عملت مع قناة "الجزيرة" أربع سنوات مراسلا تليفزيونيا من مقر الأممالمتحدة في نيويورك، وتحديدا ما بين الأعوام 2006 ونهاية 2010. وأؤكد أن جزيرة ما قبل 2011 تختلف تماما عن جزيرة ما بعد 2011. فمنذ ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، تحولت الجزيرة إلى بوق دعائية للعائلة الحاكمة في قطر وسياساتها وتحيزاتها، خاصة لصالح جماعة الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية أخرى شديدة التطرف. ولم يعد ل"الجزيرة" علاقة بالدور المهم الذي لعبته عند إطلاقها في العام 1996. في ذلك الوقت، لم يكن هناك أي منبر آخر سوى "الجزيرة" لعرض الآراء المعارضة للأنظمة السلطوية القمعية الحاكمة في مصر وسوريا والعراق وليبيا ودول أخرى عديدة. قبل إطلاق "الجزيرة" بنحو عام، تدخلت السعودية وأجهضت أول تجربة لإطلاق قناة فضائية ناطقة بالعريية تحاول تقليد نموذج ال"سي إن إن" في نقل الأخبار المباشرة الحية، وذلك عبر تقديم الدعم المادي لهيئة الإذاعة البريطانية وبدأ بث ل"بي بي سي عربي". وفور أن أرادت ال"بي بي سي" أن تختبر مساحة الحرية المتاحة لها، وأذاعت تقريرا عن أوضاع حقوق الإنسان المزرية في المملكة السعودية المحاطة بغلاف من السرية، سحب السعوديون المال وانتهت التجربة. قناة "الجزيرة"، وبعد انقلاب الابن على أبيه وطرده للإقامة في سويسرا، احتضنت طاقم العاملين في ال"بي بي سي عربي" بعد إنهاء عقودهم، وأصبحت أول قناة تناقش بصراحة انتهاكات حقوق الإنسان في العالم العربي والتعذيب في سجون ومشكلات الأقليات والخلافات القائمة تحت السطح في الدول العربية، والتي يسعى الإعلام الرسمي دائما إلى إنكارها والتصميم على أن الصورة وردية وكل الأوضاع على ما يرام. وكان شعار الجزيرة الرسمي، الرأي والرأي الآخر، يطبق إلى درجة كبيرة. طبعا كانت القناة دائما أداة في يد العائلة الحاكمة في قطر، فهم من يدفعون تمويل القناة السخي والمفتوح بلا حدود، مما مكن "الجزيرة" من بناء هيكل مهني وقدرات هائلة. ولكن في السنوات الأولى، كانت التدخلات السياسية تكاد تكون محدودة، وكان الاستثناء الوحيد هو تناول أي أوضاع خاصة بقطر على المستوى الداخلي. وكانت قناعتي أن قطر دولة صغيرة تحظى العائلة الحاكمة فيها بشعبية، وبالتالي ربما لا تكون هناك معارضة فعلا ولا توجد مطالب تحظى بشعبية وتدعو لإلغاء النظام الملكي، مثلا، وإقامة نظام برلماني منتخب وتعدد للأحزاب. فالعلاقة بين الأسر الحاكمة في دول الخليج وشعوبها تقوم على الإنفاق بسخاء على المواطنين الأصليين لتلك الدول الحديثة، مقابل عدم طرح أي أسئلة أو مطالب تتعلق بالمحاسبة وميزانية دخل البترول وطريقة توزيعها ونصيب أفراد العائلة المالكة. أما ما يجري منذ 2011 فلا علاقة له بقواعد المهنية والصحافة التي تعلمها مؤسسو "الجزيرة" من ال"بي بي سي"، وتحولت إلى بوق دعائية للأسرة الحاكمة في الدوحة، وتورطت في أحيان كثيرة في حض صريح على العنف عبر استضافة قيادات لجماعات إرهابية تحت مسمى السبق الصحفي. وبينما كنا نفخر جميعا بتغطية "الجزيرة" الموسعة لأحداث الانتفاضة الفلسطينية ومنحنا شعورا بأننا نتابع الأوضاع لحظة بلحظة في الأراضي المحتلة والتفاعل معها، أصبحت "الجزيرة" قناة تقتصر التقارير المذاعة فيها على صور للقتل والدماء، وربما توجيه عمليات القتال على الأرض في سوريا وليبيا واليمن، وفي مصر بشكل مختلف. وللأسف منذ انهيار "الجزيرة"، لم تتمكن أي قناة فضائية عربية أخرى من تعويض الدور الذي كانت تلعبه في تقديم صحافة تليفزيونية موضوعية ومتوازنة وتحظى بانتشار واسع ومصداقية. ال"بي بي سي عربي" و"فرنسا 24" وأخرى ربما يحاولون بجهد، ولكن يبقى التمويل السخي عائقا أمام تلك القنوات. خسارة "الجزيرة"، وخسارة أكبر بالنسبة لي، إعلامنا المصري المتنوع الذي استمعتنا به عامين ونصف العام بالكاد بعد ثورة 25 يناير 2011، ثم عدنا إلى عصر الإعلام الواحد والصوت الواحد سريعا منذ 3 يوليو 2013 بحجة مكافحة الإرهاب. ولم يعد النظام يكتفي بملكية الإعلام الرسمي كالتليفزيون والراديو والصحف، ولكنه توسع حتى أمم قنوات القطاع الخاص نفسها، ولم يبق للغالبية العظمى من القنوات أي مصداقية وفقدت نسبا كبيرة من المشاهدة بزعم أن المشاهد زهق من السياسة. الحقيقة أن المشاهد زهق من الكذب والنفاق والتدليس. كما أنه في ضوء الاستقطاب القائم وانقسام المواطنين إلى فرق ما بين مؤيد ومعارض للنظام، أصبح كل فريق يتابع القنوات التي تردد ما يؤمن به، وترسخ وجهة نظره، دون أي اعتبار لمعايير المهنية والمصداقية وبث المعلومات الموثقة. نحن في مأساة إعلامية، وإن كانت خسارة "الجزيرة" وانتهاء وجودها كقناة محايدة نهاية صارخة ومحزنة جدا بالنسبة لي على المستوى الشخصي لأنني انتميت للقناة، ودافعت عن دورها وحقها في البث بحرية لسنوات طويلة.