هي ضمير الشاشة وأيقونة السينما العربية .. هي سيدة الشاشة العربية كما لقبوها، أتحدث هنا عن الفنانة فاتن حمامة التي تركت لنا إرث فني خالد وتأثير لم ولن و لا يزول، فقد صنعت لنفسها بموهبتها وذكائها الفني تاريخا وأصبحت لها مدرسة في الأداء السينمائي.. فاتن حمامة تساوي لدي الصدق ، الالتزام ، الواقعية ، الرومانسية. في مثل هذا اليوم، نستحضر سيرة ومسيرة فنانة استثنائية لم تكن مجرد وجه جميل على الشاشة، بل كانت ضمير الفن وعماد السينما المصرية والعربية، إنها سيدة الشاشة العربية، فاتن حمامة، التي وإن غابت جسدًا، فإن إرثها الفني يظل حيًا متجددًا، يروي حكايات أجيال ويجسد قضايا مجتمع بأكمله، ولم تكن فاتن حمامة ممثلة عادية، بل كانت ظاهرة فنية، صنعت تاريخًا بأدائها المتفرد، وقدرتها على التغلغل في أعماق الشخصيات التي جسدتها، لتصبح رمزًا للإتقان والالتزام الفني. البدايات والمحطات المفصلية بدأت فاتن حمامة مشوارها الفني مبكرًا، في عمر السابعة، عندما اكتشفها المخرج محمد كريم وقدمها في فيلم "يوم سعيد" (1940) أمام موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وهذه البداية المبكرة لم تكن مجرد صدفة، بل كانت إيذانًا بميلاد نجمة فُطرت على الموهبة والقدرة على التعبير، وتوالت أعمالها في طفولتها، ومنها "رصاصة في القلب" (1944) و"دنيا" (1946)، لتصقل موهبتها وتضع أسس حضورها السينمائي. الانتقال إلى مرحلة الشباب شهد تحولات كبرى في مسيرتها ففي عام 1946، قدمت أول أدوار البطولة المطلقة في فيلم "ملاك الرحمة"، لتؤكد بذلك مكانتها كبطلة سينمائية واعدة. خلال الأربعينيات والخمسينيات، ازدهرت مسيرتها لتشمل أعمالًا أصبحت علامات في تاريخ السينما المصرية، مثل "لك يوم يا ظالم" (1951) الذي يعد أحد أهم أعمالها الدرامية، و"صراع في الوادي" (1954) الذي جمعها بعمر الشريف في بداية قصة حب وزواج أثمرت عن ثنائية فنية وشخصية أيقونية. لم تقتصر فاتن حمامة على نوع واحد من الأفلام، بل تنوعت أدوارها بين الدراما الاجتماعية، والرومانسية، والتراجيديا، والكوميديا الخفيفة، وكانت اختياراتها غالبًا ما تحمل قيمة فنية أو رسالة اجتماعية، وهو ما يؤكد وعيها بدور الفن. ومن أبرز أفلام هذه الفترة : "دعاء الكروان" (1959) المأخوذ عن رواية طه حسين، والذي جسدت فيه شخصية آمنة في تحول درامي مؤثر، و"نهر الحب" (1960) المستوحى من رواية "آنا كارنينا"، حيث قدمت أداءً بالغ التعقيد يجسد الصراع بين الحب والواجب، وفي الستينيات والسبعينيات، ازداد نضج فاتن حمامة الفني، وانعكس ذلك على عمق اختياراتها وقوة أدائها، فاتجهت نحو الأفلام التي تناقش قضايا مجتمعية حساسة وتنتقد الظلم والفساد، ومنها : الحرام1965 ، جسدت فيه دور "عزيزة"، " أريد حلاً " عام 1975، وكان له تأثير مباشر على تعديل قانون الأحوال الشخصية، وجسدت فيه دور "درية" التي تكافح للحصول على الطلاق من زوجها المسيء،"إمبراطورية ميم" (1972) وقدمت فيه شخصية الأم التي تربي أبناءها الستة بعد وفاة زوجها، وتواجه التحديات الأسرية بذكاء وحكمة، وعكس الفيلم جانبًا آخر من موهبتها في تجسيد شخصية الأم المصرية العصامية. لو تحدثنا عن أداء فاتن حمامة وتحليل لما قدمته عبر مشوارها سنجد أنها تتميز بأسلوب تمثيلي فريد، فهي تجيد تجسيد الشخصيات بصدق كبير، بعيدًا عن المبالغة أو التصنع. كانت تستمد قوة أدائها من قدرتها على التوحد مع الشخصية وفهم دوافعها النفسية والاجتماعية، وهذا الصدق كان يجعَل المتفرج يتعاطف معها ويصدق كل انفعال تصدره، سواء كان فرحًا أو حزنًا أو غضبًا، وتمتلك فاتن حمامة عيونًا معبرة بشكل استثنائي، وقادرة على نقل أعمق المشاعر دون الحاجة إلى حوار طويل، من النظرة الحزينة في "دعاء الكروان" إلى نظرة التحدي في "أريد حلاً"، كما كانت حركاتها الجسدية وإيماءاتها دقيقة ومعبرة، تخدم الشخصية وتضيف أبعادًا لها، وكانت نبرة صوتها تتكيف مع كل شخصية وموقف، فتارة تكون هادئة ورقيقة، وتارة أخرى حادة وغاضبة، بما يتناسب مع الحالة الدرامية، وهذا التحكم الصوتي أضاف إلى أدائها ثراءً وعمقًا. وإضافة لذلك سنجد فاتن حمامة لم تحبس نفسها في نمط معين من الأدوار، واستطاعت أن تنتقل بسلاسة بين دور الفتاة البريئة، إلى المرأة القوية المكافحة، إلى الأم الحنونة، إلى العاملة البسيطة، وهذا التنوع دليل على موهبتها الأصيلة وقدرتها على فهم وتحليل مختلف الشرائح الإنسانية، وساهمت في تقديم سينما ذات قيمة، تلتزم بقضايا مجتمعها، وتساهم في رفع الذوق العام، لقد كانت معيارًا للجودة الفنية، وقدوة للعديد من الممثلين الذين أتوا بعدها. رحلت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في عام 2015، لكنها تركت خلفها إرثًا فنيًا ضخمًا يضم أكثر من 90 فيلمًا ومسلسلًا تلفزيونيًا، وتظل أعمالها محل دراسة وتقدير، ليس فقط لفرادتها الفنية، بل لقدرتها على توثيق تاريخ مصر الاجتماعي والثقافي من خلال عيون نسائها وقضاياهن، في ذكرى ميلادها اليوم 27 مايو، نتذكرها ليس فقط كفنانة عظيمة، بل كرمز للجمال الهادف، والأداء الصادق، والالتزام بقيمة الفن ودوره في الارتقاء بالمجتمع. فاتن حمامة ستبقى دائمًا نجمة ساطعة في سماء الفن العربي، تُلهم الأجيال بمسيرة حافلة بالإبداع والتألق الخالد.