من يراقب كافة الأحداث فى مصر الآن سوف يتأكد أن وزارة الداخلية ليست وحدها التى تحتاج لإعادة هيكلة، بل إن الدولة بأثرها، مجلسا وبرلمانا وحكومة وشعبا، تحتاج لإعادة هكيلة، وإعادة ترتيب وتركيب وبناء، بل إن ذلك الطلب ذاته المنادى بإعادة هيكلة الداخلية يؤكد أن خللا ما ضرب نظم التفكير فى مصر المحروسة، فراح أهلها وساستها وقادتها يرددون كلاما سطحيا بلا عمق، بعد أن فقد الجميع القدرة - وعبر سنين طويلة من الضلال - على رصد الواقع كما هو، ومواجهته بكل تشوهاته، دون محاولة تجميل قبحه إلى حد التزييف، ثم تصديق هذا الزيف والبناء عليه، بما يعنى وجود إشكالية حقيقية فى الإدراك، أو ربما تعمد التغييب، إما تواطؤًا مع التردى، أو هربا من مواجهة الواقع لشدة قبحه. فوزارة الداخلية فى مصر لا تدرك أصلا معنى كلمة إعادة الهيكلة، وهو ما عبر عنه أحد مساعدى الوزير بشكل أو بآخر فى حوار له بأحد البرامج الفضائية. والحقيقة أن تلك الوزارة المهمة لا تعانى من خلل فى الهيكلة الإدارية والتنظيمية التى يطالب أعضاء البرلمان بإعادتها، وإنما الخلل الحقيقى فى البنية الذهنية والنفسية والشخصية لأفرادها، وكذلك فى تأهيلهم وتأهّلهم لخوض غمار مرحلة جديدة تختلف تماما عن سابقتها، وحقيقة الأمر أنهم غير مؤهلين أو قادرين على ذلك، ولكنهم يحاولون الآن مجاراة ومسايرة الأحداث حتى تمر "الأزمة" ليعودوا كما كانوا، وربما هذا ما كثر الحديث حوله بطريقة التفافية وضبابية وغير مباشرة، تحكى عن انخفاض الروح المعنوية لدى ضباط الشرطة، وضرورة معالجتهم منها كشرط لعودتهم، وفى الحقيقة أن نفس الأفراد الموجودين الآن على رأس العمل غير قادرين فعليا على التغيّر أو العمل بعد اختلاف بيئته وأسلوبه وأدواته، حيث إنهم التحقوا بالعمل فى هذا القطاع على الشرط السابق وليس الحالى، وبذل أهلهم فى سبيله الغالى والنفيس ليكون أبناؤهم ضباطا على طريقة حبيب العادلى وسابقيه، فلا يمكن الآن لمن جاء ليعمل جزارا أن تطلب منه فجأة أن يصنع عطورا. وللحق والإنصاف ليست الداخلية فقط هى من وقعت فى هذا المأزق، بل متورطا فيه للرُكب كل مسئولى الدولة والسياسيين والبرلمانيين وحتى أفراد الشعب ذاته، وما كان استهلال الحديث بوزارة الداخلية إلا مثالا يمكن أن تطبقه تماما على بقية مؤسسات الدولة ومسئوليها بلا استثناء. فلا أحد منهم يفهم معنى أن مصر إن لم تكن قد تغيرت بعد الثورة فإنها لابد أن تتغير، وإلا وقعت فى كارثة الفوضى العارمة، حيث إن تململ الدولة بعد زلزال الثورة يستدعى إعادة الترتيب والهيكلة حتى فى عقلية أفرادها، وإلا انهار المجتمع والدولة بالكامل. فقوى الأكثرية فى البرلمان المنتخب مازالت تتعامل بعقلية المعارضة، التى تطالب ولا يستجاب لها، والتى تنادى فلا يسمعها أحد، والتى تخشى مواجهة الحكومة والمجلس العسكرى، دون أن تدرك أنها أغلبية منتخبة شرعيا من الشعب، ويجب على أى قوى أخرى غير منتخبة أن تسمع وتطيع، حيث إن الدستور الساقط، والذى لا يدركون أصلا أنه سقط فيتعاملون "على قديمه"، وحتى الإعلان الدستورى نفسه المستفتى عليه يقول فى بنده الثالث: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها"، ولكنهم للأسف لم يدركوا بعد أنهم يمثلون الشعب، وبالتالى لا يتصرفون كسادة، ولكن كرعايا عليهم أن يتسولوا حقوقهم على أعتاب ولى النعم، ويتذرعون أمام فشلهم وخنوعهم بمبدأ الفصل بين السلطات، بينما يرون