فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى انطلقت قناة الجزيرة فى قطر، وبالتحديد فى عام 1996، ليصبح هذا العام عاما فارقا فى مسيرة الإعلام العربى، حيث تحول من إعلام حكومى موجه إلى إعلام جدلى ممنهج، وتنبثق منهجيته من ولائه المطلق لمصداقية الخبر وموضوعية الحدث دون النظر إلى توافق هذه المصداقية وتلك الموضوعية مع سياسات الأنظمة فى الدول العربية، والتى سيطرت بشكل كامل على مجريات التغطيات الإعلامية فى كل الوسائط من إذاعة وتليفزيون وصحافة لتكون أبواقا ناطقة ومنشورات مقروءة وفق ما تريد الأنظمة الحاكمة وتصادف هواها. ومع كل التحفظات حول بعض أشكال الأداء المهنى حول قناة الجزيرة والتى قد تختلف معها ما شاء لك الاختلاف وتنتقدها كيفما شاء لك الانتقاد.. وربما يكون لديك بعض الحق فى هذا الشأن لأن الجزيرة فى معظم الأحيان تكون عينا راصدة لكل ما يحدث على الساحة العربية من أحداث متلاحقة، وربما لأن هذه العين قد عميت عن كل ما يحدث فى دول بعينها فى الخليج، وعلى رأسها دولة المنشأ «قطر» التى كبرت بها وحققت مكانة مرموقة على الخريطة العربية، وربما الدولية أيضا، فكانت بادرة غير مسبوقة تقلب المعتاد، وهو أن دولة تطلق قناة وهذا أمر طبيعى إلى قناة تطلق دولة. ومن المؤكد أننا بذلك لا نسىء لدولة شقيقة وعزيزة على كل مصرى لها الكثير من المواقف المشهودة على الساحة السياسية العربية ويكفى أنها قد حققت لنا جميعا أمنية عربية غالية طال انتظارها وهى اضطلاعها كأول دولة عربية بتنظيم مسابقة كأس العالم فى عام 2022. وإذا كانت الجزيرة قد أتت بمولدها قيما إعلامية جديدة انطلقت من حرفية متميزة ومهنية متفوقة لم تجد لها منافسا فى العالم العربى سوى الإذاعة البريطانية العريقة وقناتها التليفزيونية الجديدة، وطبعا أعنى الناطقتين بالعربية والتى حظيت بثقة المستمع والمشاهد العربى فى وقت افتقدت هذه الثقة بينهما والإذاعات والقنوات العربية على امتداد الوطن العربى من المحيط إلى الخليج وأبرزها إذاعة القاهرة الرائدة وما تلاها من محطات تليفزيونية كانت سبّاقة فى هذا المجال الإعلامى.. ووسط ما تشهده الساحة السياسية العربية من حراك ثورى تحول فى فترة وجيزة إلى ثورات كبرى استطاعت أن تقتلع أنظمة عتيدة كان اقتلاعها أمنيات مستحيلة التحقيق وكشفت من خلال انتفاضاتها ما كانت ترزح فيه هذه الأنظمة من فساد واستبداد وطغيان، هنا يبرز دور الجزيرة فى تغطية هذه الأحداث المصيرية والتى أضفت تحولا جذريا على الخريطة السياسية للوطن العربى خاصة أن هذه الثورات شملت كبريات الدول العربية وعلى رأسها مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وما يستجد فى قادم الأيام. ومازالت الجزيرة تمارس تفعيل دورها فى مساندة الثورات التى لم تصل بعد إلى تمام نجاحها وتحقيق أهدافها المنشودة لشعوبها.. وهنا نطرح تساؤلا واجبا: هل كان للجزيرة الدور الحاسم فى تحقيق ما انتهت إليه هذه الثورات فى مصر وتونس من نجاحات أطاحت بنظامى مبارك وزين العابدين؟ وهل يمكن أن تصل بهذا الدور فى الوصول إلى نفس النتجية الإيجابية للثورات المماثلة الدائرة رحاها فى اليمن وليبيا وسوريا؟ وتأتى الإجابة قاطعة بالإيجاب، حيث لم يقتصر دور الجزيرة على رصد الأحداث إنما تجاوزت ذلك لبث الثقة فى نفوس الثوار بعدالة أهدافهم ومشروعية مطالبهم وما يقطع بذلك هو إنشاء قنوات الجزيرة التفاعلية لتكون روافد للتواصل مع الشعوب الثائرة ومنها قناة الجزيرة مباشرة ومعها القناة التى فاجأتنا الجزيرة بانطلاقها هدية لثورة مصر وشبابها الأحرار «الجزيرة مباشر مصر» والتى صادفت قبولا مشكورا لدى الشارع المصرى حيث تهتم القناة بكل أخبار الشأن المصرى ومتابعة إنجازات الحراك السياسى المصرى بعد الثورة.. فهل ينتظر الثوار فى سائر البلدان العربية قنوات مماثلة كهدايا لثوارها؟ لنرى مباشر اليمن ومباشر ليبيا ومباشر سوريا، فإذا كان هذا الأمر حقا ورادا فإننا فقط نتساءل: هل كل هذا الاهتمام ينطلق من إحساس عروبى لعودة القومية العربية المعطلة منذ سنوات طويلة؟.. أم أن هذه العناية الخاصة جدا لتصبح قناة الجزيرة بكل باقتها الإعلامية هى بحق قناة الشعوب؟ إنه بالفعل والقول سر غامض والإجابة عن كل هذه التساؤلات تكمن فيما ستفسر عنه الأيام وربما الشهور وقد تكون السنوات القليلة القادمة لنتأكد جميعا هل الجزيرة حقا قناة الشعوب؟