حسنًا فعل الرئيس الأمريكى باراك أباما عندما تجنب توجيه أى اتهامات لأحد، أثناء كلمته الموجزة إلى الشعب الأمريكى حول تفجيرات بوسطن، خاصة وأن درس حادث أوكلاهوما ليس ببعيد، فبعدما وجه أصابع البيت الأبيض والاستخبارات الأمريكية المباح الفيدرالية الأمريكية أصابع الاتهام إلى العرب والمسلمين محملة إياهم مسئولية الحادث، فوجئ الجميع بأن الإرهابى هو من داخل البيت الأمريكى، أن منفذ الحادث ماك تيموثى هو أحد العناصر الفاعلة فيما بات يعرف فى وسائل الإعلام الأمريكية ب "الصهيونية المسيحية". ويُعَدّ كتاب Forcing of God's Hand أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكى والتى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسى الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة غريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة). والكتاب عبارة عن إجابات على أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من فعاليات دينية ومراجع كنسية أمريكية مختلفة. وتتصدى فيه غريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصّرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثّلون اليمين المسيحى المتطرف فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، والذى يُعرف إعلاميًّا ب(الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسى الدينى فى العقد الأخير ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصّرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدّون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يُعدّ أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف ب(حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكى، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينيًّا والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدّون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصّرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجّل بظهور (المسيخ الدجّال) وجيوش الشر، ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلّص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملىء بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهن بعودة المسيح فقط، أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثَم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيونى؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلّص. السياسة والدين والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم؛ لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلّص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيخ الدجّال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتبارها وسيلة تحقق النبوءة فقط. هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الدينى المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية فى الكيان الصهيونى واستغلوها جيدًا للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد، وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحى المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يُدرّه عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسى واقتصادى غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيونى، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكى بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعًا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكى يؤمن بهذه النبوءة، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولاياتالمتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكّام ولايات، بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمى كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة، بل إن الأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية. دور الإعلام وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تُدِرّ مليارات الدولارات سنويًّا على نجوم التنصير التوراتى، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا)، فقد أسس شبكة البث المسيحية CBN، وشبكة المحطة العائلية إحدى أكبر الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحى الذى يُعَدّ الأوسع نفوذًا وتأثيرًا فى السياسية الأمريكية، بما مكّنه من الترشيح فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحًا لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح. وتُعَدّ برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيرى فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كراوسى، وتشال سميث، وروبرتسون، وبيوكاتن، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولاياتالمتحدة. كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجًا رهيبًا فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصّر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصّرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولاياتالمتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدّون التى بشّرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلًا عن تل أبيب بمسافة 15 ميلًا من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!. وتحلّل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوة نهاية العالم الموشكة فى الهرمجدّون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغربية التى دفعت ببعضها إلى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلّص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة، والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحارًا جماعيًّا لأتباعه أيضًا فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبّر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات. ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحى المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى على الرغم من التناقض العقائدى بينهما، العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد والمطلق رغم الكراهية المتبادلة!.