاولات". الخيمة: يقول فى النص: «على مسافة غير بعيدة من شجرات الأثل، شرع أبى فى بناء الخيمة تعينه أمى، وانشغل جلول فى دق أوتاد الزريبة، وظلت الزهرة تراوح بيننا وبين أمى وأبى...فى الليلة الأولى للعزيب، ذبحت أمى دجاجة كانت عزيزة عليها...». فهذه الأماكن المغلقة لها دور رمزى عميق يعكس حالة الانغلاق النفسى والاجتماعى التى يعيشها البطل، فهى لا تظهر كمجرد خلفيات للحدث، بل تشكل جزءا من البنية النفسية للسرد. من الأماكن المفتوحة فى الرواية: العاصمة: يقول فى النص: -العاصمة ولات ماتتحملش خلاص من سنين وهى كيما هاك...ماتبدلتش كنت ظان كى خرجنا للشارع راح نبدلوها، بصح حاجة ما تبدلت...الحاج موسى و موسى الحاج...زادت فسدت أكثر... وهران: يقول فى النص: «فى وهران، زارنى خالى مرتين: فى الأيام الأولى بعد تحويلى، ثم حين لم يبق إلا شهران لخروجى...اصطحبوا الفرقة كلها، ولم تنس مديرية الثقافة الراقصات، بلباسهن الأبيض الجميل: السخاب على الصدور، والريش أعلى العمائم...". العزيب: يقول فى النص: «اعتاد أهلى العزيب سنوات القحط ومواسم الحصاد. ينصبون الخيام، يشاركون فى الحصاد، وترعى الأغنام على قصب السنابل. وبعد أن تذر السنابل ويصفى الشعير، توزع الحصص. يولمون جماعيا واعتاد خالى أن يحضر، إذ خصصوا له حصة من الغلة هو الآخر، يحى الحفلة بالغايطة، ويرقص الرعاة والفلاحون جميعا". هذه الأماكن تمثل فضاء للهروب المؤقت من القيود التى تفرضها الحياة اليومية، لكنها فى الوقت ذاته لا تمنح الشخصيات حرية حقيقية. فالخارج، لا يقدم كملاذ، بل كامتداد للتيه واللاجدوى فالشخصيات فى تنقلها داخل هذه الفضاءات لا تتحرر، بل تظل تائهة، تحمل خيباتها معها أينما ذهبت، وبهذا تؤدى الأماكن المفتوحة دورا دلاليا، إذ تبرز التناقض بين الامتداد المكانى والانغلاق الوجودى. اللغة: تتسم اللغة فى رواية ستالين بتنوعها وتعدد مستوياتها التعبيرية، حيث يمزج الكاتب بين العربية الفصحى والدارجة الجزائرية بشكل سلس، فهو يمنح الحكى طابعا واقعيا ومحليا. الفصحى تستخدم بأسلوب واضح ومتزن، فهو يقدم السرد ويمنحه عمقا فكريا وبلاغيا، فيما تظهر الدارجة الجزائرية خصوصا لهجة الغرب فى الحوارات والمواقف اليومية، وقد تمثل هذا فى النص: « ثم شغلت أغنية راى بصوت خشن، للشيخة الريميتى. سألتنى: - وأنت شا تبغى تسمع؟ - قبل مانعيش فى العاصمة، نحب الأغانى البدوية، وضركا نسمع واش دير صونيا - وستالين شايبغى؟ - ال«روك أند رول» - مرات - على بالك...مليح لى شورت... فهنا اللهجة تعكس البيئة الثقافية والاجتماعية التى تتحرك فيها الشخصيات. كما نلاحظ توظيف بعض الكلمات والتعابير الفرنسية التى تدخل بشكل طبيعى ضمن نسيج اللغة، وقد تمثل هذا فى النص: «فى الشهر الأول لا حظت صونيا أنه بدأ يستجيب لندائى بالعربية، مستوعبا كلمات من لهجتى البدوية، فلم تتقبل الأمر، خاطبتنى: -Ecouté. Ameur. tu ne dois pas lui parler de cette facon. ومدتنى بدليل صغير آخر تضمن الكلمات المناسبة، وقالت: -Il ne devrait pas s'habitur à ces mots populaires فهذا يضفى على الرواية صدقا فى تمثيل الواقع اللغوى المعاش. كما اعتمد الكاتب عبد الوهاب عيساوى ضمير المتكلم فى السرد، ما يجعل اللغة أكثر حميمية وقربا من ذات الشخصية الرئيسية ويمنح النص طابعا وجدانيا وتأمليا يعمق من فهم القارئ للأحداث والدوافع النفسية، كل هذه العناصر مجتمعة تنتج لغة أدبية حية، متداخلة الطبقات تخدم الرواية فكريا وجماليا. وفى الختام يمكن القول أن الكاتب عبد الوهاب عيساوى استطاع أن يخلق سردا مركبا يعكس تمزق الذات بين الماضى والحاضر، وبين الحلم والخذلان. فالرواية مرآة عاكسة لحالة إنسانية معقدة يعيشها الفرد فى واقع يغلب عليه القلق، والتهميش من خلال شخصية تائهة تبحث عن معنى فى وسط الفوضى، وحوارات تنبض بالمرارة والسخرية، فقد رسم الكاتب ملامح واقع لا يرحم، تحكمه التناقضات والصراعات الخفية. الهوامش: عبد الوهاب عيساوى، عقدة ستالين، منشورات مسكليانى، ط1، 2025، تونس، ص19 المرجع نفسه، ص 26 المرجع نفسه، ص 33_34 المرجع نفسه، ص59 المرجع نفسه، ص95 المرجع نفسه، ص107 المرجع نفسه، ص165_166 المرجع نفسه، ص154 على المايغى، القصة القصيرة المعاصرة فى الخليج العربى، مؤسسة الانتشار العربى، بيروت، ط1، ص51 عبد الوهاب عيساوى، عقدة ستالين، ص07 المرجع نفسه، ص19 مها حسن القصراوى، الزمن فى الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص 211 عبد الوهاب عيساوى، عقدة ستالين، ص 39 غاستور باشلار، جمالية المكان: تر-غالب هلسا، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت، لبنان، ط2، 199'، ص 31 عبد الوهاب عيساوى، عقدة ستالين، ص 18 المرجع نفسه، ص43 المرجع نفسه، ص 45 المرجع نفسه، ص 18_19 المرجع نفسه، ص 104 المرجع نفسه، ص37 المرجع نفسه، 13_14 المرجع نفسه، ص151