أشرت أمس إلى «الخلط» ومظاهر الاضطراب والفوضى العقلية التى تسكن أدمغة نسبة ممتازة من أعضاء اللجنة التأسيسية الدستورية وكيف تجلى ذلك (على نحو هزلى ومضحك أحيانا) فى مواضع وبنود مهمة عديدة من مسودة مشروعهم الدستورى الكارثى.. غير أننى لن أملّ من التذكير ولفْت الانتباه إلى أن الجهل وانخفاض المستوى الثقافى والتعليمى، وإن كان حاضرا ومؤثرا بقوة إلا أنه ليس الفاعل الوحيد فى صنع هذه الكارثة الوجودية التى ستهبط على رؤوس المصريين الغلابة، إذا ما مر هذا «الخبل الدستورى»، وإنما تحالف واختلاط الجهالة مع عقائد ظلامية متزمتة ومتحجرة تتوجس من منجزات مسيرة الترقى والتحضر الإنسانيين ولا تخفى العداء الصريح لحريات البشر وحقوقهم، زاد الطين بلة ولوّن الصورة بلون الزفت على الأقل. فإذا لم تكن النماذج والأمثلة القليلة التى انتشلتها من المسودة إياها وأتيت بها إلى حضرتك منذ بدأت الكتابة فى الموضوع، كافية لكى تدرك طبيعة هذه الخلطة الشيطانية وحجم المصيبة الدستورية السوداء الناجمة عنها فإننى أستأذنك أن أتوقف اليوم أمام بضعة ملاحظات عمومية (مع وعد بالتفصيل فى مقبل الأيام) أظنها لن تخفى عن عين كل من يقرأ بصبر وتأنٍّ نصوص وبنود تلك المسودة السوداء: أولا- لا بد أن يلفت نظرك كل هذه الثرثرة والرطرطة التى تستقر فى قلب اللغو والكلام الفارغ (دعك من الركاكة) التى صاغ بها الإخوة التأسيسيون الدستوريون البائسون مواضع وبنود عديدة كان يناسبها ويليق بها التكثيف والإيجاز. ثانيا- ومع ذلك فإن غواية الثرثرة وهواية الرطرطة يدهشك أنهما تختفيان فجأة من بنود ومواضع أخرى كانت تستلزم شيئا من التفصيل والتوضيح والتأكيد.. ومما يثير الريبة، بل ربما يقطع بسوء النية، أن هذا الإيجاز المعيب والاختصار المخل الذى يفتح باب الغموض والإبهام لا يظهر إلا فى نصوص تتحدث عن حقوق أساسية للمواطنين (كالحق فى السكن، مثلا)! ثالثا- أن الحريات والحقوق عموما يبدو الموجود منها فى المسودة كأنه تسرب إليها بالعافية، ومن دون اقتناع ولا إيمان حقيقى، دليل ذلك أن نسبة كبيرة من المواد التى موضوعها الحق فى الحرية (بكل أنواعها وتجلياتها) أو الحق فى العدالة والمساواة والحياة الإنسانية الكريمة، إما مكتوبة بصياغات مراوغة وملتوية تصيب سلامة الإقرار بها (نصوص الدساتير لا تخلق حقوق الناس ولا تخترعها وإنما تقرّ وتعترف بها فحسب) أو مزيَّلة ومرهونة بتحفظات وشروط ما أنزل الله بها من سلطان، قد تصادر أصل الحق وتقيِّده وتعطل إنفاذه فى الواقع.. وهناك قائمة طويلة جدا تحتوى على نماذج صارخة من هذه الصياغات الالتفافية لعل أهمها وأوضحها ما يخص حقوق المرأة والطفل وحق المصريين فى التمتع بحرية تعبير حقيقية وصحافة وإعلام حر ومستقل فعلا. رابعا- ويرتبط بالملاحظة السابقة ملاحظة أخرى تكملها وتجسد حقيقة العداء المرضى للحقوق والحريات الكامن فى نفوس وعقول أغلبية اللجنة الدستورية التعبانة، وأقصد ظاهرة تعمد الصمت والخرس والإصرار على تغييب بعض أهم ضمانات أو مستلزمات الممارسة الآمنة لمبادئ وقيم إنسانية عليا.. إذ ليس من قبيل الصدفة أبدا، أنك مثلا لن تجد فى بنود مسودتهم السوداء (231 بندا) أى إشارة إلى حظر وتجريم «التعذيب»، بل إن هذه الكلمة التى هى عنوان لمعاهدة أممية وقّعت مصر عليها لم تُذكر أصلا وأساسا، كما أن الدستوريين التعبانين هؤلاء ركبوا رؤوسهم التى يعربد فيها العدم، وقاوموا بعنف مثير للفزع وضع عبارة تفيد تحريم وتأثيم صور وأشكال «العبودية»! وللحديث بقية، غدا إن شاء الله.