أبدأ بإشارة عابرة إلى الطرافة واللطافة الخرافيتين الراقدتين فى أحشاء «مسخرة» تعدد واختلاف نسخ مسوَّدة الدستور التى عكفت اللجنة التأسيسية السوداء إياها على تسويدها فى الظلام لكى تسود عيشتنا تماما ونهائيا، قبل أن تتكرم جنابها وتعلن نسختها الرسمية يوم 14 من الشهر الجارى، لكن هذه النسخة ما إن شاعت وأشاعت إحساسا بالصدمة والترويع فى أوساط خلق الله المصريين حتى خرج علينا «أعضاء تأسيسيون» مهمون يزعقون ويلطمون ويصرخون مؤكدين أن تلك المسودة المعلنة لا يعرفونها ولا عمرهم شافوا خلقتها قبل كده.. ليس هذا فحسب، بل سرعان ما ظهرت فى الأسواق مسودات سوداء عدة أخرى مختلف بعضها عن بعض، أبرزها وأهمها نسخة نشرها الأستاذ «الذراع الحزبية» للست الجماعة (حزب الحرية والعدالة)، بعدما جمع مادتها البائسة فى طبعة فاخرة تألقت بين دفتَى غلاف حريرى لامع جرى تنضيده وتزويقه وحنتفته حنتفة شديدة جدا استلزمت حذف وإزالة حرف الراء من كلمة «دستور» فصارت «دستو»، وكان ممكن جدا تبقى «ديسكو» لولا ستر ربنا! غير أن ظُرف وطرافة تعدُّد النسخ ليس شيئا يُذكر أمام البلاوى المتلتلة التى حُشرت فى كل هذه المسودات الدستورية المتنافسة فى القبح والركاكة والسوء، غير أن كثيرا منها -والحق يُقال- جمع بين طعم الكوارث المُر ومذاق الهزل المبتذل والكوميديا الرخيصة.. ولأن المجال يضيق عن ذكر ورص كل آيات المسخرة الفاقعة القاعدة فى مشروع «دستور» كتبَت بنودَه أغلبية مظلمة العقل وظالمة تكره وتعادى، وربما لا تفهم أصلا معنى الحقوق والحريات الإنسانية، فسأكتفى اليوم بنموذجين اثنين منها فقط (ربما يكونان الأقل خطرا وبشاعة) مع وعد بالعودة إلى باقى المخزون الهائل من تلك الكوارث والفظائع والنكت الدستورية، فى مقبل الأيام إن شاء الله. خذ عندك مثلا المادة الأولى من دستورهم وفاتحة كتابهم الأسود، إذا قرأت حضرتك صيغتها التعبانة فسوف يدهشك أنها تختلق من العدم المطلق قضية وهمية لم تُثَر أبدا ولم يقترب منها أحد فى كل مراحل تاريخنا الطويل، إذ حشروا فى نَص هذه المادة من دون مقتضى ولا سبب عبارة عجيبة تقول إن مصر «دولة موحَّدة ولا تقبل التجزئة»! كأن هناك مشكلة فى وحدة التراب الوطنى للبلد الأقدم والأعرق بين بلدان وأمم الدنيا جميعا، وأن «تجزئته» وتمزيق إقليمه الراسخ والمرسوم حدوده من آلاف السنين هو أمر مطروح وقد صار خطره داهما وتلوح بشائره فى الأفق فعلا، وكان ينتظر هؤلاء الغلابة فى عقولهم ليمنعوه بهذا اللغو الفارغ العبيط الذى إن لم يضر، فهو قطعا لن يفيد. أما المادة السابعة التى أجملت الأسس والمبادئ التى «يقوم عليها المجتمع المصرى»، فإن من صاغوها أصرُّوا وتعمدوا أن لا يذكروا فيها مبدأ ومطلب «العدالة الاجتماعية» واستبدلو به ما سموه «التراحم والتكافل الاجتماعى»! والمعنى والمغزى واضح طبعا، فمصطلح العدالة الاجتماعية يستند إلى مفهوم يجعل للمواطنين حقا ثابتا وأصيلا فى الثروة الوطنية ويفرض على الدولة والحكام اتباع نظم وسياسات اقتصادية واجتماعية تضمن عدالة توزيع عوائد النمو وحدا أدنى من الرفاه ومتطلبات العيش والحياة الإنسانية الكريمة للمواطنين جميعا، أما مصطلحات وكلمات من نوع «التراحم» و«التكافل» فهى تنقل الموضوع كله من نطاق الحقوق واجبة الاقتضاء وتهبط به إلى مستوى التسول و«الشحاتة» وتشجيع الأغنياء والمترفين على التحلى بشىء من الكرم ومحاولة تذكر الأغلبية الفقيرة بصدقات جارية من ثرواتهم المكتنزه يجودون بها طواعية دون إلزام أو إكراه مقابل الحصول على قصور فى الآخرة تعوضهم عن «الفيلات» والقصور التى شيدوها لأنفسهم فى الدنيا، وخلاص! أعود وأذكرك عزيزى القارئ، بأن المساخر والكوارث والبلاوى السوداء المسودة فى المسوَّدات الدستورية المعلنة والموجودة فى السوق حاليا، ليس لها أول ولا آخر.. وكل عام وأنتم بخير.