كتب - محمد شرف الدين "أسرى حرب".. لم يجد حمدي سعيد، شقيق الطبيب المعتقل "أحمد سعيد"، ما يصف به معاناة أخيه في قبضة السلطات الأمنية المصرية سوى هذه العبارة، ولكن "المذهل" حقًا أنها قد لا تكون كافية للتعبير عما يقاسيه أحمد، باعتبار أن القانون الدولي ينص على معاملة أسرى الحرب بطريقة إنسانية في جميع الأحوال، وعلى توفير الغذاء والملبس والنظافة والرعاية الطبية وأماكن احتجاز آدمية للأسرى، طبقًا لاتفاقية جنيف الأولى 1929 والثانية 1949، وهو بالتأكيد ما لا يتمتع به أحمد وعشرات السجناء الآخرين في سجن العقرب شديد الحراسة، بل ربما كانوا يحلمون الآن بأن يصبحوا يوما ما "أسرى حرب". "معتقلون في ذكرى الشهداء" بضعة عشرات من الشباب يقررون الاحتفاء بذكرى رفاقهم الذين سقطوا ضحايا لرصاص قوات الجيش والشرطة بشارع محمد محمود في العشر الأواخر من نوفمبر 2011.. ينظمون وقفة سلمية صامتة على كوبري أكتوبر في 19 نوفمبر الماضي، لكنهم ربما لم يضعوا في حسبانهم أن من قتل رفاقهم في السابق، لن يتورع الآن عن الإلقاء بهم في غياهب السجون، فأحيانًا لا يكفي أن تقف صامتًا، بل قد يكون "الركوع" أمام ذوي النفوذ والجاه هو أملك الوحيد في البقاء على قيد الحياة. "جدران وهواء زنزانتي، والسجناء وأحاديثهم، تثبت لي بما لا يدع مجالاً للشك أنني لم أنتهج السبيل الخطأ، ومع مرور الوقت، أزداد يقينًا بذلك ".. رسالة "أحمد سعيد" من سجنه.
"من بلاد العمل إلى بلاد المعتقل" ربما كان أحمد سعيد - وهو يهبط من طائرته القادمة من مدينة فرانكفورت الألمانية في مطلع نوفمبر - يُمني نفسه بلقاء أهله، يتوقع تفاصيل سهرة مع أصدقائه، ربما كان يحلم ببعض الهدوء الراحة في إجازته بعد شهور طويلة من العمل في ألمانيا، ولكنه لم يكن يعلم بالتأكيد أن خطواته تسعى به نحو سجن العقرب. "أدخلوها بسلام آمنين" كما هو الشعار الذي تلاحظه في محيط المطارات والمعابر الحدودية المصرية، ربما كان قسم عابدين بحاجة لوضع لافتة تحمل ذات الآية الكريمة. اُقتيد أحمد عقب إلقاء القبض عليه بصحبة 4 من رفاقه إلى قسم عابدين، فيما تم اقتياد 9 آخرين إلى قسم قصر النيل. وفي عابدين اٌستقبل المعتقلون ال5 بالضرب والتعذيب، تحكي ذلك آثار حروق السجائر وصعق الكهرباء في جميع أنحاء جسد أحمد. كان هذا قبل أن يوضع في زنزانة التأديب" بسجن 15 مايو، ويدخل في إضراب كلي عن الطعام بدءًا من يوم 14 ديسمبر احتجاجًا على الاحتجاز المهين وسوء المعاملة، فكان عقابه الحبس في زنزانة انفرادية. "يعتقدون أن القضاء على الناس الذين يؤمنون بفكرة معينة يعني إمكانية القضاء على الفكرة في حد ذاتها".. أحمد سعيد
"أدوية وبطاطين تهدد الأمن القومي" ربما لاعتبارات تخص "الأمن القومي"، منعت إدارة السجن عن أحمد ورفاقه الأدوية والأغطية والملابس الشتوية في أجواء شديدة البرودة، يقضي فيها المساجين ليلتهم متوسدين أرضية رخامية تضخ الصقيع في عروقهم وعظامهم. كما رفضت الإدارة نقل الطبيب المضرب عن الطعام إلى المستشفى كي يتلقى الرعاية الصحية المناسبة لحالته التي تدهورت بشكل كبير في الفترة الأخيرة. ولكن - وفقًا لشقيقه - طلبت إدارة السجن من أحمد في 28 ديسمبر المنصرم التوقيع على ما يثبت عدم تعرضه لأي تعذيب أو سوء معاملة، بالإضافة إلى إعلانه إنهاء إضرابه عن الطعام، مقابل نقله إلى قسم عابدين مرة أخرى، والذي يبدو أنه صار أشبه ب"جنة" قياسًا بسجن 15 مايو. استقل أحمد سيارة الترحيلات، لا يعلم أين هو ولا أي طريق تسلكه الزنزانة المتحركة، لكنه لم يلبث أن أدرك الواقع سريعًا، فالمسافة ليست بعيدة بين "15 مايو" و"طرة".. لقد أوفى رجال الشرطة الشرفاء بوعودهم ونقلوه إلى سجن العقرب شديد الحراسة. "إنهم زمرة مسلحة من الجهلة وفاقدي البصر، وليس ثمة طريقة لشفائهم من جهلهم ما داموا يملكون الأسلحة والسلطة والقوة التي تمنحهم وهْم أنهم يملكون كل شيء، حتى المبررات".. أحمد سعيد .
