بدأ المشهد من العاصمة الإدارية، حيث وقف الدكتور خالد عبد الغفار نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية وزير الصحة والسكان ليعلن إطلاق الاستراتيجية الوطنية للصحة الرقمية 2025 – 2029 خلال فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية كانت لحظة تعكس انتقالا حقيقيا في طريقة تفكير الدولة تجاه ملف الصحة وتكشف في الوقت نفسه عن رؤية حديثة تتعامل مع القطاع الصحي باعتباره إحدى أهم بوابات التحول الرقمي في مصر كلها. مؤتمر-الصحة
إعلان الوزير لم يكن مجرد عرض لخطة جديدة بل كان إشارة واضحة إلى أن الدولة انتقلت من مرحلة الكلام عن الرقمنة إلى مرحلة تنفيذها ووضع أسسها وربطها مباشرة بحياة المواطنين في كل محافظة. وتقوم الاستراتيجية التي قدمها الوزير على تصور شامل لمنظومة صحية رقمية متكاملة تبدأ من توحيد البيانات الصحية على المستوى الوطني وامتلاك كل مواطن سجلا صحيا رقميا دقيقا مرورا بتطوير بنية تحتية قادرة على التشغيل البيني بين المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة ووصولا إلى وضع معايير لأمن البيانات وتحليلها وتهيئة البيئة التشريعية والتنظيمية التي تستوعب هذا التطور. مؤتمر-الصحة
هذا التوجه يستحق الإشادة لأن مجرد التفكير في رقمنة القطاع الصحي يعبر عن انتقال في وعي الدولة وإداراتها المختلفة من الأنماط التقليدية التي اعتمدت لعقود على الملفات الورقية والأرشيفات الثقيلة إلى نمط جديد يرى في الرقمنة وسيلة لتحسين جودة الخدمة وتقليل الهدر وتوفير الوقت والجهد على المواطن. والأهم من ذلك أن الوزير خالد عبد الغفار يملك من الإرادة والقدرة ما يجعله مؤهلا لقيادة هذا التحول فقد أثبت خلال السنوات الماضية اهتمامه الشخصي بالتفاصيل ومتابعته الدقيقة للمشروعات الكبرى وقدرته على خلق تفاهمات بين القطاعات المختلفة وهي صفات ضرورية لنجاح أي تحول رقمي واسع في قطاع حساس ومعقد مثل الصحة. هذه السمات إلى جانب دعم الدولة ووضوح الرؤية تمنح الاستراتيجية فرصا حقيقية للتحول إلى واقع ملموس وليس مجرد وثيقة. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن الطريق ليس سهلا. تواجه الاستراتيجية عدة تحديات أساسية أولها تفاوت البنية الرقمية بين المحافظات ووجود وحدات صحية لا تزال تعمل بأجهزة قديمة أو بخدمات إنترنت غير مستقرة وثانيها ملف أمن البيانات الذي يحتاج إلى استثمارات كبيرة ومتابعة دقيقة لضمان سرية المعلومات الصحية للمواطنين وثالثها الثقافة المؤسسية التي تحتاج إلى تغيير تدريجي حتى يتعامل العاملون في القطاع الصحي مع الرقمنة باعتبارها وسيلة لتسهيل خدمتهم لا عبئا إضافيا عليهم. وهنا تظهر مسؤولية الوزير الحقيقية، فنجاح الاستراتيجية لن يتحقق من دون قدرة على مواجهة هذه التحديات بوضوح ووضع خطط تنفيذية دقيقة لكل محافظة وتدريب العاملين في الصف الأول ومتابعة أداء المستشفيات والوحدات الصحية والالتزام الصارم بمعايير أمن البيانات كما يحتاج الوزير إلى تعزيز التعاون مع الوزارات والجهات الأخرى حتى تتحرك المنظومة بشكل متكامل لأن الصحة الرقمية ليست مشروعا لوزارة واحدة بل مشروع دولة كاملة. وإذا استطاعت الوزارة أن تتغلب على هذه العقبات فإن المواطن المصري سيشعر بتغيير حقيقي في حياته اليومية. سيجد سجله الصحي أمام الطبيب في ثوان وستقل فترات الانتظار وستتحسن كفاءة الإنفاق وستصبح بيانات المرض والشفاء واتجاهات الضغط على المستشفيات واضحة ودقيقة وعندها فقط يمكن القول إن إطلاق الاستراتيجية الوطنية للصحة الرقمية لم يكن مجرد إعلان في مؤتمر كبير بل كان خطوة أولى في رحلة طويلة نحو منظومة صحية حديثة تليق بمصر وبالمصريين.