هذا المبدأ ينتهك ألف مرة دون تحريك ساكن، بل يرون الدستور لا يحترم والقوانين لا تطبق ولا نسمع منهم سوى طنين، ولا نرى عسلا. وليست فضيحة أمريكان قضية التمويل ببعيدة، والتى اخترقت فيها السلطة القضائية فأهان الجميع الوطن والقانون والدستور والكرامة والانتماء والأمانة وكل القيم التى من المفترض أن تكون موجودة، ولكنها لم تكن. فهل رأينا طحنا من المجلس المنتخب حتى الآن أم فقط سمعنا جعجعة ومحاولات تخدير للشعب من أجل تمرير نفس "الأزمة"؟ فى الحقيقة لم نرَ حتى الآن من البرلمان أى إنجاز من أى نوع، حتى القوانين والتشريعات التى من صلب مهامه يشكو رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب المستشار محمود الخضيرى أنها مجمدة فى الأدراج، وبالتالى لم نرَ أى قانون يحتاجه الناس بعد الثورة، بما فيه قانون استقلال السلطة القضائية. وهو ما يثير تساؤلات حول دور البرلمان ومدى إدراكه لمهامه فى ذلك الظرف الحرج، فإما أنه أيضا يعانى مما تعانى منه أجهزة الدولة من عدم إدراك للثورة، أو أنه يريد أيضا مسايرة الموجة حتى تمر من أجل تبريد الشعب الثائر، الذى من المؤكد أنهم لم يعدوا يريدونه ثائرا. ولكن فى كل الأحوال يجب أن يحصل أكثرية البرلمان على كامل فرصتهم حتى يمكن محاسبتهم فعليا على ما قدموه أو قصروا فيه، وذلك بتوليهم الحكومة حتى يمكنهم تنفيذ أفكارهم وتحقيق ما يطلبه منهم ناخبوهم بأنفسهم، وليس عن طريق مطالبة حكومة لا تملك رؤية أو ولا إدراكا بحقيقة الثورة أو المرحلة ومتطلباتها، حيث لا تعمل فقط على قديمه، بل هى القدم ذاته. ومن البرلمان والحكومة إلى المجلس العسكرى لم يختلف الموقف أو المشهد كثيرا، فشأن المجلس شأن كل القدامى، يكره أى تغيير أو تعديل فى الفكر أو الأسلوب أو الشكل أو المضمون، فكل القدماء محافظون إلا من رحم الله، بل ويعانون أزمات نفسية إزاء أى تغيير حتى لو كان فى محل الإقامة، فما بالكم بتغيير نظام كامل كانوا من أهم أعمدته وبُناته وحُماته وحراسه؟! أما الشعب فليس بريئا أيضا من تلك الإشكالية، حيث لم يدرك قطاع كبير منه أن عليه دورا هاما فى حماية ثورته التى هى أمله الوحيد فى النجاة بنفسه وبأبنائه من بعده، وبدلا من أن يكونوا متمسكين بأهدافها التى فيها صلاح دنياهم، فقدوا صبرهم سريعا، بعد أن كانوا من أكثر الأمم صبرا، وراحوا يصدقون من خدعوهم سنين طويلة، وانساقوا خلف حملات التشويه والتشكيك والتخوين والتخويف والإرهاب، فجزع العديد من أبناء الشعب من تبعات الفترة الانتقالية وما يحاك فيها من مؤامرات، وبدلا من أن يطالبوا الحكام بالرشاد، راحوا يطالبون الثوار بالخنوع. وبعد ذلك التخبط الذى ضرب الدولة إما عمدا أو غفلة، لا يبدو فى الأفق حل سوى إعادة هيكلة العقول جميعها، ليعود إليها إدراكها من جديد، بأن هناك ثورة اندلعت، ورجَّت أركان الدولة رجًّا، ولن يعود لها الاستقرار أبدا إلا بإكمالها، وتحقيق أهدافها كثورة، وليست كأزمة، عندئذ تصبح وزارة الداخلية هى حارسة الوطن والشعب من الداخل، وتعود القوات المسلحة هى ابنة الوطن الأثيرة وحامية حدوده، وتعود الحكومة راعية الدولة ومدبرة شئونها، ويعود المواطن ذخيرة كل هؤلاء وظهره ومموله وسنده، وتعود مصر كما كانت عبر العصور صبية بهية، يعشقها أبناؤها فى السراء والضراء وحين البأس، ويرمقها العرب بإعزاز واعتزاز كحامية وحاضنة وشقيقة، ويحترمها العالم كحضارة عريقة، وحاضر ناهض.