بصراحة، لم أكن أتوقع إلا فضائح وكوارث ومخاطر وطنية وجودية ستتمخض عنها تلك الهيئة المشوهة التى جرت (للمرة الثانية) فبركتها فى الأقبية المظلمة لكى تتولى مهمة تفصيل دستور البلاد الجديد، بينما نسبة معتبرة من الأعضاء المجلوبين إليها يعانون من أمراض وإعاقات عقلية وفكرية وتعليمية تجعل مجرد وجودهم فى هيئة من هذا النوع الخطير عارًا حقيقيًّا وإهانة وطنية ثقيلة جدا. ورغم توقعى هذا، فإننى أعترف بأن أملا واهنا ظل يداعب أحلامى أن يسترها رب العالمين جل شأنه وتدركنا رحمته فى الوقت المناسب، فتدفن تلك الهيئة المخيفة كما دفنت شقيقتها الأولى، أو يحل على الجحافل الضارة الساكنة فيها عمى يعميهم عن حقوق الناس وحرياتهم فيكتفوا باللغو والإنشاء والكلام الفارغ ولا «يدستروا» العدوان على هذه الحقوق والحريات ولا يجعلوا اغتيالها أمرًا دستوريًّا واجب النفاذ وتكليفًا ملزمًا للمشرع وكل السلطات الأخرى، غير أن ما حدث حتى الساعة أن رحمة ربنا لم تهبط علينا بعد، كما أن عمى قلوب الظالمين لم يمتد إلى عيونهم وأبصارهم التى رأت مبادئ الحق والحرية فتهيجت نوازع الشر والعداوة الراقدة فى نفوسهم تجاهها فانقضوا عليها بوحشية وقسوة وجهالة يفضحها ما تيسر من أنباء وتسريبات نشرها أمس الزميل يوسف شعبان فى «التحرير» تحت عنوان «مشروع لجنة الحريات بالتأسيسية يضع قيودًا على الحريات». طبعًا المجال لا يتسع فى هذه العجالة السريعة لعرض وتوضيح كل المآسى والكوارث الحقوقية التى انطوت عليها بنود صاغتها لجنة فرعية من الهيئة الهبابية الدستورية المذكورة بشأن «الحقوق والحريات العامة»، لهذا فالعبد لله مضطر إلى انتقاء مثالين ونموذجين اثنين فقط من فيض هذه البنود والأوامر الدستورية الشاذة والمنحرفة والتى لم تعرفها أشد بلاد الدنيا تخلفًا وعيشًا فى الظلام. وأبدأ بصياغة بند كان يفترض أن يكفل ويقر (ككل دساتير مصر الحديثة) حقًا إنسانيًّا عمدة ومطلقًا وثابتًا وصار منذ فجر الحضارة أرفع وأسمى من أن يطاله فصال أو نقاش، ألا وهو الحق فى حرية العقيدة والاعتقاد، غير أن الفضلاء التعبانين أعضاء اللجنة «افتكسوا» تعبيرات وتحفظات جاهلة وقاموا بحشرها حشرًا فى هذا البند مما أدى، ليس فقط إلى تقييده، بل ألغاه عمليا واجتثه من أساسه. أما المثال الفاحش الثانى فقد ورد فى بند يتحدث عن حرية التعبير والصحافة، فإذا بمن صنعوه يصوغونه على نحو يجعله أعجوبة دستورية حقيقية، ربما نباهى بها أسوأ الخلق يوم القيامة. فالبند ذاك يبدأ بالآتى: «..لا يجوز توجيه الاتهام فى جرائم النشر بغير طريق الادعاء المباشر، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية (عقوبة السجن) فى مثل هذه الجرائم..». عظيم ورائع، أليس كذلك؟ لكن فى العبارة التالية مباشرة ماذا قال البند نفسه؟ استثنى حضرته من هذا الأمر الدستورى (أى عدم الحكم بعقوبة السجن) قائمة هائلة من الجرائم التى أقلها حقيقى، وأغلبها وهمى ومحض خزعبلات لفظية وضعت لتنطبق (تقريبًا) على كل فعل إنسانى له علاقة بحرية الرأى والحق فى النقد السياسى، ومن ثم أمر أمرًا معاكسًا بحبس وسجن كل من يرتكب هذه الأفعال، وقد تطرف العباقرة واضعو هذا البند فى الجهل والعداء للحرية، لدرجة أنهم ألغوا بالقوة الدستورية مكاسب حققتها الصحافة المصرية فى عهد المخلوع أفندى، مثل إلغاء عقوبة الحبس فى جريمة السب والقذف والاكتفاء كما يحدث فى الغالبية الساحقة من بلدان الدنيا، بفرض غرامات وتعويضات مالية كبيرة على مرتكبيها!