ينادينى (يا بنى) ويسقط مغشياً عليه.. ينطلق صوتى بقوته لاستدعاء الصول فتحى دقائق وسيارة الإسعاف تحمله إلى أحد المستشفيات القريبة.. فضولى دفعنى لكى أعرف حكايته قبل أن تحملنى الإجراءات الرسمية المملة إليه.. تتدفق الكلمات من فم فتحى كالسيل تزيح الستار عن عذاب إنسانى من نوع جديد.. رجل تعدى الستين بسنوات لا يملك من الدنيا بعد وفاة زوجته إلا (على) ابنه الوحيد عشرون عاماً قضاهم عم إسماعيل أما حنونة وأبا يرعى طفله الوحيد تنفطر دموعه إذا يوما شعر بألم.. كتم كل رجولته واستمتع بعالمه الصغير المحدود مع (على).. طلبات (على) أوامر ليست قابلة للمناقشه مهما كلفه الأمر.. اشترى لعلى الموبايل قبل أن يمتلكه، حقق حلم ابنه فى امتلاك سيارة وهوما زال يدرس ولم يفكر كيف سيدبر أقساطها. يبتلع الصول فتحى ريقه ليلتقط أنفاسه التى جفت من الكلام. يستأذن لتناول كوب الماء الذى يلاصق فنجان قهوتى فلا أمانع حتى يكمل حكايته المؤثرة.. دقائق وتأتى إشارة من المستشفى أن عم إسماعيل مضرب عن الطعام.. أمسك نظارتى الشمسية ومفاتيح سيارتى التى أهداها لى والدى رحمه الله يوم حصولى على الليسانس، وقتها كنت أرى أننى تأخرت فى امتلاك سيارة وشعرت أنى والدى لم يفعل إلا الواجب.. لم أختلف كثيراً عن (على) كلنا (على)!! وعاد الصول فتحى لينفرد بأذنى طوال الطريق للمستشفى ليكمل مسيرة الحكى تلمع عينيه وتحمر وجنتيه ويتهدج صوته متقمصا دور العالم ببواطن الأمور فلولا بحر الدلع الذى فاض من عم إسماعيل لابنه لما حدث كل هذا.. حاولت أن أظهر علامات الدهشة لكن فتحى لم يعطنى الفرصة وسكب بقيه الحكاية دفعة واحدة.. ظن عم إسماعيل أن دوره انتهى عندما تخرج (على) من الجامعة ووصل به إلى بر الأمان، لكن الأمور تحولت لطريق مسدود عندما طمح الابن البار فى اجتياز امتحان السلك الدبلوماسى وقتها طلب من والده تسوية معاشه، والتوقف عن عمله فى أحد المطاحن بعد الظهر ليوفر له كل ما يطلبه فعمله لا يليق بطموح (على).. لم يجد عم إسماعيل مفرا من الانصياع لرغبة ابنه الوحيد.. والغريب أنه ألح فى بيع ما تبقى لوالده من أرض زراعية ليقيم مشروع حتى يتحول أبوه لرجل أعمال.. كله علشان خاطر عيون (على).. ارتدى عم إسماعيل قناع رجال الأعمال ليبدو على الموضة.. أخيرا وصلنا للمستشفى، وجدته منزويا ملتصقا بالسرير ينكمش جسده داخل روحه فيبدو بائسا.. تنير جبهته علامات الطيبة فى زمن لا تشفع القلوب البيضاء لأصحابها.. سلمت عليه فابتسم ابتسامة زاهدة فقلت له افتح قلبك يا عم إسماعيل كلنا ولادك.. لماذا تضرب عن الطعام وسنك لا تحتمل؟ نظر فى عينى نظرة اربكتنى كأنه يعاتبنى على سؤالى.. تسقط دمعة كانت متحجرة أبت أن تنهمر مع فيض دموعه الماضية لم يصدق نفسه.. كيف باعه (على) رغم أنه اشتراه بكل ما يملكه عمره وماله وراحته طردنى من البيت الذى شهد سنوات زواجى وعمرى كله وأريد أن أموت بين جدرانه.. غلطتى أننى كتبت كل ما أملكه باسمه.. بيدى كتبت نهايتى.. يريد أن يشترى شقه فى مكان راق يليق بعمله الجديد فى الخارجية يقنعنى أن بيت المسنين (ونس) وسأجد راحتى هناك.. فالجميع فى مثل عمرى وهو لن يتفرغ لى لعمله المتواصل وأسفاره.. ألا أستحق أن أختم حياتى فى بيتى.. بين ولدى وأحفادى؟ ألا أستحق أن أنام بلا خوف وأنا فى نهاية عمرى؟ سأواصل إضرابى عن الطعام حتى يرق قلب (على) أعرف أنه يقسو أحيانا علىّ.. لكنه طيب سيأتى ليأخذنى إلى بيتنا سأنتظره.. تركته وقلبه ملىء بالأمل.. لكنه مستحيل..