كان انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى فى تسعينيات القرن الماضى نذيرًا بتحول العالم إلى كوكب تحكمه قوة عظمى منفردة هى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد مارست أمريكا قرابة عقدين من الزمان هذا الدور بشكل أساء لعلاقاتها بالعالم كله فشنت الكثير من الحروب؛ فى أفغانستان والعراق، والبلقان؛ كما استخدمت أجهزتها المخابراتية وقدراتها الاقتصادية، وحلفاءها الأوربيين الذين عاملتهم كدول تابعة فى تكريس سلطانها وهيمنتها على العالم أجمع دون مراعاة لكرامة الدول أو حقوق الشعوب. ووضعت خططًا لإضعاف أى قوى عالمية أخرى، يمكن أن تنافسها فى المستقبل فحجمت التفوق الاقتصادى الياباني؛ وحاربت بشراسة النجاح الصينى فى زيادة نسبة النمو الاقتصادى والتجاري، وحتى حلفائها فى الاتحاد الأوروبى مارست عليهم التجسس، ووضعت الخطط لتأكيد تبعيتهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية لها؛ وبالنسبة لروسيا الاتحادية فقد نزعت الولاياتالمتحدة جمهوريات البلطيق "لتفيا واستونيا وليتوانيا" إلى جانب جمهورية فنلندا ذات الموقع المتميز على بحر البلطيق وألحقتهم بالاتحاد الأوروبى محجمة بذلك السواحل الروسية على هذا البحر الذى يصلها بشمال غرب أوروبا فكادت تتحول إلى دولة آسيوية، ثم تحولت إلى جمهورية أوكرانيا فى الجنوب الشرقى لتنتزع من روسيا حقول القمح الشاسعة والموقع البحرى الباقى فى المياه الدافئة على البحر الأسود والذى تعد القاعدة البحرية فى شبه جزيرة القرم أكبر وأهم قواعد الأسطول الروسي؛ وقد غامر الغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة بمحاولة تقليم أظافر روسيا الاتحادية إلى درجة الإذلال معتمدة على حالة الانهيار التى أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي، ولعلها لم تتابع الجهود الأسطورية التى قامت بها روسيا الاتحادية لتستعيد مكانتها كقوة عظمى، كما أن غرور القوة جعلها تتجاهل ظهور شخصية تملك كل عناصر الزعامة الوطنية وخبرات تراكمت عبر سنوات مارست هذه الشخصية فيها أعمال المخابرات ودخلت دهاليز السياسة الدولية إلى جانب امتلاكها لكاريزما شعبية وشعور وطنى عميق تلك هى شخصية فلاديمير بوتين رئيس جمهورية روسيا الاتحادية. ورغم أن بوتين كشف عن شخصيته القوية داخليًا بالحفاظ على سلطته وتوفيق وجوده فى أعلى مراتبها مع نصوص الدستور وخارجيًا فى فترته الرئاسية الحالية حين وقف بحزم ضد ضربة عسكرية أمريكية لسوريا؛ وتأكيد القوة الاقتصادية لروسيا بعقود الغاز مع الاتحاد الأوروبي؛ وارتفاع نسبة التجارة بين روسيا وأوروبا خاصة ألمانيا، فإن الغرب اندفع فى المغامرة الأوكرانية ومحاولة ضم أوكرانيا إلى اتفاقات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبى تهدد بوضوح أمن روسيا القومى واستخدموا المال والدعاية الإعلامية لتمكين نظام حكم موال لهم ومعاد لروسيا فى أوكرانيا. ولم يكن من الممكن أن تقف روسيا مكتوفة الأيدى أمام هذه المحاولات وفى ظل زعيم حقيقى يتمتع بالشعبية والخبرة والجسارة ويملك من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية ما يكفل له الصمود والانتصار؛ وكانت شبه جزيرة القرم وهى مقاطعة روسية عبر التاريخ منذ عصر القيصرة كاترين، ودارت فيها وعليها حروب متعددة بين روسيا والإمبراطورية العثمانية وتحالفات للدول الأوربية مرات عديدة تمسكت فيها روسيا بشبه الجزيرة وقاتلت فيها ومن أجلها؛ وحين ضمت إداريًا لجمهورية أوكرانيا فى ظل الاتحاد السوفيتى عام 1954 لم يكن هذا الضم أكثر من نقل تبعية إقليم ما من محافظة إلى أخرى داخل الدولة الواحدة؛ ومعظم أهل شبه الجزيرة من الروس المتكلمين باللغة الروسية. وقد اشترطت روسيا منح شبه الجزيرة حكمًا ذاتيًا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ ولذا أسرع برلمان شبه الجزيرة بالاستفتاء على الانضمام لروسيا عندما نجح الغرب فى تمكين نظام موال له ومعاد لروسيا فى أوكرانيا؛ وتسارعت خطى بوتين فى ضم شبه الجزيرة؛ رغم الجنون المثير للسخرية الذى مارسته دول الغرب وتهديداتها المضحكة بفرض عقوبات على روسيا الاتحادية مثل تجميد أموال بعض الأفراد ومنع سفر بعض رموز النظام الروسى إلى دول الغرب أما تهديداتهم بالمقاطعة التجارية والاقتصادية فهى هراء سوف يضر بهم أكثر مما يضر بالروس. فمن الصعب الاستغناء عن الغاز الروسي؛ ولو حدث فستجد روسيا أسواقا له فى الشرق "الصينوالهند" والاكتفاء الذاتى الروسى من المواد الأساسية لا يضاهيه اكتفاء ذاتى فى أية دولة أخرى؛ كما أن استعادة روسيا لدورها كقوة عظمى مواجهة للولايات المتحدة سيجمع حولها عشرات الدول من العالم الثالث التى عانت طوال العقدين الماضيين من طغيان وغباء قطب واحد؛ كل ذلك استطاع زعيم تاريخى أن يحققه بصورة غير مسبوقة فى التاريخ فلم يحدث أن استطاعت قوة إمبراطورية سقطت أن تستعيد عظمتها وتأثيرها بهذه القوة وتلك السرعة. ولكنها شخصية الزعيم التى تعطى آثارها فى تجميع قوة وقدرات الشعوب والتى لا يمكن إنكار دور الفرد المتميز فى صناعة تقدم الأمم وحشد قدرات الشعوب وغرس روح الانتماء الوطني؛ مهما تشدق أنصار الماركسية بتجمع القوى العاملة "البروليتاريا" أو تباهى الليبراليون بقدرات الأحزاب والتجمعات الفكرية والسياسية فبدون الزعيم المتميز تتفكك قدرات الجماعات؛ وينفرط عقد الشعوب؛ وقد عاشت البشرية عبر تاريخها كله هذه الحقيقة، فقد حققت فرنسا أعظم انتصاراتها بقيادة بونابرت، ولولا زعامة تشرشل لهزمت بريطانيا أمام هتلر. وحققت مصر أعظم تقدم لها فى العصر الحديث تحت زعامة عبد الناصر، ووضعت الهند أسس تقدمها بزعامة نهرو؛ وسوف تعود روسيا قوة عظمى موازية إن لم تكن قوة أعظم تحت زعامة "بوتين"