في وقتٍ تعاني فيه مصر من أزمات اقتصادية طاحنة تحاول كريمة يوسف البالغة من العمر 47 عامًا أن تجد لنفسها ولأسرتها متنفسًا من خلال تجارتها في الكنافة، وهي تجارة تزدهر بشكل كبير في شهر رمضان، ولكن التضخم أفسد عليها فرحتها. عند مدخل أحد الدكاكين المغطاة بخيمة، تقف كريمة يوسف على ماكينة لصنع الكنافة في مدينة صغيرة بمحافظة الشرقية شرق مصر، تنتظر الزبائن لبيع الكنافة. وقد بدأت التحضير لاستقبال شهر رمضان قبل مجيئه بيومين، من خلال استخدام لافتة مكتوب عليها "الحلواني"، حيث تزدهر صناعة الحلويات، خاصة الكنافة والقطايف في هذا الشهر من كل عام. مشهد يبدو غير مألوف على صانعي الحلويات في هذه المدينة الصغيرة، فالنساء يعملن بجانب رجالهن أو أولادهن الكبار، ولكن كريمة قصتها مختلفة، حيث تقف بمفردها بجانب ابنتها البالغة من العمر ثلاثة عشر عاما وابنها وهو في العاشرة، وهي واثقة بنفسها لا تأبه لشيء. وهو ما فسًرته كريمة في حوارها مع DW عربية قائلة "لا أكترث كثيرًا كوني سيدة وحيدة، فزوجي توفى منذ 10 أعوام وترك لي مسئولية كبيرة وهي تربية الأولاد واستكمال مهمة بدأناها سويًا منذ 22 عامًا". المرأة المعيلة تشير إحصاءات رسمية إلى أن أكثر من 34% من الأسر المصرية تعولها النساء في ظل غياب الرجال، وأغلب هذه النسب تأتي من الأرامل والمطلقات، وهذه النسب آخذة في الارتفاع لا سيما في ظل ارتفاع نسب الطلاق في مصر وتدهور الأوضاع الاقتصادية فيها، ومع هذا فإن هذه الحقائق لا تنفي عدم رغبة معظم أرباب العمل قبول المرأة في العمل في ظل عدم توافر فرص لتدريبهن. فضلًا عن أن أغلبية هذه الشرائح من الطبقة الأكثر فقرًا، مما يضيف أعباء عديدة على المرأة، تجعلها تضاعف ساعات عملها، فيضطر بعضهن إلى اللجوء للاقتراض من أجل سداد الديون المتراكمة عليهن، وفي ظل غياب مؤشرات تحسن الوضع الاقتصادي في مصر، يظل مستقبلهن غارقا في الضباب. توفى زوج كريمة بسبب حادث أليم بعد حريق ألتهم جسده أثناء عمله في إعداد الحلويات، وهو مشهد لا يغيب عن ذاكرتها، خاصة أنها حاولت بشتى الطرق إنقاذه دون جدوى، وفاته كان حافزًا لها لاستكمال المهنة التي ورثتها عن زوجها، بعد أن ترك لها حملًا ثقيلًا وهو أربع بنات وولدان، منهم ولد من زوجة أخرى، مما زاد الأعباء عليها. كريمة عملت طيلة عشر سنوات على إعداد الحلويات في منزلها وبيعها للدكاكين والمحال، وفي شهر رمضان تصنع الكنافة فقط التي تعتبرها فرصة عظيمة لكسب الأموال، قائلة "أنتظر رمضان بفارغ الصبر كل عام لسداد الديون، وتجميع مدخرات لتزويج بناتي". وأضافت: "أستطعت أن أزوج ثلاث بنات ولم يتبق سوى بنت واحدة وولدان"، رغم الحياة الاقتصادية الصعبة التي عاشتها، ولكنها أصرت على تعليم أولادها ورفضت السماح لبناتها بالعمل، وأصرت على تحمل تكلفة المعيشة كاملة وكأن زوجها ما زال حيًا. مصدر قلق ومع اقتراب شهر رمضان هذا العام، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل ملحوظ ما أثر على حركة البيع والشراء في