"قبضة وشبر" إنها المساحة التي يعيش فيها أحمد بزنزانته رفقة 25 سجينًا آخرين، طبقًا لما رواه لأخيه الذي زاره لآخر مرة في 31 ديسمبر الماضي، والذي وافق اليوم ال18 لإضراب أحمد الكلي عن الطعام. "لم يكن يستطيع الوقوف على قدميه.. كان راكعًا على الأرض".. هكذا وصف المحامي حمدي سعيد حالة أخيه أحمد خلال اللقاء الأخير. يبدي حمدي تعجبه أيضًا من حجم الحراسة وقوات التأمين المحيطة دائمًا بأخيه ورفاقة، يضيف قائلًا "شوفت مساجين جنائيين منقولين من القسم للمحكمة في تاكسي، أحمد اتنقل في عربية ترحيلات أدامها مدرعة، ووراها مدرعة". "سأظل حبيسًا، حتى لو كنت خارج جدران السجن، وسنظل جميعًا حبيسي سجنهم الكبير، ولكنني فعلت ما فعلت حتى أشعر بأنني حر، وكي أسترد حريتي قبل أن تتحول إلى ذكرى فحسب، وحتى أحافظ على بصيص الضوء الأخير الذي انبثق عن الثورة".. أحمد سعيد "ألمانيا!" أرسلت السفارة الألمانية بالقاهرة وفدًا عال المستوى برئاسة أمينها العام لحضور جلسة محاكمة أحمد، والتي تلقى فيها مع رفاقه حكمًا بالحبس لسنتين، وذلك رغم أن الطبيب المصري لا يحمل الجنسية الألمانية، وأنه لا يربطه بهذه البلاد سوى عمله بها. كان هذا في ظل غياب تام لأعضاء مجلس إدارة نقابة الأطباء، الذين اكتفوا بالمراسلات المكتبية مع وزارة الداخلية والنيابة العامة، بالإضافة إلى توكيل محام للدفاع عن أحمد، الذي يحل موعد جلسته المقبلة أمام محكمة الاستئناف يوم 13 من الشهر الجاري. "أعلم أن الأمر يمكن أن يكون قاسيًا على أهلي وأصدقائي، وبخاصة وسط حالة الخوف والقلق التي تجتاحهم، ولكن علي أن أوضح لهم وللآخرين أن حرماني من الارتباط بالثورة ليس حلاً، ما دام الناس في السجون، عقابًا لهم على حلمهم بالحرية".. أحمد سعيد
"ضعف أم تواطؤ؟" يرى الدكتور طاهر مختار، عضو رابطة العاملية بالصحة، أن نقابة الأطباء لا تؤدي دورها كما يجب نحو أحمد سعيد وغيره من الأطباء المعتقلين في السجون المصرية على خلفية اتهامات سياسية. "النقابة حتى الآن لم تدعو لوقفة احتجاجية أو تقيم مؤتمرًا أو تتخذ موقفًا حقيقيًا للمطالبة بحرية الأطباء المغيبين في السجون دونما ذنب اقترفوه".. يقول مختار. "نيران تحت الرماد" "لا تنحني السُنبلَة إذا لمْ تَكُن مثقَلَة.. ولكنّها ساعَةَ الانحناءْ تُواري بُذورَ البَقاءْ.. فَتُخفي بِرحْمِ الثّرى.. ثورةً مُقْبِلَة".. يقول الشاعر العراقي أحمد مطر.