لعل الحراك الثوري الشعبي يستدعي وقفة تأمل في انعكاساته على مستقبل الثقافة في مصر بأسئلة هذا المستقبل واستحقاقاته، وفي طليعتها قضية الحداثة وجدلية المجتمع والدولة وضرورة التصدي لأي فريق أو طرف يسعى لتحويل الدين بكل جلاله ومكانته وحضوره المتوهج أبدا في نفوس المصريين إلى أيديولوجيا تلفيقية سلطوية توفر غطاء من شرعية كاذبة وتبرر التبعية وتنتج وعيا بائسا وتكرس التخلف. والإسلام كان ومازال وسيبقى أسمي وأعظم من الزج به في أتون أي صراعات سياسية أو منازعات على السلطة ولاحاجة لاستعادة ماهو ثابت ومعلوم حول أصالة الفكر الإسلامي الذي صنع حضارة كانت إنجازاتها الثقافية والعلمية تشكل المدد للحضارة الغربية الحديثة، إنما هناك حاجة للبحث العميق في الأسباب التي أدت لانحسار المد الحضاري الإسلامي الذي أسهمت فيه مصر بالكثير. وإذا كانت هناك تساؤلات عما إذا كان ما حدث في الثلاثين من يونيو هو حراك في مسيرة البحث عن الهوية المصرية فإن الإسلام هو المكون الرئيس الذي يتصدر ثوابت هذه الهوية ويثريها تماما كما أن هذا الحراك التاريخي في سبيل الحرية سيترك آثارا عميقة على مستقبل الثقافة في مصر. فعشرات الملايين من المصريين الذين باتت توقيعاتهم ممهورة على الوثائق الحقيقية للثورة الشعبية المصرية بعرائضها المليونية المؤسسة للعقد الاجتماعي الجديد والقاعدة الأصيلة للجماعة الوطنية هم الذين سيصنعون الثقافة المصرية الجديدة. وبقدر حاجة المخاض الثوري المصري لأدوات فكرية جديدة لفهمه وتحليله بعيدا عن الأدوات التقليدية فإن ماحدث في حراك الثلاثين من يونيو الثوري يشكل نموذجا مصريا مبتكرا في الممارسات الديمقراطية وعلم التغيير الثوري على مستوى المنطقة وربما العالم وهو أمر ستكون له تداعياته العميقة في تشكيل مستقبل الثقافة المصرية. وتميز الحراك الثوري بالابتكار، يفيد بأن الثقافة المصرية الجديدة لايمكن إلا أن تكون قائمة على الابتكار والديمقراطية قلبا وقالبا ومتوثبة بروح الشباب وأفكاره غير التقليدية وخياله الثائر والرافض للسلوك المتردد والعجز عن الإنجاز والاكتفاء بردود الأفعال والذي لايمكن أن يرضى لوطنه بأن يقبع في خانة المستهلك لما ينتجه الآخر في الثقافة والعلوم والتقنية. وبعيدا عن "المتاهات اللفظوية" فهي ثقافة مكافئة للثورة البنيوية الشاملة في المجتمع المصري الرافض في أغلبيته لكل صور الاستبداد ولعلها ثقافة تنتجها أساسا قوى التغيير الشابة التي قادت حراك الثلاثين من يونيو الثوري ليتحقق أكبر حشد شعبي في تاريخ الإنسانية. ومن هنا فهي ثقافة لاتقبل بأي حكم فئوي أو سيطرة طرف ما على الفضاء العام للوطن ولا تنزلق لمستنقعات الدم والكراهية كما لاتقبل بإقصاء أي مكون أو طيف من طيوف الجماعة الوطنية المصرية أو تتوهم أن الحداثة تعني مخاصمة الدين ونبذ العقيدة. فالحداثة هي ثمرة التنوير كما أنها المكافئ للثورة العلمية والتقنية وهي السبيل لامتلاك أدوات القوة في هذا العصر وخاصة المعرفة ومن يرفضها إنما يبغي أضعاف مصر وحجبها عن سماء المعرفة ونزع وظيفتها الحضارية لتكون مجرد كيان طفيلي مستضعف أو في أفضل الأحوال تابع لإرادة الأقوياء. وهكذا فإن مستقبل الثقافة في مصر سيتوقف على طريقة التعامل مع أسئلة كبرى تتعلق بالالتزام بمبادئ البحث الحر في كل مجالات المعرفة الإنسانية والالتزام بالرؤية العلمية وإعلاء العقل واحترام حقوق الإنسان وعدم إقصاء "المغاير" أو رفض "الآخر" وضمان العدالة. ولعل مايبعث على التفاؤل أن إرادة المصريين تبرهن دوما على انحيازها الإنساني لقيم الحق والخير والجمال وهذا الشعب وليس سواه هو الذي سيصنع ثقافته الجديدة وحداثته المستوعبة لتراثه على قاعدة الحرية والكرامة والعدالة..إنها رحلة المسير والمصير، وإن طال الطريق وعظمت التضحيات..إنها رحلة شعب يصنع من أوجاعه سلاحا عذبا بطعم النيل!