مصر، فقد أشارت الغرفة التجارية إلى ارتفاع أسعار 20 سلعة، وكلها من السلع التي يزداد الإقبال عليها في شهر رمضان. وتزداد المنافسة الشديدة بين البائعين والبائعات على التجارة الموسميّة، وهو التحدي الذي يقع أمام كريمة لجذب الزبائن، وبهذا السياق تقول: "يحاول المنافسون التأثير على الزبائن لعدم شراء الكنافة، ومع ذلك فزبائني يأتون إلى كما أنني لا أُغيّر المكان الذي أتواجد فيه، فأنا معروفة كوني امرأة وحيدة"، وهنا تذكرت كريمة ذكريات أليمة عند سؤالها عن منافسة تجار الحلويات لها، قائلة "منذ وفاة زوجي، حاولوا التحرش بي لفظيا، وعرض الزواج على وبسبب عدم الاستجابة لهم حاولوا تضييق الخناق على عملي لعدم استكمال المهنة"، هذه المضايقات دفعتها لممارسة المهنة من منزلها باستثناء شهر رمضان. ومع ذلك، فالمؤشرات في رمضان هذا العام تبدو مقلقة لكريمة، وتقول في ذلك: "مضى أسبوع على رمضان حتى الآن والناس في تناقص مستمر، وهي نسبة أقل بكثير من الأعوام الماضية"، وتابعت: "يستغل التجار زيادة الأسعار للغلاء المبالغ به للمواد الأولية التي تستخدم لصناعة الحلويات، وهو ما يجعل المواطن غير راغب في شراء السلع الغذائية في رمضان". وأضافت "فالمواطن يعطي أولوية لشراء السلع الغذائية الأساسية ثم يفكر في الحلويات خاصة بعد ارتفاع سعرها بشكل كبير"، فتراجع حركة البيع والشراء أصبح مصدر قلق يؤرق حياتها، في ظل اعتمادها بشكل كبير على أرباح شهر رمضان لسداد ديونها، وبالتالي لن تتمكن من سداد ديونها"، وتضيف: "أعتمد في هذا الموسم على ما يقرب من 50% من مبيعات العام بأكمله، وبالتالي فإن تراجع حركة البيع هذا الموسم سوف تؤثر على مدخرات العام كله". رفض المساعدة وتحصل كريمة على معاش من الدولة بعد وفاة زوجها، لذلك ترفض أية مساعدات من الجمعيات والأشخاص، موضحة "لدى عزة نفس تمنعني عن قبول المساعدة، حتى وإن كنت بحاجة إليها". رفضها للمساعدات أثار الشكوك لدى جيرانها، للحد الذي دفع أحدهم لاتهامها بالعمل في تجارة المحظورات، على حد قولها، موضحة "الناس لا تصدق أن امرأة يمكنها أن تربي أولادها لوحدها بعملها وجهدها دون مساعدة أحد". وتخشى كريمة في المستقبل من عدم قدرتها على الاستمرار في هذه المهنة، لذلك تسعى من الآن على تعليم ولدها طريقة عمل الحلويات لكي يتولى هذه المهمة، وهكذا يقف الولد بجانبها طوال الوقت. عند سؤالها عن حلمها في المستقبل، توقفت للحظات تلتقط انفاسها وكأنها تحلم لتقول: "كنت أتمنى أن أكبر في عملي ويكون لي فروع عديدة لمتاجر الحلويات تحمل اسمي". ولكنها تعود سراعًا إلى الواقع وتقول والدمع في عينيها "أرغب أن أحافظ على ما حققته، خاصة وأنني أعاني من خشونة في القدم، تؤثر على العمل، لذلك أضطر إلى أخذ مسكنات حتى أعمل بكامل قوتي في شهر رمضان"، ورغم ذلك، ترى كريمة أن جزءًا كبيرًا من مهمتها في الحياة نجح بعد زواج ثلاث من بناتها وأنها لن تتوانى في استكمال تلك المهمة. هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل