من محاسن الصدف، ودواعى السرور بالنسبة إلىّ، أن أكتشف روائيًّا راسخ الموهبة، له رأى ورؤية إنسانية عامة، يفتح لى أبوابًا جديدة لتجربة بشرية مختلفة، فيضيف رصيدًا للفكر والفن، وقد استمتعت مؤخرًا بقراءة الرواية الأولى فى ثلاثية «دماء فى الشمس»، للروائى الصومالى نور الدين فرح، وترجمها عن الإنجليزية د.محمد فرغل فى سلسلة إبداعات عالمية الكويتية، وكان رأيى أن الكاتب الموهوب يستحق فعلًا هذا الاهتمام العالمى برواياته، الذى تبلور بشكل خاص، فى ظهور اسمه دائمًا فى قائمة المرشحين سنويًّا للفوز بجائزة نوبل فى الأدب. طاف نور الدين العالم تقريبًا، ولكنه لم ينسَ وطنه ولا مدينة كلافو فى إقليم أوجادين، التى تعلّم فى مدارسها، كتب ثلاثيته عن الصومال، مركزًا على الحرب مع إثيوبيا حول إقليم أوجادين عام 1977، الرواية الأولى المدهشة والمؤثرة بعنوان «خرائط»، وبطلها اسمه عسكر، أما موضوعها فهو بحث البطل عن هويته، وصراعه بين أمه البديلة مسرا، ووطنه الأم الصومال، بين خريطة الأم/ الجسد التى أنقذت الطفل اليتيم من الموت، وخريطة الوطن/ المكان، يبدو عسكر مثل هاملت صومالى، حائرًا، مترددًا، تصطرع داخله مشاعر الحب والكراهية، ويتنازعه حلم القلم أو خيار البندقية. تتعدد الضمائر التى تسرد من المتكلم إلى الغائب إلى المخاطب، كأنها تترجم أصواتًا متعددة فى عقل ووجدان عسكر، يحكى عن مسرا «التى يعنى اسمها مركز الأرض ويراها هو مركز الكون»، يرى نفسه امتدادًا لها، بل إنها تصبح حرفيًّا جزءًا منه، لا يمكن أن تنزعها إلا بآلام مبرحة، يصل نور الدين فرح إلى مستويات رفيعة حقًّا فى وصف تلك العلاقة الجسدية بين عسكر وأمه البديلة التى عثرت عليه، فقررت أن تختاره طفلًا، يعوضها عن أطفالها المجهضين، واختارها هو أن تكون أمًّا من بين أكثر من سيدة، لا يصمت إلا إذا حضرت مسرا. اندهش أهل كلافو من هذا الامتزاج، رأت مسرا فى داخل الطفل راشدا، ورأى الطفل فى داخلها طفلة صغيرة، قالوا لقد سحرته، زرعت شجرة تؤرخ ليوم وجوده، وزرعها هو فى قلبه بلا تردد، حكت له عن حياتها بلا خجل، كانت مجرد طفلة إثيوبية، من أصول نبيلة، تم خطفها، وصلت أخيرا إلى رجل ثرى، انتظر إلى أن صارت امرأة فتزوجها، لم تتحمله، قتلته، هربت، انتهت إلى أن تكون خادمة يستغلها الرجال، عمّ عسكر اسمه أوراكس، متعدد الزوجات، يتخذها عشيقة، تماما مثل معلّم القرآن أو أدان، الذى يعظ فى الصباح، ويختلس المتعة معها فى الليل. مسرا هى النموذج العظيم للمرأة الصابرة المتألمة، وكأنها كانت فى حاجة إلى مأساة الحرب بين الصومال وإثيوبيا لتضاف إلى حياتها معاناة جديدة، كان عسكر قد تركها فى سن السابعة إلى مقديشيو، ليعيش مع خاله المستنير، الأستاذ الجامعى هلال، وزوجته المحبة الرقيقة سلادو، انتقل إلى حياة أخرى أكثر تنظيمًا، حجرة مستقلة، وملابس نظيفة، وبدلا من الحياة البرية، انفتح على المحيط، فى مرحلة تالية، طاردته أسئلة الوجود والحياة والموت والدم، أصبح ممزقًا بين أن يكون جنديا فى جبهة تحرير أوجادين، أو أن يواصل دراسته حتى النهاية، وفى قلب الحيرة، وصلت إليه أنباء خيانة مسرا. قالوا إنها فى أثناء الحرب، أقامت علاقة مع جندى إثيوبى، وأنها نقلت إليه معلومات عن معسكر للمقاتلين الصوماليين، مما أدى إلى تصفية 600 منهم، يعانى عسكر من يومها كوابيس مزعجة، يتمزق بين الأم الجسد، والأم الوطن، يعيش ترددًا هاملتيًّا معذبًا، لا تحسمه إلا زيارة مسرا إلى مقديشيو، جاءت كلاجئة باسم مستعار، هاربة من أهل كلافو، مجللة باتهامات الخيانة والعار. فى منزل الخال كلافو تحدث المواجهة، تتأذى من مجرد شك عسكر فيها، تنفى التهمة البشعة، تقول إنها تنتمى إلى الصومال، تتحدث عن الناس الذين بحثوا عن قربان يعلقون فى رقبته الهزيمة من إثيوبيا، تتحدث عن اغتصابها جماعيًّا، مسرا أصبحت حطام جسد، يتعاطف معها هلال وزوجته رغم نفور عسكر، يدخلانها المستشفى لإزالة أحد ثدييها المصاب بورم سرطانى، يستعيد عسكر أمه البديلة، فيستعيد نفسه. ذات يوم، يعرف هلال وعسكر أن رجالا قدموا إلى المستشفى، أخذوا معهم مسرا بعد موافقتها، لم تعترض، ولم تكن خائفة، عثروا على جثتها فى ما بعد وسط مياه المحيط، انتزعوا قلبها، كان عسكر لحظتها محمومًا فى المستشفى، تبدأ الشرطة التحقيق، يصبح عسكر شاهدا عن أمه وحكايتها، مثلما هو الشاهد على وطنه ومحنته، تنمحى الفواصل بين المرأة والوطن، وبين الأم والابن، وبين الحلم والواقع، يرسم الروائى الفذ لوحته بكل الألوان، ينقل إليك الرائحة والحركة واللفتة والهمسة، السحاب الأبيض والمحيط الأزرق والأجساد التى اندمجت مع أجساد أخرى فى منامات عسكر، أشكال وألوان من البشر: امرأة مسحوقة فى كلافو هى مسرا، وامرأة مستقلة فى مقديشيو هى سلادو «معنى اسمها الصلاة»، زوج شرس هو أوراكس، وزوج عاشق هو هلال، اكتشف أن زوجته لا تنجب، فأجرى عملية ليكون عقيمًا مثلها. يتعاطف نور الدين فرح دون قيد أو شرط مع المرأة، يتغزل فى صمود النساء وأجسادهن وقوتهن وأوجاعهن، العجوز كارين أصيب زوجها فى الحرب، لم يعد قادرًا على الحركة، ظل ممددًا على ظهره لسنوات، أشرفت على رعايته مثل ابنها، كارين أم بديلة أخرى لعسكر، المرأة عند فرح هى الحياة نفسها، ليست أقل من الحياة. الحرب هى التى أفقدت عسكر والده الذى لم يره أبدًا، كان مقاتلًا فى جبهة التحرير، والحرب هى التى وصمت وقتلت مسرا، الآن على هاملت الجديد أن يحسم صراعاته، أن يكتشف نفسه ووطنه وهويته، أن يدرك أن خريطة الأم تفتح على خريطة الوطن، تبدأ رواية «خرائط» بمولد عسكر بالجسد، وتنتهى وقد ولد من جديد، بعد أن عمّدته التجارب الأليمة بدماء مسرا. يا لها من رواية عظيمة.. ويا له من روائى كبير.