وقع الاختيار على مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري لتكون عاصمة الثقافة العربية لهذا العام وسط توقعات أن تشهد الفعاليات إقبالا كبيرا وملحوظا نظرا لما تتمتع به هذا المدينة من مكانة تقافية وتاريخية في الوجدان الجزائري. وحسب موقع "سكاي نيوز"، فهي مدينة لا تثرثر كثيرا ولا تأبه بالإعلانات الدعائية ولا بالبرامج السياحية.. لا تعرض نفسها على الشاشات ولا تبحث لها عن موقع في جوجل أو في كتاب جينيس.. هي تكتفي فقط بكنوز الحضارة التي بين أحضانها ولا تلجأ إلى الجراحة التجميلية لتغريك.. تفتح يديها لاستقبالك دون ضجيج وتتزين ككل الجميلات بسحرها الطبيعي وفقط. من كان ليجرأ على بناء مدينة فوق صخرة من الكلس؟.. ومن هذا الذي قرر أن يشيد أعلى جسر حجري في العالم بين قمتي جبل؟ القصة لا تبدأ من هنا.. ولكنها تغوص بتفاصيلها فيما قبل التاريخ بكثير.. يمكنك زيارة ما يسمى اليوم بكهف الدببة لتتعرف على قبور سبقت الحضارة إلى هذا المكان.. أو اختر ما يعرف بكهف الأروي لتكتشف تحفا أثرية نسج خيوطها الإنسان القديم، قرونا قبل وصول المؤسسين الأوائل في القرن العاشر قبل الميلاد. كانوا يسمونها سيرتا.. وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على مدينة اختارها ملك نوميديا مسنيسا لأن تكون عاصمة للأمازيغ وحصنهم المنيع ضد جيوش قرطاج.. هي أيضا من احتضنت الملك يوغرطه ومن حولها الرومان إلى أحد أبرز مراكز الحضارة في زمنهم. بعد هذه المرحلة تداعت الجدران وانهارت القصور لتنتظر سيرتا القرن الرابع الميلادي كي تولد من جديد على يد الإمبراطور قسطنطين الذي منحها اسمه وأعاد إليها الحياة.. ولكنها سرعان ما دخلت مجددا في مواجهة الوندال والبيزنطيين.. ثم جاءها العرب وقبائل بني هلال وبعدهم العثمانيون فالفرنسيون.. وها هي اليوم تقف بآثارها وتاريخها لتقدم نموذجا فريدا لتعدد الهويات وتنوع المشارب وتميز المسارات. إذا اقتطعت تذكرة لزيارة هذه المدينة فستستقبلك بمشاهد لن تجدها في أي مكان آخر.. ستفاجئك قسنطينة بجسورها المعلقة التي لا مثيل لها عبر العالم.. من جسر القنطرة الذي أسسه الرومان قبل قرون طويلة، إلى جسر سيدي راشد الذي صممه المهندس الفرنسي أوبين أيرو في بداية القرن الماضي.. ستفاجئك أيضا قسنطينة بأبوابها الأثرية السبعة وبمساجدها التي يعود أقدمها إلى القرن الحادي عشر من الميلاد.. ستتعرف لأول مرة ربما على أسواق يسميها أهلها بالرحبات.. هناك رحبة الجمال وأسواق الخرازين والعطارين والصاغة والصباغين. في هذه العاصمة التي تمردت عن التاريخ بحروبها الطويلة وعن الجغرافيا بموقعها الاستثنائي.. ستحدثك قصور البايات الأتراك عن المعمار العثماني.. وتحدثك موسيقى "المالوف" عن الأندلس.. وتحدثك روائع مالك حداد عن الأدب في زمن الفرنسيين.. وستجد نفسك أمام مزيج ثقافي صنعه الأمازيغ والرومان والعرب واليهود والأتراك والأوربيون.. وتلونت روحه بالإسلام الذي حول قسنطينة إلى مركز إشعاع ديني ومنحها اليوم لقب المدينة المحافظة بامتياز بين كل مدن الجزائر. هذه هي عاصمة الثقافة العربية لعام 2015.. خلاصة لحضارة الإنسان في شكل مدينة.. ومدينة تتقاطع بين شوارعها ثقافة العالم كله.. وهل الثقافة إلا محطات تقاطع ولقاء بين تجارب تختصر الزمان والمكان فوق صخرة من الكلس.