تخطئ حضرتك كثيرا لو ظننت أن المشكلة (أو المصيبة) الوحيدة فى عملية «فبركة» دستور البلد التى تجرى فى الظلام حاليا، أن هذه العملية تتولاها لجنة مشوهة بائسة، أوضح سماتها أن الأغلبية المهيمنة عليها لا تُخفِى عداءها الصريح وكراهيتها العميقة لفكرة الحريات والحقوق الإنسانية من أصله.. فالحق أن بؤس هذه اللجنة لا يعود فقط إلى تلك السمة وحدها، وإنما يتعاظم تشوهها وخطرها بسبب اختلاط وتحالف العداء والنفور من مبادئ وقيم عليا صارت راسخة فى ضمير البشرية وشرطا لازما للترقى والتقدم، مع انخفاض كفاءة مروع وأنيميا حادة وفقر مدقع فى التأهيل العلمى والفكرى والثقافى الضرورى للتعامل مع مهمة إنشاء وصياغة وثيقة خطيرة وعظيمة الشأن ترسم معالم مستقبل وطن ومجتمع ودولة المصريين. هذا التحالف والاختلاط بين سمتين مخيفتين تميزان حالة نسبة كبيرة من أعضاء تلك اللجنة الدستورية التعيسة، يبدو أثره واضحا جليا فى ما يسمونه «المنتَج» أو المسودة الأولى لدستورهم التى سودوها وأعلنوها منتصف الشهر الجارى، إذ تجمع هذه المسودة، إضافة إلى المضمون الشنيع (من حيث العدوان والافتئات على حريات الناس وحقوقهم وإرساء دعائم نظام ديكتاتورى عبيط) مظاهر ركاكة فاضحة وعشوائية مؤذية وتناقضات صارخة تشى بمستوى من الجهل يلامس حدود الأمية شخصيا. لقد انتقى العبد لله فى مقال سابق مثلا وآية واحدة من آيات الجهل التليد الذى يقطر وينزّ نزًّا من بنود المسودة السوداء تلك عندما أشرت إلى عبارة بلهاء حُشرت حشرا فى البند رقم (1) بغير سبب ولا مقتضَى، وإنما اختُلقت من العدم المطلق، مشكلة وحدة التراب الوطنى التى لم تُثَر أبدا فى كل مراحل التاريخ المصرى الطويل جدا، ومن ثم فإن إقحامها ووضعها فى مستهل دستور البلاد، ليس سوى غباوة محضة ولغو فارغ وهزل سقيم فى مقام الجد. غير أن هذه العبارة التعبانة ليست أسوأ ولا أخطر نماذج العشوائية والتناقض والجهالة فهناك أمثلة أخرى ترقد فى بنود ومواضع عديدة تبدو أفدح وأشد ضررا، لعل أكثرها إثارة للدهشة وتجسيدا للخيبة القوية ما يقوله العباقرة الدستوريون القاعدون فى لجنة البؤس فى شأن سلطات الرئيس (وهى شبه إلهية على الأقل) وسلطات الحكومة أو مجلس الوزراء، فرئيس الجمهورية طبقا لنص المادة رقم 156 هو وحده ومن دون شريك الذى «يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها».. لكن بعد صفحتين فقط من صفحات المسودة المنيلة بنيلة ينسى الإخوة الدساترة الغلابة ما قالوه فى المادة المذكورة، ويناقضونه كليا وتماما فى الفقرة الأولى من المادة 171، فتجدهم يتحدثون صراحة (ومن دون أن يهتز رمش تافه فى عيونهم الكحيلة) عن أن الحكومة وليس الرئيس، هى المختصة «بوضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها».. فأىُّ المادتين نصدق إن شاء الله؟! وعلى أى طريق ستسير الدولة المصرية؟ ومَن بالضبط الذى سيضع أُمّ سياسة حضرتها «العامة»؟! هل فخامة جناب الرئيس هو المسؤول عن «الوضع»، أم حكومة فضيلة سيادته هى التى «ستضع» وتقوم بالسلامة؟! ثم إنهم لم يحددوا مكان إجراء عملية «الوضع»، هل فى مستشفى الجلاء للولادة مثلا؟ أم فى مستشفى العباسية للعاهات والعلل والأمراض والتشوهات العقلية والنفسية؟! الله أعلم.. وللحديث فى هذا «القرف الدستورى» بقية، فى مقبل الأيام.